دولة الإسلام السياسي

إن الفلسفة الأساس لدى جماعات الإسلام السياسي هي أن الدولة التي تعمل هذه الجماعات لإقامتها، هي تشكيل إلهي تسير بتعليمات إلهية ثابتة مطلقة، ينظم أعمالها وسلوك مواطنيها مبدأ الحلال والحرام لا القانون والنظام، وتسترشد بالتجارب والأعمال والأحداث التي حصلت خلال ممارسة الدولة العربية الإسلامية للحكم في نصف القرن الأول لقيامها، وتعتبر أن هذه التجارب البشرية تمثل الأحكام الإسلامية بل أحياناً تؤمن بها كما لو كانت تعليمات إسلامية، وترى أن أصغر الطقوس والتقاليد وأكبرها هي من أصول الدين بما في ذلك العادات والتقاليد. وعليه، فإن الكثير من أنصار تنظيمات «الإسلام السياسي» يتجاهلون أن هذه الأحداث والتجارب والتقاليد هي نتيجة لشروط موضوعية ولظروف سياسية واقتصادية واجتماعية كانت قائمة في ذلك الوقت وأدت إلى منظومة فوقية بعينها، حققت رغبات وأفكار القائمين على الدولة الإسلامية وأهلها وحكامها وفقهائها، ويتجاهلون في الوقت نفسه أن الظروف الحالية مختلفة تماماً، وبالتالي فهي تؤدي إلى نتائج مختلفة أيضاً. وهم يريدون في الواقع تطبيق قوانين الماضي على الحاضر، ولَي عنق هذا الحاضر ليمتثل لفهمهم للدين ويتيح لهم بناء دولتهم على مزاجهم وبحسب قناعاتهم. وهذا ما جعلهم يعتبرون الحلال والحرام مؤشراً وناظماً للحياة وليس القوانين والأنظمة والمعايير التي توصلت إليها الدولة الحديثة، ولا حتى تجارب الشعوب العربية أو الإسلامية، بما في ذلك الموقف من الطعام واللباس (وحفوا الشوارب وأكرموا اللحى) ناهيك عن القضايا الأساسية كالموقف من هيكلية الدولة وسلطاتها ومهماتها وبنيتها السياسية والاقتصادية والإدارية، والعلاقات مع المواطنين غير المسلمين ومع الدول الأجنبية (دار الحرب).

إن مثل هذه الأفكار التي يؤمن بها كثير من أتباع الإسلام السياسي تجعلهم يتجاهلون صحيح الإسلام وأصوله وفلسفته وأهدافه الرئيسة، ويغرقون في التفصيلات وتفصيل التفصيلات، أي في الأحداث التي جرت قديماً والتقاليد وأحكام الفقهاء وفتاواهم، وصولاً إلى التمسك بأحاديث نبوية ضعيفة أو مزورة واعتبار ذلك نواظم للحياة الإسلامية، على حساب تعليمات القرآن وجوهر الفلسفة الإسلامية والأحاديث الصحيحة التي رأى أبو حنيفة أنها لا تصل إلى عشرين حديثاً، بينما جمع أحمد بن حنبل ما يقارب التسعة والعشرين ألف حديث. وفي الخلاصة، فإن أتباع الإسلام السياسي ينكرون أن الحكم للشعب وأنه صاحب القرار وصاحب حق تقرير المصير وهو الذي يحدد شكل دولته ومجمل نشاطها وأساليب عملها وأهدافها، ويؤكدون أن ذلك كله يعود لله وقدره وما قرره مسبقاً إلى يوم الدين. ويرون أن على الشعوب أن تمتثل لأحكام الفقهاء وتجارب الأولين باعتبارها أحكاما دينية مطلقة، ويريدون أن يفرضوا على الحياة اليومية للناس تقاليد الحياة اليومية في صدر الإسلام. فهم مثلاً يطالبون المسلمين بإطالة اللحى وتغطية الرأس والأكل باليد ودخول البيوت بالقدم اليمنى أولاً، إلى آخر ما هنالك من تـقاليد وعادات قديمة ويعتبرون أنها تعاليم إسلامية.

انتعشت أفكار ونشاطات أتباع الإسلام السياسي في بداية النصف الثاني من القرن الماضي على أيدي أبي الأعلى المودودي الباكستاني وسيد قطب المصري، اللذين كانا أشد تطرفاً في مجال الالتزام بالأفكار المشار إليها أعلاه، وأطلقوا شعار «الحاكمية لله» أي أن ليس للبشر دور في حكم أنفسهم، وهذا شعار هو (كما قال علي بن أبي طالب) كلمة حق أريد بها باطل. ولا تعني بالتأكيد نظام الحكم، بل تعني أن الله هو الذي حكم بخلق الكون وتأسيس الحياة. وتوسعت تنظيمات حركات الإسلام السياسي بعد هزيمة حزيران ثم بعدما تحالف معها الرئيس الســادات لقمع القوى الوطنية واليسارية في مصر، وأتاح لهذه الحركات العمل والنشاط، وامتد نشاطها ليشمل معظم البلدان العربية والإسلامية.

إن صراع المجتمعات العربية الإسلامية مع الإسلام السياسي لا يقتصر فقط على ما يجري في وقتنا الحاضر وما جرى في نصف القرن الأخير. فهو في الواقع صراع قديم بدأ مع المعتزلة في العصر الأموي، حيث نادى هؤلاء بحرية الإنسان والشعوب وحقهم في تقرير مصيرهم وحياتهم اليومية. وقالوا بما نسميه الآن الحرية والمسؤولية (التي بنى سارتر عليها فلسفته في خمسينيات القرن الماضي). والمعتزلة هم في الواقع أصحاب الفكر الحر في التاريخ الإسلامي، وبغض النظر عما ارتكبوه من أخطاء فاحشة أيام المأمون، فإنهم رسموا للمسلمين خطاً سياسياً مختلفاً عن خط الفقهاء والحكام. كما شهدت المجتمعات العربية هذا الصراع أيضاً في وقت مبكر جداً أيام نشوء الخوارج، الذين رفضوا أن يكون الخليفة حتما من قريش ونادوا بأن الخلافة حق لكل مسلم لديه مؤهلات لتولي المسؤولية، واختلفوا مع علي بن أبي طالب حول هذا الأمر، واختاروا خليفة من أبناء الشعب (من قبيلة تميم). وفي الواقع كان الخوارج في مطلع عهدهم من أبناء الشعب غير القرشي، ورفضوا الطقوس التي فرضها الحكام ورجال الدين على شكل الحكومة وقراراتها وفلسفتها. وفي الخلاصة، فإن الصراع مع أتباع الإسلام السياسي بدأ منذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان وما زال مستمراً حتى الآن، يأخذ في كل عصر طابعاً معيناً لكنه لا يخرج عن الإطار العام الذي يعتبر الدولة تركيبة إلهية غير قابلة للتطوير، ويسبغون القداسة على ممارسات سياسية سابقة هي في الأصل اجتهادات ذلك العصر وليست تعاليم دينية، أي يطبقون قوانين الماضي على الحاضر ويصرون على ذلك، ويرفضون التطور والتطوير وأخذ الظروف بعين الاعتبار، ويتجاهلون حتى ما جاء في القرآن والأحاديث النبوية التي أشارت إلى أهمية التطور والقواعد الفقهية المماثلة، كما هي القاعدة التي تقول «حيث مصالح الناس حيث شرع الله». إن أفكار الكثير من أتباع الإسلام السياسي وأيديولوجيتهم وفلسفتهم هذه، وبالتالي ممارساتهم، تتناقض مع متطلبات عصرنا، سواء من حيث الأهداف أم الأساليب، فهم يقولون مثلا بـ «الحاكمية لله» و «الإسلام هو الحل» من دون أن يشرحوا لنا ماذا تعني المقولتان، وكيف تتعامل هاتان الفكرتان مع مصالح المجتمعات وتطورها ومع تحقيق حياة كريمة لشعوبها. وهم في الوقت نفسه يرفضون أسس الدولة الحديثة ويصرون على أن تكون الدول العربية والإسلامية كما كانت الدول في القرن الأول الهجري. هكذا، فرئيس الدولة هو خليفة ولا ضرورة لمجالس تشريعية، والمحافظون هم ولاة، ويطبقون على المجتمعات الشرع لا القانون والشرع نتاج الفقهاء. وتراهم عندما يتحدثون يقولون هذا أمر شرعي ولا يقولون إنه قانوني، والأهم من ذلك هو رفض معايير الدولة الحديثة أي معايير الحرية (يؤمنون بالجبر لا بالاختيار) والديموقراطية (لا يؤمنون بالانتخابات ونتائجها) والمساواة (يرفضون المساواة بين أتباع المذاهب والطوائف) وتكافؤ الفرص (يقولون إن الله هو الذي يحدد الأرزاق) وفصل السلطات (الحاكم والوالي يتولى كل السلطات) إلى آخر منظومة معايير الدولة الحديثة.

هكذا، فإن تيارات الإسلام السياسي تشكل عوامل تخلف للأمة وتفصلها عن الحياة المعاصرة وعن التطور الإنساني وتضعها في عصر آخر ولا تؤهلها للعيش في هذا العصر. وتشكل بذلك كارثة للمجتمعات العربية والإسلامية، وخاصة بعدما أتبع عدد من هذه الحركات الأساليب الإرهابية لتحقيق الغرض. وهذا التخلف المستهدف يذكرنا بالجيش العثماني الذي رفض استخدام المدافع عند اختراعها معتبراً أن الحرب هي لحملة السيف، ولذلك هزم هذا الجيش أمام البرتغاليين والأوروبيين عامة، الذين استخدموا الأسلحة الحديثة في ذلك الوقت.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى