روسيا تدافع عن نفسها في سوريا! (الياس فرحات)

 

الياس فرحات

شكل وصول «حزب العدالة والتنمية الإسلامي» الى السلطة في تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان منعطفاً هاماً في العلاقات بين دول المنطقة. بعدما يئست تركيا من الحصول على عضوية الاتحاد الاوروبي أدارت وجه سياستها نحو الجنوب، فأقامت علاقات مميزة اقتصادياً وسياسياً مع سوريا لتكون بوابتها الى العرب، ووقعت اتفاقات تنظم هذه العلاقات. وإدارت وجهها الى الشرق ايضا فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي توجه الرئيس التركي طورغوت اوزال الى دول آسيا الوسطى لاستطلاع إمكانيات تمدد تركي سياسي وثقافي واقتصادي مع الدول الخمس كازاخستان وتوركمانستان واوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان (وحدها فارسية إنما سنية) الواعدة اقتصادياً. لكن العلمانيين الاتراك لم يجدوا تجارة رابحة في هذه العلاقات، خصوصاً انها ليست على حدود مجاورة معهم وتفصلها عنهم اذربيجان (تركية شيعية).
عندما تسلّم حزب «العدالة والتنمية» السلطة وجد فرصة للتوسع الطوراني (طوران هو التسمية الفارسية لدول التركستان اي آسيا الوسطى) من الناحية العرقية بترويج اللغة التركية وإسلامياً بفتح ابواب مدارس «امام – خطيب» امام طلاب هذه الدول والسيطرة عليها دينياً. دخلت البعثات الوهابية بإمكاناتها المالية الضخمة الى آسيا الوسطى، خصوصاً منطقة وادي فرغانة (تمتد داخل اوزبكستان وقيرغيزستان وطاجكستان) التي تضم مدينة بخارى العريقة والتي كانت لعقود منارة العلوم الاسلامية. ازدوج فكر «الاخوان المسلمين» مع الفكر الوهابي في السعي لوراثة العلمانية السوفياتية، فيما استبعدت ايران، التي كانت اول الواصلين الى المنطقة لأسباب مذهبية.
شكلت الحروب الافغانية بمختلف فصولها بدءاً من صعود تيارات اسلامية مختلفة، الى تراجعها لمصلحة «طالبان»، ثم الى انهيار «طالبان»، دينامية دينية في الدول المجاورة لأفغانستان (طاجيكستان واوزبكستان وتوركمانستان) وباقي دول المنطقة ما جعل الروس يتوجّسون خيفة من السلحفاة الاسلامية التركية والوهابية، وهي تتقدم في آسيا الوسطى، مخترقة القشور العلمانية، بحيث باتت تشكل خطراً على الامن القومي لروسيا والتي يبلغ عدد المسلمين فيها نحو 15 في المئة من السكان.
في جنوب روسيا، وتحديداً في القوقاز، وحوض الفولغا (المنطقة الواقعة ما بين البحر الاسود وبحر قزوين) اطلت مشكلة الشيشان فور انهيار الاتحاد السوفياتي وسببت حرباً دموية تدميرية، كما توسع الاسلام الوهابي في داغستان وانغوشيا وتتارستان، وما زال النموذج القاعدي يقفز بين وقت وآخر ليظهر داخل جمهوريات الاتحاد الروسي من خلال إمارة القوقاز التي يقودها دوكو عماروف مستغلاً المناخ الاسلامي المتناسب مع وجود «حزب العدالة والتنمية» في السلطة في تركيا. بعد الهجمات الانتحارية في مدينة كالازار شمال داغستان فجرت امرأة انتحارية حزاماً ناسفاً في منزل احد كبار رجال الدين الصوفيين الشيخ سعيد اتساييف في 28 آب 2012 في قرية تشيركي في داغستان، ما ادى الى مقتله وسبعة آخرين، كما فُجّرت سيارتان في «محج قلعة» عاصمة داغستان في 21 ايار 2013. هذه التفجيرات أعادت خطر «القاعدة» واخواتها الى الواجهة في روسيا، لا سيما ان احداث الشيشان وتفجير مسرح موسكو ما زالت حاضرة في الحسابات الامنية والسياسية الروسية.
في الوقت الذي تهدد الحركات الوهابية القوقاز وتتقدم القوى الاسلامية للسيطرة على السلطة ديموقراطياً في اوزبكستان، اكبر دولة في آسيا الوسطى، من حيث عدد السكان، ما تزال الحرب في سوريا مشتعلة ويدخل فيها «حزب العدالة والتنمية» التركي كطرف أساسي ضد النظام السوري، بعدما انقلب على كل الاتفاقات والعلاقات المميزة بين البلدين. سارعت تركيا «العدالة والتنمية» الى احتضان المعارضة السورية السياسية وتم تشكيل «المجلس الوطني» في اسطنبول برعاية تركية أعطت «الاخوان المسلمين» غالبية واضحة. لكن الأخطر كان احتضان المعارضة المسلحة والتدخل من أجل شق القوات المسلحة السورية، فقامت تركيا برعاية «الجيش السوري الحر» وأمنت له الملاذ الآمن في تركيا وعلى الحدود مع سوريا بالاضافة الى التسليح والتجهيز، كما لم يعد سراً أن تركيا تستضيف على ارضها عملاء CIA حسب ما نشرت «نيويورك تايمز». وفي هذا المجال اورد موقع الاستخبارات الاسرائيلية «دبكا» أن الجنرال بترايوس المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية CIA اتفق مع المسؤولين الاتراك ان يعهدوا الى ضباط في الجيش التركي بتنظيم المعارضة المسلحة وتدريبها وقيادتها، في حين جاءت «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة» بتنظيمها المتين، وتراتبيتها القيادية، وتسليحها المتطور لا سيما القيادة والسيطرة والاتصالات، بدعم تركي واضح.
على صعيد الاتصالات جهّزت المعارضة السورية، خصوصاً «جبهة النصرة» بأحدث وأعقد أجهزة الاتصالات التي استعملت في بابا عمرو واستمرت بعد سقوطه، وما تزال تعمل في القصير، رغم محاولات التشويش عليها. اصبحت تركيا المدعومة من اوروبا والولايات المتحدة وبعض دول الخليج، في مواجهة مباشرة مع سوريا وهي تستعمل كل الإمكانات التي تسخرها الدول الداعمة بما فيها تنظيم «القاعدة» الذي يتمتع عناصره بتسهيلات مرور عبر الدول، خصوصاً الاوروبية للوصول الى سوريا بالإضافة الى التسليح والتمويل.
المواجهة التركية السورية لا يسمع صداها في الدول العربية فقط، بل يصل دويها الى القوقاز وآسيا الوسطى ايضاً. ان انتصار تركيا «العدالة والتنمية» في سوريا واحلال قوى اسلامية في السلطة سيعطي دفعاً للحركات الوهابية المتشددة في تحركها في القوقاز للانفصال، وانشاء امارات اسلامية، وفي آسيا الوسطى للوصول الى السلطة في دولها الخمس، وهذا ما يشكل خطراً جدياً وحقيقياً على الامن القومي الروسي. تجدر الاشارة الى ان ثلاث دول في آسيا الوسطى هي اوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان تدخل في نزاع مع حركات اسلامية داخلية قوية.
اصبحت آسيا الوسطى الحديقة الجنوبية لروسيا، وهي ايضاً الحديقة الشمالية للصين، حيث يطالب «الايغور» المسلمون بالانفصال. ان اي سيطرة اسلامية في اسيا الوسطى سوف تدق ناقوس الخطر في الصين (اقليم تشينغ تشانغ) وروسيا (القوقاز وحوض الفولغا).
اتخذت روسيا منذ بداية الازمة السورية موقفاً مؤيداً بشدة للنظام السوري اخطأ الكثيرون تقديره، اذ اعتبره البعض مؤقتاً سرعان ما يتغير ويسقط النظام في سوريا، فيما ذهب البعض ممن هم في السلطة في بعض الدول، الى انه يمكن تغيير الموقف الروسي بمساعدات مالية كبيرة او استثمارات كبيرة او صفقات اسلحة. لكن الموقف الروسي لم يتغير ومارست روسيا والصين حق الفيتو ثلاث مرات وأوفت بعقود التسليح مع سوريا وهي تقلب الموازين بالإعلان عن نيتها بتزويد سوريا بصواريخ S300 المضادة للطائرات.
اتخذت تصريحات المسؤولين الروس في بعض الأحيان بعداً استراتيجياً لافتاً، فقد قال الناطق بلسان الخارجية الروسية: «انه يترتب على نتائج المواجهة في سوريا شكل النظام الامني الدولي الجديد». بدا أن هم روسيا الاساسي هو منع تركيا من تحقيق اي نصر في سوريا، لانه يشكل خطراً على الامن الروسي، ولهذا رأينا روسيا تقيم قاعدة في طرطوس هي الوحيدة في المياه الدافئة، وتنفذ مناورات عسكرية في البحر الابيض المتوسط، وتكثر زيارات سفنها الى الموانئ السورية تعبيراً عملياً عن دعمها لسوريا.
حاولت روسيا كثيراً مع المعارضة السياسية للتوصل الى تسوية سياسية سلمية للأزمة السورية واستقبلت مرات عديدة وفوداً معارضة، لكنها لم تلمس تجاوباً منهم. اعلن كثيرون من المعارضين بعد لقائهم مسؤولين روس رفضهم للحوار مع النظام ولأي تسوية معه، وهذا يعني إصراراً من المعارضة وداعميها على الاستمرار بالحرب بغية إحداث تغيير استراتيجي في سوريا يقلق الروس ويهدد أمنهم.
كأنما الأزمة السورية تقع على حدود روسيا او داخلها، أو كأنما روسيا تواجه هجوماً عليها. هذه هي الصورة الحقيقية التي يراها الروس في سوريا، وبناء عليها تتخذ القيادة الروسية قراراتها، وكل مراهنة على غير ذلك، خصوصاً إدخال أوهام وأمنيات الى التحليل السياسي، تودي بصاحبها الى الخطأ، والخطأ يكون قاتلاً إذا ارتكبه قائد مسؤول.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى