حقائق الجغرافيا إذ تكشف أوهام التحالفات: روسيا وإيران وتركيا نموذجاً

تسارعت وتيرة التطورات في المنطقة بعد دخول القوات التركية الشمال السوري، لتفرض وضعاً جديداً هناك. ومع زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى روسيا، والتحسن الكبير الطارئ على العلاقات الثنائية بينهما، فقد راجت تحليلات مفادها أن تحولاً جدياً يجري في العلاقات الدولية باتجاه قيام مثلث روسي ـ إيراني – تركي. وتعززت تلك التحليلات بانطلاق المقاتلات الروسية من قاعدة همدان الإيرانية لضرب أهداف لها في سوريا، لأول مرة منذ عقود تسمح فيها إيران لدولة أجنبية باستخدام أراضيها للقيام بعمليات كهذه. وتواكب مع تلك التحليلات الغارقة في التفكير بالأمنيات، أوهام أخرى ملخصها تبني الرئيس التركي أردوغان لمنطق روسيا في الصراع على سوريا، لجهة تأجيل الحديث عن موقع الرئيس السوري في الصراع السوري وقيام «حكومة وحدة وطنية» في سوريا وفقاً لمصالح دول المثلث المزعوم.

نظرياً يضم المثلث المذكور قوة كبرى واثنتين من القوى الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط، وبالتالي تملك الدول الثلاث فائضاً نظرياً من القوة اللازمة لفرض إراداتها على الجميع في المنطقة وحتى على الولايات المتحدة الأميركية أيضاً. لكن الأمور لا تجري في السياسة وفقاً لهذا الشكل الحسابي المجرد، ومردّ ذلك أن التناقضات العميقة القائمة بين أضلاع المثلث المفترض أكبر بكثير من المصالح الوقتية الآنية بين أطرافه. لا ننسى هنا «نظرية البحار الخمسة» الرائجة في الفترة القصيرة التي سبقت «الربيع العربي»، ومفادها أن سوريا ستكون محور ارتكاز التوازنات بين القوى المختلفة في دائرة جغرافية واسعة من المنطقة تضم بحاراً ومضايق ومحيطات، في إنكار مدهش لحقائق القوة في المنطقة ولحقيقة التناقضات العميقة التي تجمع بين أطراف الدائرة الجغرافية المذكورة. والتناقضات البنيوية بين الأطراف هي سبب عدم واقعية «نظرية البحار الخمسة» و «المثلث الروسي ـ التركي – الإيراني»، حيث تلعب الجغرافيا والتاريخ أدواراً مركزية في رسم معالم التناقضات.

فالقرب الجغرافي الروسي من إيران وتركيا يجعل من موسكو مصدر التهديد الأول لكل من طهران وأنقره، في حين يلعب البعد الجغرافي الأميركي ـ للمفارقة – دوراً إيجابياً في تحسين العلاقات بين واشنطن وأنقره وطهران. ببساطة لأن ذلك البعد الجغرافي يستبعد إمكانية التهديد العسكري الأميركي، وليس لأي اعتبار أيديولوجي كما قد يتبادر إلى الذهن. وأظهر التاريخ غير مرة ارتطام البلدان الثلاثة المشكّلة للمثلث المفترض بحروب دامية على امتداد القرون الخالية، ما يجعل السابقة التاريخية أيضاً لا تصبّ في مصلحة قيام مثلث كهذا.

إيران في مواجهة روسيا

تاريخياً تحاربت إيران مع خصمين لدودين: روسيا القيصرية والدولة العثمانية، أي مع ضلعي المثلث الآخرين المفترضين للمثلث الوهمي الروسي ـ الإيراني – التركي. وبعد قرون من الحروب بين الأطراف الثلاثة وبالتحديد في نهاية الحرب العالمية الثانية تلكأ الاتحاد السوفياتي في سحب قواته من شمال إيران، فكان الضغط الأميركي عليه للانسحاب من هناك لأسباب ومصالح أميركية قطعاً. ساعتها تلاقت مصلحة طهران وواشنطن، فتحسنت العلاقات وتطورت إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية لثلاثة عقود كاملة حتى قيام الثورة الإيرانية.

عندها انهارت العلاقات الأميركية ـ الإيرانية وبلغت مستويات غير مسبوقة من التردي، لتصبح أميركا «الشيطان الأكبر»، بحسب شعارات الثورة الإيرانية. لكن واشنطن لم تكن الخصم الوحيد، بل روسيا أيضاً فظهر شعار «لا شرقية ولا غربية.. إسلامية إسلامية». ولعل الاتفاق النووي الأخير بين إيران والغرب يُعَدّ – في أحد وجوهه – سعياً عقلانياً من أحد الأجنحة الإيرانية أي إدارة روحاني بأن استمرار العداء لأميركا يضرب مصالح إيران الاقتصادية والسياسية في الصميم، خصوصاً أن الانسحاب الأميركي المعلن من المنطقة يهدد نظرية اللعب على القطبين الدوليين وموازنة أحدهما بالآخر، برغم ما يتيحه ذلك الانسحاب من فراغات أمام القوى الإقليمية للتمدّد والانتشار. ولا يعني ذلك بأي حال أن إدارة روحاني عميلة لأميركا أو واقعة في هواها، وإنما أنها ترى في قرب روسيا الجغرافي وفي التجربة التاريخية المريرة السابقة بين روسيا وإيران مشكلة جغرافية – وجودية، ربما تتفاقم مع رغبة أميركا المعلنة في الانسحاب من المنطقة.

تركيا في مواجهة روسيا

في المقابل لم تسمح تركيا لروسيا باستعمال «قاعدة إنجيرليك»، كما طالبت موسكو بعد لقاء الرئيسين بوتين وأردوغان، لأن أردوغان وأنقره يعرفان حدود إمكاناتهما على المناورة. «قاعدة إنجيرليك» تخصّ حلف «الناتو» والأسلحة المتطوّرة المخزَّنة فيها كذلك، وبالتالي فلا مجال للمساومة في هذا الصدد. كما أن القوات التركية التي اندفعت إلى داخل الأراضي السورية لمنع الأكراد من تكوين منطقة حكم ذاتي متصلة على الحدود مع تركيا، تحرّكت إلى هناك بعد ساعات قليلة من لقاء نائب الرئيس الأميركي بايدن والتركي أردوغان. وبالطبع لم يمنع تحسن العلاقات التركية – الروسية أردوغان من الاستمرار في مواقفه المناوئة للنظام السوري، على الضد من رغبة موسكو.

يختلف النظامان الإيراني والتركي في جوانب شتى، إلا أنهما يشتركان في قاسم مشترك مفاده الخوف من التهديد الجغرافي الروسي. هدّدت روسيا تاريخياً السلطنة العثمانية في البحر الأسود، ولم تخف روسيا القيصرية يوما اهتمامها بالسيطرة على البوسفور، باعتباره المضيق البحري اللازم لخروج السفن الروسية إلى المياه الدولية من البحر الأسود إلى البحر الأبيض. كما أن التنافس على النفوذ في القوقاز والبلقان هيأ أرضية تاريخية للنفور بين روسيا وتركيا.

الخلاصة

لن تختفي روسيا عن الخريطة ولن تذهب إلى مكان آخر بالطبع، وهذا يفرض على تركيا وإيران البحث عن ثقل موازن لروسيا، من دون أن تنزلقا إلى عداوات جديدة معها. وبرغم التراجع النسبي لإمكانيات الولايات المتحدة الأميركية في النظام الدولي الراهن، إلا أنها مازالت الثقل الموازن المفضل نظرياً لكل من إيران وتركيا في مواجهة روسيا لأسباب جغرافية وتاريخية وجيو – سياسية. ستجبر التطورات المتلاحقة في المنطقة كلاً من موسكو وطهران وأنقره على تحسين العلاقات بينها وعلى التنسيق أكثر في القضايا الملتهبة، لكن كل ذلــــك لن ينفي وجود تناقضات بنيوية عميقة بين الدول الثلاث، تلك التي لا تحلّها زيارات ناجحة لرؤساء جمهورية أو حتى رغبات أيديولوجية عارمة!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى