حروب «الحدود الكردية» في العراق وسورية بعد «داعش»

الاستفتاء على استقلال كردستان في موعده الإثنين المقبل. لم تفلح الوساطات والمناشدات حتى الآن في ثني رئاسة الإقليم عن هذا الاستحقاق. بات مستقبل مسعود بارزاني على المحك. لا يمكنه التراجع لأنه سيخسر كل شيء، معه الكرد أيضاً. لم يعد في حساباتهم التراجع عن الانفصال، خصوصاً بعد تأييد البرلمان في إربيل هذه الخطوة بالإجماع، وإن قاطع عدد من نواب «كتلة التغيير» و «الجبهة الإسلامية». حتى هذه المقاطعة لا تعني رفض جمهور هاتين القوتين الاستقلال. الأمر يتعلق بخلافات حزبية داخلية معروفة بين رئيس الإقليم المنتهية ولايته وهذين الحزبين. وبعيداً من التهديدات الإقليمية المحمومة، خصوصاً من جانب تركيا وإيران، فإن المساعي الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لم تثمر حتى الآن. لو نجح تسويق البديل الذي قدمه المبعوث الرئاسي الأميركي للحرب على «داعش» بريت ماكغورك وسفراء غربيون، لكان صرف النظر عن إعادة تفعيل مجلس نواب الإقليم. لم تقدم الضمانات التي طالب بها بارزاني. لأنه كان ولا يزال يريد خطوة متقدمة تفوق بمفاعيلها الاستفتاء. وحتى الكونفيديرالية فات أوانها على الأرجح بديلاً معقولاً. غير الذهاب نحو الانفصال يعد انتقاصاً من رصيده الشعبي. لم يرضَ بالتأجيل سنتين على أن تناقش هذه القضية في الأمم المتحدة، ما لم تقر بغداد صراحة بحق الكرد في تقرير المصير مقروناً بضمانات دولية، وما لم تحدد المنظمة الدولية نتيجة هذا النقاش موعداً جديداً لهذا الاستحقاق.

الثابت إذاً أنه لم يعد مطروحاً في أجندة كردستان طي صفحة الاستفتاء والعودة إلى طاولة الحوار لا مع بغداد ولا مع غيرها من عواصم إقليمية ودولية معنية. تأجيل الاستحقاق من دون بديل حقيقي يعني ببساطة انهيار كل ما بناه بارزاني في مسيرته السياسية. علماً أن ما قدمه ماكغورك نفت الناطقة باسم الخارجية الأميركية عمله به. الاقتراح صاغه وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس بعد زيارته الأخيرة إربيل، بالتفاهم مع مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر. وواضح تماماً أن واشنطن تقر بما تسميه الطموحات المشروعة للكرد، لكنها تخشى أن يترك هذا الاستحقاق في هذا التوقيت بالذات آثاراً سلبية على الحرب ضد «تنظيم الدولة». ولا يمكنها الذهاب بعيداً في الضغط على إلإقليم حليفها الرئيس وشريكها المضمون في الحرب على «داعش». أما أن تكرر حرصها على وحدة العراق فمثل هذا قالته إدارة الرئيس جورج بوش الأب مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي. شددت على وجوب بقاء الاتحاد لكنها سرعان ما بدلت رأيها وكان ما كان من أمر الكتلة الشرقية.

والثابت أيضاً أن بارزاني أظهر عزيمة وصموداً في صراع الإرادات. وتمكن من فرض خيار الاستفتاء على جميع المعترضين. حتى الاتحاد الوطني الذي كان تردد في البداية لم يجد بداً من الاصطفاف خلف هذا الاستحقاق. وسيمنحه الاستفتاء مزيداً من الشرعية الشعبية لتكريس زعامة بلا منازع. وهذا ما سيعزز موقعه في مفاوضات لا مفر منها لاحقاً مع بغداد وأنقرة وطهران، يدعمه رأي عام واسع. أما التلويح بالحرب والوعيد بالويل والثبور فيبقى من باب التهويل. لا يبدو أن ثمة طرفاً يستطيع اللجوء إلى القوة خلال أيام لفرض تأجيل الاستحقاق أو إلغائه. بل لا مصلحة لأحد في مثل هذا الخيار. فلا الكرد أعلنوا استقلالهم بعد ولا هم أعلنوا الحرب على بغداد. ولا الحكومة العراقية في وارد أن توقف حربها على «داعش» والانصراف عن مشكلاتها الجمة من أجل شن مواجهات ميدانية تعجل في إعلان الاستقلال. جل ما يمكن التفاوض عليه في الأيام القليلة الباقية قبل الاستفتاء هو البحث عن إمكان تأجيله في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وهو أمر يبدو مستبعداً في ضوء تصعيد بارزاني لهجته. فقد أعلن في إحدى جولاته قبل أيام أنه لن يقبل التفاوض على حدود كردستان، والعودة إلى «حدودنا في عهد حزب البعث». كما أن بغداد ستستمع إلى رأي إيران.

وحتى إيران التي يرى غلاة قادتها أن الاستفتاء «مشروع صهيوني» هو المرحلة الأولى في «مؤامرة لتقسيم العراق وقيام إسرائيل جديدة»، ليست في وارد استخدام القوة لإرغام الكرد على إلغاء الاستفتاء. قد لا ترى بداً في المرحلة التالية للاستحقاق من حوار مع قيادة الإقليم للحصول على ضمانات لحدودها. وهي لن تكون، مثلها مثل تركيا بمنأى عن أي حريق كبير يندلع في كردستان أو على حدوده. فلهذه كردها ولتلك أيضاً، وقد وفرت لهم الحروب المشتعلة في الإقليم، كل أنواع السلاح ووفرت لهم الخبرات القتالية اللازمة. وفي ظل الصراعات الدولية والإقليمية على المنطقة ستكون هناك قوى وجهات خارجية جاهزة لمدهم بما يحتاجون من دعم. حتى رهان بعضهم على حزب العمال وعلاقته الجيدة مع «الحشد الشعبي» قد لا تفيد. فالهدنة القائمة بين طهران والقوى الكردية القريبة من الحزب مردها إلى رغبة الطرفين في اقتطاع حصته من الجغرافيا السورية. علماً أن الفرع السوري للعمال الكردي تمر تجارته من النفط السورية عبر كردستان. وليست لديه مصلحة في أي مشكلة مع إربيل. وأبعد من ذلك كيف للحزب الديموقراطي الكردي أن يعرقل توجه الإقليم نحو الاستقلال وقد دعت الهيئة التنفيذية لـ «الفيديرالية الديموقراطية لشمال سورية» إلى المشاركة في الانتخابات بعد أيام؟

لم يعد يفيد التوقف عند تحديد المسؤوليات عما آل إليه الوضع في العراق. صحيح ما يسوقه بارزاني عن استئثار بغداد بالسلطة وتحويل الدولة دولة دينية والكرد يريدونها كما في الدستور دولة مدنية ولا يرغبون في أن يكونوا خدماً. لكن ما يسوقه له خصومه صحيح أيضاً فهو ساهم في نظام المحاصصة وأفاد من الدعم الأميركي، وكذلك من الثنائية الكردية الشيعية التي أدارت الحكم إثر سقوط نظام صدام حسين. ولا شك في أن الإقليم لم يجد أي مصلحة في أن يكون «تكتل عربي» واسع يحول دون تحقيق طموحات الكرد في الانفصال. ولم يكن يعنيهم قيام حكم قوي في بغداد يكرر التجارب السابقة معهم. وهم على حق في ذلك. وحتى أعتى مناوئيهم زعيم «دولة القانون» نوري المالكي وفروا له ولاية ثانية. بل حالوا دون نزع الثقة عنه عندما تنادت قوى عدة لإطاحته. على رغم أنه وجه إليهم تهديدات واضحة وحشد قوات من الجيش الذي أشرف على بنائه على حدود الإقليم ملوحاً بالحرب. ولن تكون هناك ترجمة لما يرفع من شعارات عن «وحدة» عرب العراق بمواجهة الإنفصال، فالصراع المذهبي لم يبق شيئاً من وشائج هذه الوحدة. حتى أن مجاميع سنية عدة تلوذ بالإقليم، وبعضها يدعو إلى شمله بالاستفتاء!

الأيام السبعة الفاصلة عن موعد الاستفتاء حافلة بالغموض وبكثير من الأسئلة عن اليوم التالي لهذا الاستحقاق، وكذلك عن اليوم التالي لهزيمة «داعش». ليس واضحاً مشروع الحوار الذي سيقوم بين بغداد وإربيل في شأن الاستقلال، وما هي آليته ومتى يعلن، وما هي القضايا التي سيشملها هذا الحوار وأبرزها الحدود، هذا إذا تجرأت حكومة حيدر العبادي المقبل على انتخابات مصيرية، على بدء حوار في هذا الشان. علماً أن الكرد لا يبدون ولن يبدوا أي مرونة في احتمال التنازل عن الحدود الجديدة التي رسموها في أثناء مشاركتهم في الحرب على «داعش»، خصوصاً كركوك التي ستشكل بنفطها عماد اقتصاد الدولة الوليدة. وقضية الحدود هي المحك لمستقبل العلاقة بين بغداد وإربيل بعد سقوط آخر معاقل «تنظيم الدولة». فهل تتنازل المكونات العراقية الأخرى من عرب وتركمان وأقليات أخرى عن هذه المناطق بسهولة؟ والأمر نفسه بدأ يطرح في سورية أيضاً مع استعداد كردها لانتخابات في إطار فيديرالي يستقلون فيه بإقليمهم. ولا يبدو أن دمشق يمكنها مواصلة التنسيق معهم بعدما شارفت الحرب على «تنظيم الدولة» وبقية الفصائل نهايتها في بلاد الشام. وبدأت نذر المواجهة بين «قوات سورية الديموقراطية» بغالبيتها الكردية وقوات النظام في السباق إلى دير الزور ومنها الحدود مع العراق. قد تكون النزاعات الحدودية عنوان الحروب المقبلة للكرد مع شركائهم «السابقين» في كل من العراق وسورية… وربما في إيران وتركيا.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى