دمشق مدينة مفتوحة

يقول الشاعر الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سلمى في معلقته:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

وأنا أقول له: «كيف تقول هذا والانسان بطبيعته متعلق بالحياة حتى الموت، ولا يغير من مشاعره تلك الا الظروف الطارئة البالغة الصعوبة بالنسبة له والتي تدفعه أحيانا للانتحار. فأنا الآن مثلا لم أتعرض بعد لتلك الظروف وأراني الآن وقد طعنت في السن فوق ثمانين. الشاعر المذكور أكثر قدرة على فهم معجزة الحياة أكثر من أي عمر مضى، فأستيقظ مبكرا مع كل فجر جديد يأخذني السأم كي أخرج الى شرفة داري المواجهة للمشرق فأتمتع بمشهد شروق الشمس وعلى الأخص في أيام الخريف حين تلعب الغيوم المتناثرة على الأفق الشرقي دورا خارق الجمال في تلوين أشعة الشمس الموشكة على الظهور كي يبدو المشهد جديدا باستمرار مهما تكررت رؤياه.

ولكن.. ماذا أصنع اليوم مع الأهوال التي تنصب على دمشق، وكيف أنجو من مشاعر اليأس التي تدفع أحيانا الى تمني الموت كي أستريح من الهول المحيط بي كل يوم؟!

ليس هذا بدافع السأم بالتأكيد، وإنما هو كابوس الهلاك والخراب الذي يجعل من الكائن البشري وحشا كاسرا وعلى الأخص حين قرأت تصريحا لأحد المسؤولين الكبار عن الحكم في بلدي يحذر فيه من امكان دمار دمشق بأكملها إذا ما اصرت المعارضة المسلحة على اقتحام مركز المدينة، الذي ما يزال تحت سيطرة النظام الحاكم مع بعض الاحياء التي نجت حتى الآن من الخراب كالمالكي وأبي رمانة والصالحية وغيرها.. هل من المعقول مثلا أن يتصور احدنا الجامع الأموي اشهر وأعرق مسجد في البلاد الاسلامية كلها هل من المعقول أن نتصوره يحترق وينهار ويزول من الوجود وسوق الحميدية المسقوف الجميل وأخوه سوق مدحت باشا وضريح الشيخ الصوفي الاكبر محي الدين بن عربي في أعلى الصالحية وغيرها من حارات وبيوت شامية ومؤسسات ضخمة جليلة وأزقة ساحرة في أحياء دمشق القديمة كالقصاع والقيمرية والشاغور وغيرها من اماكن كالتي على ضفاف بردى في الربوة او في الغوطة الخضراء، في مدينة تُصنف كأقدم وأعرق مدينة في التاريخ بموافقة جميع الباحثين. هل من المعقول أن يدمر كل هذا البهاء، كما فهمت من ذلك التصريح، لا لشيء سوى أن من يهاجم النظام داخل دمشق ومن يدافع عن داخلها ايضا تحت أي شعار كان يعرّض مدينتي الحبيبة لخطر هلاك قد يزيلها من الوجود بأكمل جمالياتها التي لا يمكن إعادة إعمارها كما كانت من قبل إطلاقا.

كنت أفكر على هذا المنحى البائس ليلة أمس وأنا في جلستي المعتادة فجرا أواجه المشرق وألمح من بعيد بعض أضواء دمشق المهددة بالخراب حزينا حتى النخاع، وشيئا فشيئا تذكرت الماريشال الفرنسي المجيد «بيتان» الذي كان حاكما لباريس يوم اقتحمها الجيش الهتلري الألماني واحتلها بسهولة عجيبة في اوائل الحرب العالمية الثانية، وكان على الماريشال أن يختار بين المقاومة، التي كانت غير جاهزة تماما عدة وعديدا وقتئذ وعاجزة عن تحرير «مدينة النور» باريس أشهر عاصمة في العصور الحديثة وبين الموافقة على شروط القائد العسكري الالماني بالجلوس معه على طاولة واحدة للتوقيع على معاهدة الاعتراف بالهزيمة والاستسلام لشروطها المتعجرفة كحاكم فرنسي للمدينة وهي جلسة مهينة بحق كاد الماريشال يرفضها تماما لولا أن الألمان هددوا بتدمير باريس بالكامل اذا لم يوافق الماريشال البائس على قبولها، وهكذا وقع «بيتان» فريسة معضلة كادت تودي بالمدينة التي يعشقها وبعد تردد مرير لبضع ليال، وافق الرجل وهو معروف كبطل الحرب العالمية الاولى وافق على تلك الجلسة المذلة انقاذا لباريس من دمار كلي محتم بتوقيعه على أن باريس «مدينة مفتوحة»، وهذا يعني أنه لا يجوز تدميرها ما دامت مدينة مفتوحة مستسلمة.

تذكرت كل هذا التاريخ الموجع وأنا اواجه دمشق ولا أفكر إلا بها ولها.. هل يمكن إنقاذها اذا ما اشتدت الأزمة وبلغت ذروتها من دون أن يستطيع أي طرف أن ينتصر تماما على الطرف الآخر، ماذا سيحدث للجامع الأموي وضريح الست رقية ومحي الدين بن عربي وسوقي الحميدية ومدحت باشا و.. البيوت العربية الشامية الباقية.. هل من الممكن عندئذ الاعتراف بأن دمشق «مدينة مفتوحة» برضى الطرفين إنقاذا لها من الخراب أم لا بد من دمارها كي يحقق كل طرف غايته من هذه المعركة المريعة لو حدثت فعلا داخل دمشق.. فأي الخيارين أفضل؟ استمرار الصراع حتى خراب المدينة كليا أم الاعتراف بأنها «مدينة مفتوحة»؟

يا إلهي!.. ما أصعب الجواب على هذا السؤال العسير!.. لدى الطرفين بالتأكيد.. ولكن كيف ننقذ اعرق مدينة في التاريخ من الخراب بعد خراب الغوطة!

صحيفة القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى