جذور العنف السوري (حسن الخلف)

 

حسن الخلف


ما الذي جعل معظم الأجنحة المسلحة للثورة السورية تتخذ أبعاداً دموية وتقدم صوراً بشعة من العنف والجرائم المضرة استراتيجياً بالثورة وشعبيتها؟ مثل محاصرة واستهداف بلدات «كالفوعة»، وبعض قرى ريف حمص، وأحياء بكاملها «كالسيدة زينب» بسبب لونها الطائفي وموقفها السياسي، والتهديد بتهجير ملل وجماعات، فرض قوانين سلفية على الناس، ونهب وتفكيك وتدمير البنى التحتية للاقتصاد السوري.
وما سر الغرور والخطاب العدائي والتكفيري غير المتوازن لمعظم قادة المعارضة ضد فئات معينة كالعلويين والشيعة في سوريا نفسها والمنطقة؟ ما الحكمة من معاداة قوى مؤثرة كإيران، وحزب الله؟ هذا فضلاً عن تكفير أو تخوين نصف المنطقة حتى قبل أن يصلوا إلى السلطة، وحتى قبل أن تبدأ ثورتهم! كأن قادة الثورة هؤلاء وناشطيها غير معنيين بكسب ثقة شعبهم، ومحبته، ليحاصروا النظام ويسقطوه.
من المؤكد أنّ هناك عناصر كثيرة تفسّر شدة العنف في الثورات والانتفاضات. منها مثلاً راديكالية البرنامج الثوري، كما حصل مع البلاشفة عشية ثورة اكتوبر 1917، حيث كانت الحرب الأهلية، والغزو الأجنبي، ودعوات تصدير الثورة، وتغيير العالم والزحف نحو معاقل الرأسمالية ودكها، من بين طروحات اليسار الثوري آنذك.
ولعل جملة من هذه العناصر والظروف وغيرها تسببت في عنف واسع حطم البلاد. على أي حال أنا لست من دعاة الثورات السلمية ومناخات السلام الكاذب، لكن المعارضة العسكرية السورية أبدت شراسة وعنفاً غير مرتبطين ببرنامج ثوري راديكالي كما يفهمه من يمكن أن نسميهم التقدميين الثوريين. فمتمردو الانتفاضة السورية الجهاديون بلا برامج ثورية تذكر، لا اقتصادياً، ولا جيوسياسياً ولا ثقافياً، حيث إنهم أظهرو ارتباطاً لا ينكر بأجندة الممولين الخليجيين، وقيادتهم الميدانية والاستخبارية التركية والغربية. ويبدو أن جزالة الدعم الخليجي أفسدت ثورة السوريين كما فعلت بثورة عرفات في لبنان وغيرها قبل أكثر من 30 عاماً، كما لا ينفك يذكّرنا أسعد أبو خليل.

عنجهية العنف الممول

سنحاول أن نجيب عن هذا السؤال من خلال الباحث في شؤون الحروب الأهلية (جيريمي وينشتاين)، الذي حاول أن يقدم تفسيراً لعنف الحرب الأهلية وحركات التمرد. فهو يتساءل، لمَ تتحول بعض حروب حركات التمرد الثورية إلى حروب دموية تحرق الأخضر واليابس، وتتسبب بمقتل مئات الألوف وتشريد الملايين، بينما يحدث العكس مع حروب أهلية أو حركات تمرد أخرى؟ حيث تقوم حركة التمرد الثورية لا المرتزقة، عبر تثويرها للمجتمع، على تطويره مما قد يتسبب بعدد أقل بكثير من الضحايا. سنحاول أن نلخص آراء وينشتاين لأهميتها هنا، رغم الثُّغَر التي تعتري نظريته. لكنها تبقى محاولة جيدة في الطريق الصحيح لفهم عنف حركات التمرد الوحشي.
يرى وينشتاين، أن العنف المفرط الذي يكاد يقارب إجرام المرتزقة لا يعتمد فقط على نوعية المدرسة العسكرية، أو الأيديولوجيا السياسية، أو العقيدة الدينية التي يستند إليها هذا التمرد، بل يعتمد على نحو أساسي على ما يبدو على وفرة التمويل لهذه الحركات من جهة، وعلى طرق الحصول على هذا المال والسلاح من جهة أخرى. ويمكننا أن نضيف إليها طبيعة أجندة الداعم الدولي وخاصة إن كان الغرب الإمبريالي وتوابعه.
فكل ذلك قادر على التأثير ليس فقط في تكتيكات التمرد، بل أيضاً في كل استراتيجية التجنيد، والقتال، والتعامل مع الأرض والسكان، والثروات، والبنى التحتية، والأسرى، وجمهور العدو والصديق. فعادة ما يزداد العنف مع الحركات التي تحصل على مصادر مالية وعسكرية كبيرة وسهلة نسبياً، من خلال الدعم الخارجي غير المحدود مثلاً، أو عبر السيطرة على مناجم المعادن الثمينة أو الثروات الطبيعية كالماس والذهب (والنفط بدرجة أقل)، مما يجعل الحرب بحد ذاتها مربحة لبعض، أو معظم قادة التمرد، فيتحولون تدريجياً ومع مرور الوقت إلى قوى انتهازية ودموية جشعة لا تخطط كثيراً لنيل ثقة السكان وكسب المجتمع لقضيتهم. فتوافر المال قد يقنع هؤلاء بأنهم قادرون على الانفصال عن مجتمعهم، وبالتالي على شراء نوعية مغايرة من المقاتلين والسلاح والأفئدة والأقلام التي لا تعتمد كثيراً على القناعات مما يفسد الثورة! (10ـWeinstein: 2007, p 7).
طبعاً نرجو أن لا يأخذ القراء هذه المسألة أوتوماتيكياً كمسلّمة اقتصادية أو استراتيجية. حيث أن حزب الله استحصل على دعم عسكري، ومادي خارجي جيد، من إيران وسوريا ومن تبرعات بيئته الشعبية في الداخل والمهجر، ولم يفسد كحركة مقاومة مسلحة، وهي مسألة تستحق الدراسة. فهل لأجندة الممول أو الداعم كإيران مثلاً رؤية أكثر احتراماً وتقديراً لمصالح ودماء وأرواح شعوب المنطقة، من حسابات الممول الخليجي، ذي الأجندة الأميركية الاستعمارية؟ حيث إننا على علم بنوعية ونتائج السياسة الخليجية الداعمة التي جربناها وعرفناها في العراق وأفغانستان ونيكاراغوا والسلفادور، التي اتبعت مبدأ حرق الأخضر بسعر اليابس. وهو الأمر الذي لم يحصل لا مع التجربة الإيرانية في لبنان ولا في مناطق النفوذ الإيراني في أفغانستان أو العراق أو اليمن، ولا حتى غزة التي كانت في يوم ما متحالفة مع إيران (الملاحظة الأخيرة قد لا ترضي الصديق محمد مجدلاوي).

التمرد السوري وأشباهه في العالم

أما المعارضة العسكرية في سوريا، فلم يطل بها الحال لتفسد وتزداد عنفاً في ظل الدعم الدولي والإقليمي. والأمر ذاته ينطبق على معظم سياستها في الخارج.
ولفهم الحالة السورية علينا أن نمر على حالات مشابهة، وأن نجري بعض المقارنات من عالمنا الثالث. فعند مقارنة حركة التمرد الماوية في نيبال بغيرها من الحركات العنيفة في العراق وسوريا وغيرها، سنلاحظ فروقاً جوهرية في ما يخص طبيعة الثورة.
فحركة التمرد النيبالية لم تكلف البلاد أكثر من ألف قتيل (حتى عام 2007، على الأقل خلال عشر سنوات). وأسهمت في تثوير مناطق كاملة من الريف النيبالي، ونقله سوسيو ـــ اقتصادياً من حالة تقارب العبودية إلى نظم تعاونية وإشتراكية إنسانية تعلم الكرامة والأخلاق، وذلك عبر إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين وتوفير شبكات تعليم ورعاية صحية، كما عمل التمرد النيبالي على التثقيف الأيديولوجي، الذي نقل سكان الريف، أو بعضهم على الأقل، من القرون الوسطى إلى العصر الحديث مقابل دفعهم ضرائب معقولة النسب للثورة (Weinstein: 2007 p5 & p302).
وسيزداد إعجابنا بحركة التمرد الماوية في نيبال إذا تعرفنا أكثر إلى السلم التصاعدي لقوة إنجازاتها العسكرية. وهي التي بدأت التمرد ببندقيتين، إحداهما معطوبة، وبدون أي بنية عسكرية أو خبرة في ذلك (Weinstein: 2007, p302). ونظراً إلى قلة الدعم المادي وانعدام الخبرة العسكرية، لم تنضمّ إلى التمرد الماوي سوى قلة منضبطة ونزيهة وشجاعة من الشباب، الذين كان عليهم تصنيع بنادق بدائية بأنفسهم، ومهاجمة أقسام الشرطة لنيل سلاح أفضل ليتطور جهدهم بعدها للإغارة على ثكن الجيش، بغية تأمين سلاح أمضى، كما سطا المتمردون على المصارف التي عُدت إحدى قواعد النظام كما الجيش وذلك لتمويل التمرد. ومع ذلك كان معاش هؤلاء لا يتعدى الدولارين شهرياً لشراء احتياجاتهم الشخصية كالصابون ومعجون الأسنان وغيرهما (Weinstein: 2007: p302).
أما حركات التمرد في سيراليون وموزامبيق والكونغو، فتسببت بقتل عشرات الألوف من الأبرياء في المعارك، فضلاً عن تداعيات الحرب نفسها. ففي الكونغو وحدها قتل 100 ألف شخص من خلال القتال المباشر، وأكثر من 5 ملايين بسبب تداعيات الحرب كالمجاعات والأوبئة وغيرها، فيما حركة تمرد يسارية أخرى في كولومبيا، وهي الفارك، ورغم طول مدة الحرب، فإنها مسؤولة عن أقل من 1/5 من ضحايا العنف هناك (Weinstein: 2007 p5).
ولنأخذ الحرب الأهلية في موزامبيق نموذجاً (1976ـ 1992). اندلعت الحرب بسبب حركة تمرد وهي «رينيمو» المدعومة من نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا والغرب، اللذين وفّرا لها دعماً كبيراً ضد النظام الإشتراكي. وتعود عداوة الغرب لهذا النظام الإشتراكي لقيامه بالأساس على حركة «فريليمو»، التي طردت الاستعمار البرتغالي وحررت البلاد عبر ثورة عسكرية، وتحالفت مع الكتلة الشرقية، وأطلقت برامج إشتراكية لنشر التعليم، وتوفير الرعاية الصحية، وتحديث الزراعة (Weinstein: 2007,p73). لذا قرر الغرب إرباك البلاد عبر دعم حركة تمرد عسكري. ومن هنا أسست رينيمو المعارضة لتقاتل الحكومة الشرعية. وجند مقاتلو الحركة من المقاطعات الشمالية الفقيرة، «والمتخلفة» تاريخياً، والمختلفة إثنياً عن أهل الجنوب، الذين ينحدر منهم معظم قادة السلطة الإشتراكية. وبسبب توافر الدعم المادي، كسبت رينيمو هؤلاء وغيرهم من أنحاء البلاد لحركة التمرد، فاشتركوا ليس فقط في معارك شرسة ضد القوات الحكومية، بل أيضاً أسهموا في جلب العذابات للأرياف التي سيطروا عليها، إذ جرى تسخير الناس في أعمال مختلفة غير منتجة ولا فائدة منها للفلاحين، سوى تعزيز مواقع المتمردين وإثرائهم. ورافقت أعمال السخرة سياسة نهب دموية لا ترحم. أما بالنسبة إلى أهل الحواضر الخاضعة لهم، فقد تعرضت باستمرار لعنف ونزوات مقاتلي التمرد المدعوم غربياً، حيث كانت النساء يتعرضن للاغتصاب على نطاق واسع. وكان بعضهن ينقلن بالقوة ليصرن «زوجات» للمقاتلين في الثكن العسكرية التابعة للمتمردين، وهو ما يذكر بسلوكيات التنظيمات السلفية القاعدية، سواء في سوريا أو العراق، كما أن ضحايا حركة رينيمو من الفلاحين العزل كانت عالية على نحو فظيع إلى حد نسبة الـ75 بالمئة من مجمل هجماتهم وضرباتهم، هو ما لفت انتباه المنظمات الأممية والإنسانية المختلفة (Weinstein: 2007, p215).
وغني عن القول إن حركة التمرد «رينيمو» المدعومة غربياً لم تنهض بأي مشاريع تعليمية أو إنتاجية حقيقية في أرياف البلاد. وبحلول عام 1985 تسبب التمرد بمقتل 100 ألف ضحية، قتلوا على نحو مباشر أثناء القتال، و100 ألف آخرين ماتوا جراء المجاعة التي تسبب بها ضعف الحكومة وانشغالها في الحرب. وبسبب سياسة التخريب التي اتبعها المتمردون، دمر 25% من بنى الخدمات الصحية، و40% من المدارس الابتدائية، وحُرم 20% من الطلبة التعليم، علماً بأن التمرد استمر حتى عام 1992 تقريباً، وتنسب معظم المنظمات الدولية الخراب والعنف إلى رينيمو لا إلى الحكومة (Weinstein: 2007, p 80).

فساد التمرد الإسلامي في سوريا

نستطيع أن نقول إن النزعة التدميرية والعنفية للتنظيمات الحسنة التمويل من المجتمع الدولي، أي الأخطبوط الإمبريالي الغربي وأذرعه تجاه المجتمع والشعب، اللذين يفترض بهم كسبهما لا استعداؤهما، هي من الأعراض المرافقة للفساد الثوري، التي لحقت بالتمرد العسكري السوري. وصور القسوة المفرطة والإجرام المبتذل من خطف النساء، وخاصة في شمال سوريا، وتزويجهن بالقوة برجال التمرد حسب صحيفة «الغارديان» وغيرها، هي تكرار لما حصل في الأنبار العراقية. التي عانت تمرداً قاعدياً مدعوماً خليجياً لم يعر أهمية كبرى لكسب ثقة الناس واحترامهم، بسبب قساوة عقيدته السلفية من جهة، وبسبب شعوره بالاستقلال المادي وقدرته على تمويل نفسه من خلال الدعم الخارجي أو النهب والعمليات الإجرامية الطابع. ويبدو لي، أن الثقة الزائدة عن الحد للقوى السلفية في تجاوز المجتمع مقارنة بغيرها، مصدرها استقلاليتها المادية عن المجتمع، كما كان وضع الأنظمة الدموية الريعية والمستكبرة، كنظام صدام والشاه وآل ثاني وآل سعود وغيرهم، فيا للمفارقة! فهي لا تكلف خاطرها التحلي بواقعية مقاتل حرب العصابات الثوري وتواضعه، الذي قورنت علاقته بالجماهير بعلاقة السمكة بالماء… كما صاغها ماو تسي تونغ.
فالأموال التي تتدفق على الحركات التكفيرية والجهادية، سواء الدعوية منها حول العالم، أو الجهادية، تريح هؤلاء وتقنعهم بأن لا يحزنوا! فإن الله ونفط الخليج وجزيرة قطر معهم! فما الداعي إلى التحاور مع الآخر؟ أو حتى كسبه بالحسنى؟ أو تطوير خطاب عقلاني جذاب قادر على كسب الشباب والرد على الزنادقة والكفار؟ فالعنجهية الفكرية لهؤلاء متأتية جزئياً من ضحالة فكرية، لكن الأهم أنها انعكاس لموقعهم المادي والعسكري القوي والمدعوم. فلمَ المرونة واعتماد الواقعية الثورية مع الناس؟ فبالمال والخرافة تُصطاد الكثير من الأنفس الجائعة والضائعة.
وكما حدث في موزامبيق وسيراليون وغيرهما، فقد دُمر الكثير من البنى التحتية الاستراتيجية، مثل محطات التوتر العالي الكهربائية (25 من أصل 85)، ضرب المستشفيات والمراكز الصحية، تضرّر قرابة 300 مركز، إضافة إلى خروج ربع مستشفيات البلاد من الخدمة (كمال ديب، صحيفة «الأخبار»، 31 يناير 2013).
كذلك استُهدفت الدفاعات الجوية التي لا علاقة لها بقبضة النظام الحديدية وقمع الناس، إلا إذا كان هؤلاء ينظفون أرض بلادهم من تلك المنصات، لتنكشف سماء بلادهم للناتو، إضافة إلى تفكيك المصانع في حلب وبيعها في تركيا لمصلحة رأس المال التركي والصناعة التركية مستقبلاً على ما يبدو. فلقد اشتكت الحكومة السورية للأمم المتحدة من نهب وتفكيك 1000 مصنع، معظمها في محافظة حلب على يد الجيش الحر وأمثاله، بينما كذبت المعارضة المسلحة هذا الخبر، مشيرة إلى أن ما نهب وفكك من مصانع لا يتجاوز العشرات! وتَكلّف الاقتصاد السوري خسائر تربو على 70 مليار دولار منذ صيف 2011 (كمال ديب، صحيفة «الأخبار»، 31 يناير 2013).
فبمَ تختلف سوريا ومعارضتها المسلحة من حيث المال والعتاد والدعم الاستخباري الغربي والإعلامي الخليجي عن التصنيف الذي وضعه وينشتاين؟ مع الأخذ بالحسبان الجانب العقائدي الذي يدفع الكثير من مسلحي التمرد أو الثورة إلى مقاتلة السلطة طلباً للحرية والكرامة من جهة، أو طلباً لمرضاة الله بإقامة حكم الشريعة واقتلاع «الكفرة» عن عرش السلطة من جهة اخرى،
وفضلاً عن هؤلاء، كم من النصابين والمحتالين باسم الدين والمذهب انضموا إلى التمرد واغتالوا أحلام من أرادوها سلمية أو ديمقراطية أو وطنية؟ المال والتحكم الخارجي يعميان البوصلة الثورية ويحرفانها.

مثقفو الربيع والأرز… والبوابة الشرقية

لكن فساد «الثورة» السورية الأخلاقي، وفساد مقاتليها، أصابا مثقفيهم ومنظريهم مع الأسف، فرعونة هؤلاء واستهتارهم بالشعب وشرائحه ومكوناته لم تأت من راديكالية ثورية ورغبة حقيقية في نفض المجتمع الخنوع والفاسد، بل لعلها متأتية من شمولهم أخيراً بالربيع البترودولاري. أو أن الخطاب الوهابي الطائفي قد مس عقولهم ليكتب لنا أحدهم عن أخلاق بنات العلويين وبنيهم، قائلاً: مطلوب، من بنات وأبناء الطائفة العلوية خاصة، تعرية الجذور التربوية لهذا السلوك البربري؛ قبل إدانة هرم النظام ذاته (http://dai.ly/S3ITg0#Syria).
ويكتب آخر تعليقاً على فيلم يفترض فيه أن جنوداً علويين يعتدون على النساء، فيقول:
«والله ستين ألف جبهة نصرة ما رح تكفينا لناخد تاراتنا من اللي عملتوه بالسوريين يا أبناء الحقد والغل».
وفي تعليق آخر له يتمنى مستعيداً حديث الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عن الفرس حين قال: «وددت لو أن بيني وبينهم جبلاً من نار».
ما للثورات ولمثقف يساري سابق، ينهل بتصريحاته من منابع الفكر الإخواني ـــ القاعدي المقسِّم للبلاد؟ وماذا تقول بمعارض منطقه شنيع، لدرجة تجبرك إن قارنته بخطاب الدكتاتورية لوجدته أكثر رجعية وتقسيمية وإثارة للكره والنفور؟ وما للشعوب ولمعارض يدعو إلى الحرية بخطاب مخضب بطائفية وعنصرية إعلاميي قادسية صدام البائدة ضد الفرس والمجوس والعجم؟
وهي الصنعة التي احترفتها آنذاك مجموعة «رقيعة» من صحافيي العراق والخليج ومن لف لفهم من الانتهازيين، الذين سموا في العراق في حينها «جيل الخميني»! تحقيراً لهم حتى من قبل مثقفي تلك الحقبة لكثرة شتمهم الخميني ولعنه كي يسترزقوا. كما يفعل اليوم لعَنة «روح بشار» من منابر الخليج، الذين فتح لعنهم لهذا الأخير لهم أبواباً للاسترزاق والتعيش لا يحسدون عليها «كمتعيشي الربيع العربي لصاحبه حمد».
ليس هذا مقام الحديث عن ثقافة البوابة الشرقية، لكن ما يجمع حراسها بحراس الأرز وحراس الشرعة الوهابية، هو صلافتها وحدّتها وعدوانيتها المرضية ضد شركاء الوطن والجغرافيا والحياة، وصعودها وتوريطها المنطقة في حمامات دم في أوقات متقاربة. وهو أمر لم تعرفه ثقافتنا السياسية الحديثة ضد ملة أو فئة على هذا النحو العميق والممنهج إلا ضد الصهاينة وهو حق لنا طبعاً، لكننا لم نطور ثقافة كره تقارب الاستئصال لأمة كما حصل مع مغامرة «البوابة الشرقية» ضد الإيرانيين، ومشروع «لبنان الانعزالي» ضد الفلسطينيين والسوريين. فالتنظيرات السخيفة عن العداء العربي الفارسي الأزلي والخطاب الإجرامي لإبادة الفلسطينيين من سكان مخيمات وأبرياء وعزل، وما استفتحوه من طقوس كالذبح على الهوية، لم تكن بعيدة عن التمويل (في حالة قادسية صدام) والتواطؤ الخليجي والإشراف الإسرائيلي والغربي.
هذا الممول والراعي الدولي والاقليمي، أدى دوراً مركزياً في ولادة أشرس وأصلف دعوات الإبادة التي ظهرت في تاريخنا الحديث، والتي غذتها أموال الخليج، ورعتها ولم تقم بعدها حملة مشابهة ضد كل ما هو تركي، أو كردي، أو اسباني… لحسن حظنا كما حصل مع «أعدائنا الفرس والفلسطينيين والسوريين!».
فعلينا هنا ألا نتوهم أن جذور الخطاب الموالي للمعسكر الناتوي في الثورة السورية، الذي يستبطن حرباً أهلية في المنطقة بين مكوناتها وشعوبها عائدة إلى ابن تيمية! لأن هذا تفصيل تاريخي صغير، بل إن جذوره ترجع إلى أنابيب البترودولار الخليجي، وراعيه الغربي، الذي رعى قبله مشروع «البوابة الشرقية» و«لبنان الانعزالي»، الذي طوب إيران وسوريا والفلسطينيين عدواً، بدلاً من إسرائيل والغرب. وهو الخطاب والمشروع الفتنوي الذي حرص وليد جنبلاط على إحيائه أيام ثورة الأرز ضد حزب الله وحلفائه باعتبارهم «الحلف الفارسي»! وهو نفس الحديث الذي كنا نسمعه من الجوقة الأميركية في منطقتنا، ممثلة في ملك الأردن عبد الله الثاني والرئيس المخلوع حسني مبارك، ورجل السعودية والسي أي إيه في العراق إياد علاوي.
فكل هؤلاء أسهموا في إحياء ثقافة العداء والتهميش ضد مكونات المنطقة من موقع «المتنمرد» الرعديد، المدعوم دولياً وإقليمياً بمال وسلاح واعلام، ليجرجر خصمه نحو مستنقع الحرب الأهلية في عموم المنطقة. وضمن هذا الإطار، علينا فهم السلفية كتيار سياسي وثقافة، مهمتها رفد المشاريع الفتنوية السابقة بروحية حرب ضروس ضد الكثير من تنويعات وتشكيلات منطقتنا الغنية، بعيداً عن النظريات الاستشراقية! وهذا التهديد يستلزم رداً شاملاً من أحرار مجتمعنا العربي والمشرقي، يقتلع بوابة الشرق ويرمم بوابات جبهتنا الغربية!

* كاتب وباحث عراقي

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى