زيارة جديدة إلى اسطنبول

يفصل تركيا أسبوع واحد عن المؤتمر المقبل لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، الذي سيعلن فيه اسم رئيس الوزراء الجديد، بعدما قدم رئيس الوزراء الحالي أحمد داود أوغلو استقالته بضغط من زعيم تركيا الأوحد رجب طيب أردوغان. تعيش البلاد حالة من الانتظار والترقب، فاحتمالات المستقبل القريب مفتوحة على مصراعيها. طموحات أردوغان لا تتوقف على استبدال رئيس الوزراء فحسب، بل على استبدال الدستور وتحويل البلاد إلى جمهورية رئاسية. استحالت «التجربة التركية» بملابساتها ورموزها ونجاحاتها وإخفاقاتها «تجربة أردوغانية» لا تتورع عن مواجهة الجميع: الأقربين منهم والأبعدين. تعيش تركيا قلقاً غير مسبوق: الصراع التركي ـ الكردي في جنوب شرق البلاد يتصاعد، الحدود مع سوريا والعراق لم تعد آمنة، علاقات تركيا والاتحاد الأوروبي ومن ضمنها الاتفاق حول اللاجئين السوريين على «كف عفريت». تحولت أحلام «الربيع العربي» وقيادة تركيا للمنطقة على جناحه إلى كوابيس من العزلة.

جولة في اسطنبول التاريخية

تقترب الطائرة من اسطنبول فتأخذك المدينة بروعتها من الأعالي وبالتمازج العبقري بين الخضرة وقباب المساجد والماء، في خليط فريد يندر أن تراه في أي مكان بالعالم. وعندما تحط بك الطائرة في المطار ينخلع قلبك، كما في كل مرة سابقة، لأنك تخال الطائرة هابطة في الماء بسبب القرب الشديد للمطار من مضيق البوسفور. لم يعد الزحام في شوارع وطرقات المدينة يدهشك، ولا الساعة التي تقطعها من المطار إلى حيث الفندق في وسط المدينة، فهذا أمر طبيعي في مدينة تحتضن خمسة عشر مليوناً من المواطنين.

شُيدت اسطنبول تاريخياً على شبه جزيرة فيها تلال سبع ولها أطراف ثلاثة هي: مرمرة والبوسفور والخليج. كانت اسطنبول عاصمة الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية لمدة ألف وستمئة سنة متتابعة، وتعاقب على حكمها مئة وعشرون ملكاً وسلطاناً، وهيّأ لها موقعها الجغرافي أن تربط بين قارتي آسيا وإفريقيا. فالجزء الأكبر من تركيا أي أكثر من 97 في المئة من مساحتها يقع في آسيا، في حين تقع النسبة الباقية في أوروبا. يمر على خاطرك أن ثلاث دول فقط في العالم هي التي تتوزع جغرافيتها على قارتين، روسيا تتوزع على آسيا وأوروبا وتركيا كذلك، ومصر التي تتوزع مساحتها على أفريقيا وآسيا التي توجد فيها شبه جزيرة سيناء. كانت قسطنطينوبوليس، أو اسطنبول، مدينة مسيحية بيزنطية قبل أن يفتحها السلطان العثماني محمد، والذي ذهب في التاريخ باعتباره «محمد الفاتح» بسبب ضمّه للمدينة إلى إمبراطورية العثمانيين. التلال السبع التي تأسست عليها اسطنبول محاطة بالغابات، أما السواحل التي تحاصرها فهي مزينة بالقصور الجميلة وبعضها يعود إلى حكام مصر الخديويين والطبقة العليا المصرية آنذاك.

يسكن ثلث المواطنين في الجانب الآسيوي من المدينة والجزء الآخر في الجانب الأوروبي منها، ويصل بين الطرفين جسر كبير ذهب رمزاً تاريخياً وسياسياً. وتطل اسطنبول على أصغر بحر في العالم وهو بحر مرمرة الذي يربط البحر الأسود الواقع في شمال تركيا بمضيق البوسفور، ومنه إلى بحر إيجة الذي يفصل بينها وبين اليونان، ومن ثم أخيراً إلى البحر الأبيض المتوسط. تتأمل المشهد من نافذة غرفة الفندق المطل على بحر مرمرة، فتجد نفسك معلقاً بين السماء والأرض. مثلك الآن مثل تركيا: على البرزخ بين عالمين. تذهب إلى موعد مع أصدقاء بالقرب من مسجد السلطان أحمد، فتعرج عليه أولاً قبل حلول الموعد. يطلق على المسجد أيضاً اسم «المسجد الأزرق»، بسبب استعمال الزخارف ذات اللون الأزرق الذي يمتد إلى الزجاج المثبت على مئتي نافذة تسمح بمرور الضوء إلى داخل المسجد، الذي تطغى على سجاجيده الفاخرة اللون الأزرق. للمسجد ست مآذن تحفظ له شكله المميز والذي ذهب رمزاً للمدينة العريقة، أما قطر القبة المركزية فيه فتبلغ مساحته ثلاثة وعشرين متراً ونصف المتر وطوله حوالي ثلاثة وأربعين متراً. تأخذك النقوش المثبتة على القباب والأعمدة الداخلية، وتعلم لاحقاً أن ما يقارب عشرين ألفاً من أمهر الصناع والنقاشين قاموا على مدار خمسة عشر عاماً بصناعتها. تخرج من المسجد لتستقبلك رحابة الفناء الخارجي والأشجار المحيطة به، فتعيد الكيس البلاستيكي الذي وضعت نعليك فيه، وتتوجه إلى موعدك.

حوار في اسطنبول السياسية

تلتقي الأصدقاء بعد غياب. السياسة حاضرة ومتوهجة في اسطنبول السياسية. تعتقد أستاذة العلوم السياسية أن أردوغان كان بارعاً بالسنوات الأولى في إحداث اختراق اقتصادي رفع مستوى المعيشة، برغم أن الحراك الداخلي تمحور في السنوات الأولى لحكم الحزب الحاكم حول قضية الحجاب بين مؤيد ومعارض. وكانت لمسألة الحجاب رمزية مهمة في تركيا العلمانية، ولكن على الجانب المقابل لم يكن جائزاً الانحدار بمستويات الحراك السياسي في المجتمعات إلى مستوى مع الحجاب أو ضده، على حد تعبيرها. فالحراك السياسي الطبيعي يقوم بين أحزاب وتيارات سياسية ذات أيديولوجية وبرامج مختلفة تسعى جميعها للوصول إلى السلطة ببرنامج سياسي واقتصادي يستند إلى مصالح قطاعات وشرائح مجتمعية بعينها. كما جرى العرف على تحديد القوى الاجتماعية المؤيدة لهذا الحزب أو التيار وقياس خدماته لها، وبالتالي تصنيف الحزب إلى يمين أو وسط أو يسار. وبتطبيق ذلك على حزب «العدالة والتنمية» كان واضحاً منذ البداية أنه حزب يميني محافظ يتحالف داخلياً مع رجال الأعمال والشرائح العليا في المجتمع التركي، مع احتفاظه بالتحالفات الخارجية والإقليمية لتركيا ذاتها، مثله في ذلك مثل أحزاب اليمين التقليدي التركية. على هذا خسر اليمين التقليدي مواقعه في المشهد السياسي التركي لمصلحة الحزب الحاكم، في حين افتقر اليسار إلى المشروع القادر على مواجهة اليمين المتمثل أساساً في «حزب العدالة والتنمية». بعدها ربح أردوغان سنوات أخرى من مواجهته مع المؤسسة العسكرية التركية والمحاكمات التي تمت لأبرز رموزها بتهمة تدبير انقلاب، وهنا أيضاً حاز أردوغان على دعم قطاعات شعبية من خارج حزبه أيضاً، نظراً للتدخلات التاريخية لهذه المؤسسة في الحياة السياسية على مدار تاريخ الجمهورية التركية.

ويعتقد غالبية من الأصدقاء ـ من معارضي أردوغان ـ أن براعته في تحديد «مسائل الخلاف العامة»، سواء الحجاب أو الجيش أو جماعة فتح الله غولين لاحقاً، جعلته ممسكاً بزمام المبادرة السياسية الداخلية في مواجهة خصومه. ويعتقدون أيضاً أن المعارضة الحقيقية لأردوغان بدأت مع طموحه العارم للعب أدوار خارج حدود تركيا على جناح «الربيع العربي»، ليس لأن المعارضة امتلكت مشروعاً سياسياً منافساً، ولكن لانكشاف الثقوب الكبيرة بين أحلام أردوغان والواقع على الأرض. وحتى اللحظة يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن المعارضة التركية لأردوغان تستند إلى معاقل تاريخية أكثر بكثير من استنادها إلى أفكار سياسية متكاملة في مواجهة أردوغان ومشروعه. والمثال هنا «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي يمثل طموحات أكراد تركيا السياسية والثقافية والقومية والمتركز جهوياً على جنوب شرق تركيا معقل الأكراد، وكذلك «حزب الشعب الجمهوري» العلماني وصاحب الشعبية في معاقله التاريخية بمدن الغرب التركي. كلاهما يشكل معارضة معتبرة لأردوغان بين جمهوره، وكلاهما لأسباب ذاتية وموضوعية يفتقر إلى القدرة على مخاطبة عموم الشرائح التركية.

الخلاصة

تعيش اسطنبول ومعها تركيا حالة ترقب وانتظار من نوع جديد، فهي لا تنتظر مجرد رئيس جديد للوزراء، وإنما مرحلة انتقالية مباشرة بعد إعلان اسمه. ومرد ذلك أن طموحات أردوغان العارمة لن تتوقف عند هذا الحد بل تتجاوزه إلى تغيير أسس النظام السياسي التركي عبر تغيير الدستور. نجح أردوغان ـ حتى الآن ـ في فرض رؤاه ورغباته على حزبه وعلى المجتمع التركي، عبر تسييد مسائل عامة تخدم مصالحه مثل الحجاب ومواجهة المؤسسة العسكرية، فربح سنوات عراض في السلطة تواكبت مع نجاحات اقتصادية لا يمكن إنكارها. الآن يصطدم الطموح العارم لأردوغان بحدود المتاح دستورياً (حزبه لا يملك الأغلبية اللازمة لتعديل الدستور)، وبخصوصية المجتمع التركي الجهوية والعرقية (النظام البرلماني يسمح لفسيفساء المجتمع التركي بنصيب من السلطة السياسية على عكس الرئاسي). فإذا افترضنا جدلاً أن انتخابات برلمانية مبكرة قادرة على حسم مسألة الأغلبية، تبدو مسألة الانتماءات الفرعية في تركيا عرقياً وجهوياً وطائفياً التي وجدت طريقها للتمثيل السياسي منذ تأسيس الجمهورية في سلطة برلمانية ضمن خمسمئة وخمسين مقعداً، عصية على الذوبان في سلطة رئاسية يقبض على زمامها رجل واحد!

فلتـــجلس على البوسفور متأملاً الحــركة في البوغاز، ولتنتظر مع اسطنبول ما سيأتي به الأسبوع المقبل.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى