جملة اعتراضية ما عاش يا أستاذ علاء (!) (علاء الاسواني)

علاء الاسواني

 

حدث ذلك من ثلاثين عاماً: كنت أبدأ محاولاتي الأدبية فكتبت وأردت أن أنشرها في مجلة «صباح الخير». ذهبت الى الأستاذ لويس جريس، رئيس التحرير آنذاك، فأحالني الى المسؤول الأدبي للمجلة الأستاذ علاء الديب. أحسست برهبة وأنا ألتقي بواحد من أهم الأدباء المصريين. رحب بي الأستاذ علاء فتغلبت على خجلي ومددت يدي له بالقصة فدعاني للجلوس وبدأ في قراءتها فوراً ولما فرغ تطلع إلي وقال:
ـ القصة جيدة ولكن لدي بعض الملاحظات هل تحب أن تسمعها؟
ـ طبعاً.
على مدى ساعة كاملة شرح لي الأستاذ علاء دروساً مفيدة في الكتابة. قال لي ان مشكلة الكتابة العربية هي الكلام الزائد. يجب أن تكتب بالضبط ما تقصده. نصحني بأن أستعمل علامات الترقيم بحرص. قال جملة لا أنساها:
ـ نحن نكتب كما نتكلم. كل توقف أو إبطاء أو إسراع في إيقاع الكتابة يجب أن يحمل معنى.
خرجت من مكتب الأستاذ علاء وأنا مندهش من أن أديباً كبيراً مثله يعطي من وقته ساعة كاملة لكاتب ناشئ لا يعرفه أحد. نشرت القصة في مجلة «صباح الخير» وبعد أعوام قليلة أصدرت مجموعتي القصصية الأولى، وما أن أرسلتها الى الأستاذ علاء حتى كتب عنها مقالاً جميلاً يشيد بها. كانت فرحتي عارمة، فقد كانت إشادة الأستاذ علاء ولا زالت بمثابة شهادة ميلاد لأي كاتب شاب. اقتربت من الأستاذ علاء وشرفت بصداقته على مدى ربع قرن.
يحتاج الحديث عن هذا الرجل الى كتاب كامل. الأستاذ علاء روائي كبير له تجربة خاصة وفريدة استطاع بها أن يكسر الحاجز بين النثر والشعر، وأنجز مشروعه الروائي فقدم عالماً إنسانياً فريداً بلغة مصقولة صافية لا أعتقد أنها توفرت لسواه، من أهم ما كتب علاء الديب رواية «زهر الليمون» الشهيرة، وروايات «أطفال بلا دموع» و«قمر على المستنقع» و«عيون البنفسج»، وهي ثلاثية مدهشة فذة في تعبيرها عن غربة الانسان المصري في عصر الانفتاح… بالإضافة الى إنتاجه الأدبي العظيم مارس الاستاذ علاء النقد التطبيقي على مدى خمسين عاماً في زاويته الأسبوعية «عصير الكتب». كل أسبوع يقدم قراءة نقدية بسيطة وعميقة لنص أدبي. يتوجه الى القارئ العام ليثقفه ويشرح له أسرار فن الأدب. أجيال متعاقبة من المصريين والعرب تعلموا قراءة الأدب وتذوق الفن بفضل علاء الديب. أذكر أنني كنت أقرأ عصير الكتب كل أسبوع ثم أسارع بقراءة الكتاب الذي عرضه الأستاذ علاء لأتعلم كيف أتذوق النص الأدبي.
دور عظيم آخر اضطلع به علاء الديب، هو اكتشاف المواهب الأدبية وتقديمها، ما أن يقرأ الأستاذ علاء نصاً لكاتب موهوب حتى يكتب عنه ويبادر بالاتصال ويدعمه بكل جهده. معظم الأسماء اللامعة في عالم الأدب قدمهم علاء الديب لأول مرة وتتلمذوا عليه وهو ـ شأن الكبار دائماً ـ لا يذكر أبداً فضله على تلاميذه، يأتون اليه كطيور صغيرة فيرعاهم ويعلمهم الطيران وما أن يحلقوا عالياً حتى يطمئن عليهم ويلتفت الى غيرهم ممن يحتاجون الى مساعدته. الأستاذ علاء من القلائل الذين عرفتهم، فلم أجد تناقضاً بين ما يقولون وما يفعلون. إنه يعيش تماماً مثلما يكتب. تعلمت من الأستاذ علاء كيف نفصل الخاص عن العام. رأيت ذلك أكثر من مرة: يكون الأديب صديقاً للأستاذ علاء ثم يصدر كتاباً لا يعجب الاستاذ علاء فلا يكتب عنه، والعكس صحيح، يكون الكاتب على خلاف شخصي مع الاستاذ علاء ثم يصدر كتاباً يعجب به فيكتب مشيداً به.. رأيت كيف يتعفف الأستاذ علاء وينأى بنفسه عن كل صراعات المثقفين وتقاتلهم على المصالح الضيقة. رأيت في الاستاذ علاء نموذجاً للكاتب الحقيقي الذي لا يسعى إطلاقاً الى الشهرة أو الثروة. لا يحب الأستاذ علاء الأضواء والكاميرات ويضيق بكل ما هو مصطنع متكلف، وله واقعة شهيرة عندما أفلح أحد المعدين في إقناعه بالظهور في التلفزيون لمناقشة روايته العظيمة زهر الليمون. وما أن بدأ التسجيل حتى فوجئ بالمذيعة تسأله:
ـ ممكن تلخص لنا الرواية من فضلك؟
فتطلع اليها الأستاذ علاء وقال:
ـ حضرتك بتناقشي رواية لم تقرئيها؟
لم ينتظر الإجابة وإنما فك الميكروفون المعلق بثيابه وانصرف من الاستوديو وسط ذهول العاملين. يعتبر الأستاذ علاء الكتابة واجباً يؤديه وليست حرفة يبيعها.. رأيت الأستاذ علاء مراراً وهو يرفض مناصب يلهث وراءها آخرون من كبار الكتاب. رأيته يتعامل بندية وكرامة مع أكبر المسؤولين في الدولة وأصحاب ملايين ينحني أمامهم الجميع. إنه نموذج لإنسان استغنى بالفن عن كل ما عداه فمنحه استغناؤه صلابة لا تتوفر لكثيرين. يلخص الأستاذ علاء فلسفته في الحياة قائلاً:
ـ كل هذه الأضواء وهذه الضجة ستذهب هباء. سنموت جميعاً ولن يتبقى منا الا ما يستحق البقاء. لو أنك قضيت عمرك كاتباً ولم تضف سوى جملة واحدة مفيدة الى الأدب العربي تكون قد أنجزت شيئاً كبيراً.
..على أن ما أضافه علاء الديب ليس جملة بل بناء شاهق. حديقة جميلة زرعها علاء الديب بحب ودأب فأثمرت زهوراً رائعة من كل نوع. سيظل الأدب العربي مديناً لهذا الرجل بأعماله الجميلة الخالدة وبمقالاته النقدية التي علمت الأجيال، وبتقديمه لأهم المواهب الأدبية في مصر والعالم العربي على مدى نصف قرن. لو كان علاء الديب فرنسياً أو انكليزياً وفعل ربع ما فعله للأدب لكان محل التقدير الفائق من الدولة.. ماذا فعلت الدولة المصرية لعلاء الديب؟ مرة واحدة أرادت وزارة الثقافة أن تضفي بعض المصداقية على جوائز الدولة التي تعطيها للمحاسيب والحبايب فاختارت أسماء قليلة محترمة مثل الأستاذ علاء الديب والدكتور جلال أمين. في ما عدا هذا لم يلق الأستاذ علاء من الدولة الا المشاكل والتصرفات الصغيرة. منذ سنوات احتاج الاستاذ علاء الى جراحة في القلب وأعلن المسؤولون أن علاجه سيكون على نفقة الدولة (وهذا أبسط حقوقه كمواطن).. فشلت العملية نتيجة لإهمال شنيع في المستشفى، وأجرى الاستاذ علاء عملـيتين تاليـتين تركـتا أثراً سيئاً على صحته الى اليوم. الغريب والمشـين أن المسؤولين تقاعـسوا عن دفع مصاريف العلاج وقام مدير المستشفى، بأخذ توقيع الأستاذ علاء وهو مريض على تعهد بتسديد أتعاب المستشفى، ولما تقاعست وزارة الثقافة تحركت دعوى جنائية ضد الاستاذ علاء وأصبح مهدداً بالحبس وهو مريض، وتدخل تلاميذ الأستاذ علاء ومحبوه وأجروا مفاوضات شاقـة مع وزارة الثقافة حتى دفعت تكاليف العلاج. هكـذا تعامـل الدولة المصـرية واحـداً من أهم الأدباء العرب. تجربة أخرى للأستاذ علاء مع الدولة، لما صدرت جريدة «القاهرة» ألحّ رئيس تحريرها الأستاذ صلاح عيسى على الأستاذ علاء كي يكتب مقاله النقدي كل أسبوع ويشرف على القسم الأدبي. ولأن الأستاذ علاء يمارس الكتابة باعتبارها واجباً ثقافياً وليست حرفة يتكسب منها، فقد استجاب لإلحاح صلاح عيسى وقبل أن يعمل في جريدة «القاهرة». بالإضافة الى مقاله الأسبوعي طالما رأيت الأستاذ علاء غارقاً في فحص عشرات الأعمال للأدباء الشبان. يجمعها كل أسبوع في ملف كبير يقرأها بعناية ويفرزها ويدون ملاحظاته عليها ويرشح ما يصلح للنشر. ظل الأستاذ علاء سنوات يبذل هذا الجهد الكبير في جريدة «القاهرة» مقابل أجر تافه لا ترضى به سكرتيرة حسناء في مكتب أي مسؤول، وهو الذي كان يستطيع بسهولة أن يحصل على مبالغ طائلة لو أنه وافق على الكتابة في مجلات الخليج أو الصحف الخاصة التي طالما سعت اليه، لكن الأستاذ علاء كعادته لا يهتم بالمال ويحس برضى حقيقي ما دام يؤدي شيئاً مفيداً للثقافة.. ثم تغير رئيس مجلس ادارة جريدة «القاهرة» وجاء شخص لم يسترح اليه علاء الديب فسارع بتقديم استقالته، وأبلغني بذلك تليفونياً وهو يضحك، فهنأته على الاستقالة لأنني كنت أستحثه على ترك جريدة القاهرة منذ فترة طويلة. يبدو أن استقالة الأستاذ علاء أغضبت رئيس مجلس الادارة الجديد. الذي ـ شأن الموظفين ـ يريد أن يشعر أنه المتحكم الأوحد في كل من يعمل معه.
أدلى رئيس مجلس الادارة بتصريحات يخالف فيها الحقيقة ويزعم أنه استغنى عن خدمات الاستاذ علاء. اذا كان الاستاذ علاء هو الذي تقدم باستقالته لماذا يصرّ رئيس مجلس الادارة على توجيه الإساءة الى هذا الكاتب العظيم؟ لا يجوز هنا أن نرد على هذا الشخص، لأن من لا يعرف قيمة علاء الديب لا يعرف شيئاً عن الثقافة المصرية. لكن السؤال: لماذا ينعم كبار المبدعين بالتكريم في الدول الديموقراطية بينما يعانون من التهميش والمضايقات في الأنظمة الاستبدادية؟: الإجابة أن الأنظمة الاستبدادية تستعمل دائماً أهل الثقة وليس أهل الكفاءة. معظم المناصب في الدولة المصرية يحظى بها لواءات على المعاش أو موظفون مطيعون خبيرون بإرضاء الرؤساء وتدبير المكائد للتخلص من المنافسين. من الطبيعي أن ينزعج هؤلاء المسؤولون العاطلون عن الكفاءة من كبار المبدعين لأنهم يحسون أمامهم بالضآلة. لو كنت لواءً في الجيش وخرجت على المعاش ثم عينوك مديراً للأوبرا فلا بد أن تكره علاء الديب لأنه في كل لحظة سيذكرك بأنك أخذت منصباً لا تستحقه.. أضف الى ذلك أن النظام الاستبدادي عادة ما ينظر الى المبدعين بتوجس وهو لا يأمن لهم الا اذا تحولوا الى أبواق للحاكم، أما أن يقبض المثقف على الجمر ويظل مخلصاً لمبادئه، مثلما فعل الأستاذ علاء، فلا بد أن يثير ذلك كراهية المسؤولين في الدولة. لا يحتاج علاء الديب الى وزارة الثقافة ولا مناصبها ولا مكافآتها لأن تقديره يأتي من الناس وليس من رئيس مجلس ادارة جريدة القاهرة ومن هم على شاكلته.
عندما بلغ فيكتور هوغو عامه الثمانين فكر الفرنسيون في أفضل طريقة لتكريمه، ودعت الصحف كل من قرأ مؤلفات هوغو الى المرور تحت شرفته فتدفق عشرات الألوف من البشر على مدى اليوم ليعبروا له عن حبهم. لو طبقنا هذه الفكرة ودعونا تلاميذ علاء الديب وقراءه ومحبي فنه لامتلأت ضاحية المعادي، حيث يسكن، بآلاف مؤلفة من البشر أثر فيهم وعلمهم هذا الفنان الكبير..
..ما عاش من يسيء اليك يا أستاذ علاء.
الديموقراطية هي الحل

 صحيفة «المصري اليوم»

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى