تقليد السعودية الجديد

لم تعد السعودية كما كانت، تداوي شؤونها وشجونها بالكتمان. خرجت على تقاليد الصمت. اختارت أن تفصح وتفضح. إعلامها الوفير والوفي لها، حذو الكلمة بالكلمة، ليس كافياً. مزَّقت الستارة التي تستر، وتقدمت المسرح الإقليمي بطريقة عسكرية، سبقها إليها في أواسط القرن الماضي جنرالات الانقلابات. تحتاج المملكة إلى جلبة سياسية وعسكرية لتثبت أنها هنا، وأنها ليست غافية. المال الذي أنفقته ليس مجانياً، جاء وقت الاستحقاق الكبير. دقت السعودية النفير، فلبى الكثير. فالناس على دين ملوكها، وعلى أموال أمرائها. لذا، جاءت التلبية وفق صيغة: «سمعاً وطاعة مولاي».

من حق البعض أن يعتبر السعودية مأزومة، وقد قررت أن تخرج من أزمتها إلى أزمة تستفحل يوماً بعد يوم. لا دليل يقينياً على هذا الاعتبار، فغيرها ليس مأزوماً فقط، بل يتنقل من كارثة إلى كارثة، وكلما خطا خطوة ارتكب خطأ إثر خطأ. المنطقة برمتها تسير إلى حتفها كالقطيع. الاعتياد على سير المعارك في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وعلى إيقاع التفجيرات الإرهابية في تونس ومصر، لا يقدم مبرراً لتضخيم الأزمة السعودية، أو أزمة دول الخليج. فغيرها في الحريق، فيما هي تشعل الحرائق.

بعيداً عن الأحكام القيمية، التي تطلق تأسيساً على شرعية أخلاقية أو قيمية أو إنسانية أو وطنية، وهي صفات خلت منها جل الأنظمة العربية، لا يمكن اتهام السعودية بالضعف. فهي مملكة مقاتلة بالسر، وتاريخها يشهد على اشتراكها بحروب الآخرين، تمويلاً وتسليحاً وتأييداً ودعماً، وكل ما أنجزته أنها خرجت إلى العلن، مع كل الضجيج المصاحب لها، لتتولى بنفسها معركة اليمن، لرده إلى بيت الطاعة، أو تدميراً ثمناً لتمرده.

السعودية، لقصر نظر لدى المتابعين، أو لعلة الاتهام المسبق الذي فطرنا عليه، كان ينظر إليها على أنها خزان أسلحة غير قابلة للاستعمال، وأن اقتناءها له هو لتشغيل آلة إنتاج الحرب الأميركية. أغلب الظن أن تبرئة السعودية من فنون الحرب واتهامها بأنها خزان لأسلحة ستصبح خردة، ليس بريئاً ويعمي البصيرة. السعودية دولة تسرِّب الأموال لشراء النفوذ، لكل راغب أو مشته أو صاحب مصلحة، ولكنها تقاتل كذلك، إما بالواسطة، وآثارها تدل عليها، وإما مباشرة، والوقائع في البحرين واليمن، تؤكد على نفسها العسكري، إذا عجز المال عن الإقناع. «فالسيف، أصدق إنباءً من المالِ».

تحظى السعودية بتأييد النظام العربي الرسمي. الدول العربية الرخوة، سارعت إلى تشكيل «تحالف» تقوده المملكة، كما تشاء وكيفما تشاء. الغرب لا يجرؤ على توجيه سؤال إلى قيادتها، فيما السلطة في السعودية، تحذِّر هذه الدول، من الاقتراب من السعودية، بأي إشارة إلى مسألة حقوق الإنسان. من لا يسمع كلام السعودية، يندم. حدث أن وزيرة الخارجية في السويد، ألمحت في تقرير لها إلى وضع المرأة في المملكة. غضبت السعودية فوراً. استدعت سفيرها، وأوشكت أن تلغي «شراكة اقتصادية مع السويد». طيَّر الملك السويدي اعتذاراً، وتقرر سحب كلام الوزيرة… لا يتجرأ أحد على نقدها رسمياً، والمطلوب مباركتها وتأييدها. الغرب يولول غضباً ضد التطرف والإرهاب، وضد انتشاره في بلاده، يتهم ويوجه إصبع اللوم إلى كل ما عدا السعودية، برغم معرفته بالتمويل الخليجي الرسمي والشعبي، لحركات «جهادية» فتاكة، سابقاً وراهنا.

لم تربح السعودية حرباً حتى الآن. خسرت في الملف النووي الإيراني. فشلت في وراثة صدام والأميركيين في العراق. سبقتها إيران إلى عاصمة الرشيد. تراهن على الحركات الجهادية الإسلامية في سوريا لإسقاط النظام. حققت تقدماً وأنتجت ركاماً. دعمت عبد الفتاح السيسي في مصر، ولكن مصر لم تلتحق بعد، فلا هي قطعت مع نظام الأسد في سوريا، ولا هي تخلَّت عنه. حرب النظام في مصر على «الإخوان»، هو نصف ما تريده السعودية. تريد من كل من ساعدته ودعمته وأغدقت عليه الأموال، أن يختار بينها وبين إيران وحلفاء إيران.

اللبنانيون على عاداتهم. من هو مع إيران، نبش تاريخ آل سعود وأعاد التذكير بحروبهم المذهبية، التي بلغت حد النية في تدمير قبر الرسول. فتحوا ملف الوهابية على مصراعيه، ونددوا بدعم المملكة للحرب في أفغانستان بواسطة المجاهدين الأفغان العرب، الذين تحولوا في ما بعد إلى رؤوس «القاعدة»، وذكروا بحروب أخرى أبرزها حرب صدام على إيران، بعد انعطافها إلى فلسطين بقيادة الخميني، وحرب الأميركيين على صدام، بعد اجتياحه للكويت إلخ…

أما من هم مع السعودية، فقد أضافوا إلى لعناتهم المصوَّبة إلى إيران البعدَ الفارسي، لإضفاء «شرعية عروبية» للجهاد السعودي «السني»، ضد «التغلغل الصفوي الجديد». ثم كالوا للملك الجديد المدائح والتبريكات والدعم والتأييد، على طريقة النصوص التي كانت تذاع بعد نجاح الانقلابات العسكرية البائسة. ولما انقلب الملك نفسه بعد أسابيع على قراراته السابقة التي أملاها على العالم، بعيد وفاة أخيه الملك عبد الله، لم يجد هؤلاء إلا النصوص نفسها لإغداقها على الحكمة والدراية والجرأة… وهلم جراً. هناك عطب في الذكاء. لذا، يصبح التقليد مقدساً.

الحقيقة في مكان آخر. بعد نكسة عبد الناصر في حرب حزيران، وانفضاض الأنظمة العربية عن فلسطين وعن قضايا الأمة والعروبة، عرف النظام العربي الحقبة السعودية المديدة، بلا منازع. دخل العالم العربي في حالة ركود. السعودية هي صاحبة الرأي وقاطفة المناسبات. يذكر أنه بعد دخول شارون بيروت، وإخراج «منظمة التحرير» من لبنان، طلع الملك فهد بمبادرة سلمية. وبعد «الجرف الصامد» الذي قاده شارون بعد باراك ضد الانتفاضة الثانية في فلسطين، ومحاصرة أبو عمار في «المقاطعة»، تقدم الملك عبد الله بمبادرة السلام العربية التي ماتت فور صدورها، على عتبة فندق «فينيسيا» في بيروت. كانت عباءة المملكة قد أممت النظام الرسمي العربي.

غير أن السعودية واجهت تحدياً غير مسبوق، وهو تحدي المقاومة المسلحة لإسرائيل بعد انكفاء البندقية الفلسطينية والوطنية واللبنانية. وهي مقاومة توالي تاريخها الحسيني المختلف، وتوالي الولي الفقيه الإيراني، وتوالي فلسطين، وتوالي من يوالي هذا المثلث، من الأنظمة والمذاهب. ولم تكن صدفة أن يواليها الشيعة وأن تواليهم حيث هم، في البحرين واليمن والعراق وسوريا و…

ظلت بندقية المقاومة الإسلامية خارج العباءة السعودية، ولهذه البندقية مرجعية نضالية حققت انتصارات ميدانية. ولهذه البندقية «فاتيكان» شيعي في قم الإيرانية، ولإيران نفوذ على شيعة المنطقة. فكيف تطمئن مملكة وفي خاصرتها شوكة حوثية؟

ماذا بعد؟ المشهد في بدايته.

من المسؤول؟ المنتصر سيحدد المرتكب. وإذا لم ينتصر أحد، فلا حول ولا… السعودية ماضية في حروبها مباشرة، وإيران ماضية في حراسة حلفائها. لم تعد القضايا هي الأساس. فالحرب حرب وجود، وحرب الهويات الدينية، والانتماءات المذهبية، وحرب النفوذ، وحرب القضاء على المقاومة أو الانتصار لها.

هل من بصيص؟ السماء العربية معتمة وكالحة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى