سـوريـا تـبـاع قـطـعـة قـطـعـة (نبيل نايلي)

 

نبيل نايلي

مـا يتعـرّض للنّهـب ليـس تاريـخ سوريـا، فحسـب، بـل تاريـخ الإنسانيـة جمعـاء! قبـل بدايـة الصـراع المسلـّح كـان ناهبـو الآثـار يقومـون بحفرياتهـم ليـلا، أمـا اليـوم فهـم يقترفـون جرمهـم فـي وضـح النهـار.
تأجّجت شرارات الانتفاضات الشعبية في سوريا كما في باقي الأقطار العربية تحت عناوين واضحة ومن أجل أهداف سامية كالحرية والكرامة والسيادة الوطنية، واسترداد الوطن من براثن النظم الحاكمة. استرداده أوّلا، والحفاظ عليه وصون ذاكرته وتاريخه، ثانيا. ذلك ما ترجمه حرص بعض الشباب العربي المنتفض، في مصر مثلا، ليشكّل الدروع البشرية تلقائيا، واللّجان الشعبية وحركات «ثوار الآثار»، ليحمي بصدوره العارية المؤسسات والمتاحف والمكتبات الوطنية، يوم هجرتها قوات «الأمن الوطني» لتتركها فريسة لمافيا تجار الآثار والمخطوطات العالمية ولعصابات مأجورة مهمّتها التخريب والعبث بتاريخ الأمم. هؤلاء الذين تركوا، عن طيب خاطر، شرف الوقوف بساحات التحرير حيث الأضواء، ليكتفوا بشرف الحفاظ على ذاكرة الوطن، دون فخار أو مزايدة أو «استثمار» في غد انتخابي، وحدهم من لهم الحق في الانتساب للمسار الانتفاضي و الانتماء للوطن. لا منسّق ما يسمّى «بالجيش السوري الحر»، السيد أبو محمد حمد، الذي يحاول أن يبرّر بيع آثار سوريا بقوله: «لقد تركونا نواجه جيشا بأكمله ونحن العزّل دون مساعدة من أحد… من حقّنا أن نوظّف كل الموارد التي نجدها»! ولا هذا المنشقّ، المكنّى بأبي ماجد، الذي يصرّح لـ«الواشنطن بوست»، محاولا تبرير النهب، قائلا: «قد يحكم علينا الناس وينعتوننا باللّصوص، ولكن في بعض الحالات عليك أن تضحّي بالماضي لتأمين المستقبل»!
أي «ثائر» هذا الذي ينهب ويسرق الكنوز الأثرية والتراث الإنساني السوري، ذاكرة البلاد الوطنية، ويبيعها لـ«شراء الأسلحة ومواصلة القتال ضد الأسد»؟ صحيفة «واشنطن بوست» تقول إن سوريا «أضحت مرتعا للصوص والناهبين، وإنّ عمليات الشحنات المهرّبة إلى داخل سوريا من الدول المجاورة، أصبحت تشمل إضافة للذخيرة والأدوية، أجهزة الكشف عن الذهب والمواد الأثرية والمعاول»! أحد هؤلاء «الثوار» جدا جدا قال : «في أيام نحن مقاتلون، وفي أيام أخرى نحن منقّبون عن الآثار»! ليفاخر بعدها «استطعت الكشف عن لوحة تعود للعصر البرونزي عليها نقوش باللغة السومرية، في بلدة ايبلا»!
تقرير «الواشنطن بوست» يدمي القلب وهو يتحدّث عن «انضمام مقاتلين إلى شبكات التجارة السرّية التي تتولىّ نهب وسرقة وترويج تراث سوريا في الأسواق السوداء. هل يشفع لهؤلاء «الثواّر» وهل تبرّر قلّة حيلتهم وشحّ مواردهم التفريط في تاريخ بلدهم؟ متى سيفرّق «ثوار» هذا الربيع العصي على كل قوانين الطبيعة، فضلا عن قوانين الفعل الثوري، أن النّظم التي يثورون عليها ويرفعون السلاح من أجل إسقاطها، بل ويستجدون المستعمرين وحلف شمال الأطلسي نصرتهم عليها، ليست مطلقا ولن تكون هي الأوطان التي يحرقونها! كيف يخلطون بين الحاكم والوطن، إلى حدّ تشريع تصفية خيرة علمائنا وخبرائنا وطيارينا، واستباحة دور العلم والمنشآت العامة والمخابر ومصانع الأدوية والبنى التحتية؟ كيف يسوّل لهؤلاء حرق مستوصفات ودور عبادة وأضرحة ومقامات، وهم يوشّحون راياتهم بكلمات التوحيد وبإسم الرسول المصطفى.
تكتب الدكتورة حياة الحويك عطية ناعية تراث العراق لتقول في مرارة: «في بغداد كانت حرب الذاكرة هي الأشرس، لأن الذاكرة هناك هي الأشرس، ولا تتسع مجلّدات لما أصابها من دمار. امتد الاقتلاع من «أور» التي لم ينفعها إدراجها على قائمة التراث الانساني إلى كل حجر وطين ومخطوطة وإلى كل مبنى يحمل طبقات من الحياة الشعبية التي تعني قصة الإنسانية منذ صرختها الأولى». ثم بلغنا بعدها نبأ الجرافات التي أعدمت شارع أبو نؤاس… ليبكيه كل عربي من الجيل الذي كانت له علاقة بالذاكرة وبالحياة وبالثقافة.»
لم تندمل بعد جراحات المتحف الوطني العراقي ومكتبة مخطوطاته التي فقدت كنوزا لا تُقدّر بثمن. أُتلفت أو التهمتها النيران على مرأى ومسمع من القوات الأميركية الغازية، حتى بلغنا النبأ الجلل: حرق دار العلوم المصرية وتحوّل ما يقارب من 200 ألف مخطوطة نادرة ونفيسة إلى كومة من الرماد! إضرام النار بدار العلوم، الكارثة الوطنية بكل المقاييس. كلاّ، لم يبالغ الخبراء والمختصّون حين اعتبروا أنّ ما حلّ بدار العلوم كارثة وخسارة وطنية لا تعوّضان. إذ رغم الجهود الجبارة لإنقاذ ما أمكن إنقاذه من تراث مصر، تم فقط التمكّن من نقل 25 ألف كتاب ووثيقة إلى دار الكتب والوثائق القومية، بينما أتلفت ألسنة اللهب حوالى 192 ألف كتاب ومخطوط أثري، من ضمنها 10 أجزاء من أصل 22 جزءا من النسخة الأصلية لكتاب «وصف مصر». المخطوط الشهير الذي ألّفه العلماء الفرنسيون إبان الحملة الفرنسية على مصر. بالإضافة للخرائط الأصلية لترسيم حدود مصر والتي تم الاستناد إليها خلال التحكيم الدولي لاستعادة «طابا»، مع مجموعة من الخرائط الأخرى لحدود مصر منذ العام 1800. بحرقة وألم شديدين، ينعى كاتب من مصر، اسمه محمد الغيطي، المجمع العلمي، قائلا: «المجمع ليس مجرّد مبنى يضم كنوز العلم وتاريخ البحث العلمي المصري وعيون وأمهات الكتب العلمية، لـ«40» ألف كتاب لا نظير لها في العالم تم حرقها جميعاً. المجمع العلمي لمن لا يعرف كان أول بذرة وضعها محمد علي لبناء مصر الحديثة، كان أول مصباح نور في ظلام المنطقة العربية والإسلامية بل وفى الشرق الأوسط!». ذلك ما جعل الدكتور أحمد زويل، العالم والحائز على جائزة نوبل للعلوم، يناشد دامع العينين، في رسالته المطولة التي وجهها إلى «شعب مصر العظيم» و«شباب مصر العظيم» و«جيش مصر العظيم»، إلى تحمّل المسؤولية من أجل مستقبل مصر.
ليبيا هي الأخرى لم تسلم من العبث المنظّم لتتعرّض كنوزها الأثرية وتراثها التاريخي للنّهب. في غمرة الفوضى والفراغ الأمني، تمّت سرقة نحو 8 آلاف قطعة من العملات المعدنية القديمة والمجوهرات والتماثيل النادرة التي تم الإستيلاء عليها من قبو أحد البنوك في شرق ليبيا. عالم الآثار البريطاني المتخصص في الآثار الليبية، بول بينيت، لم يتردّد في التعليق قائلا: «هذه أكبر سرقة نمت إلى علمي!» ما سلم يومها من عصابات اغتيال الذاكرة، لم تسعفه عمليات التجريف التي طالت مناطق أثرية بأكملها.
يأتي اليوم الدور على سوريا وذاكرتها. بعد أن أُضرمت النار في أسواق حلب القديمة المسقوفة، أقدم أسواق في المنطقة، وأطول أسواق مسقوفة في العالم بعد سوق إسطنبول، تمّ تحويل أماكن تاريخية إلى ساحات حرب، ودُمّرت القلاع كقلعة حلب وقلعة الحصن. النّهب المنظّم استهدف المتاحف وتحفها النادرة. فكان أن تعرّض 12 متحفا من بين 36 متحفا، لعمليات سطو، ولا يزال الخطر متفاقما كلّما ازداد الوضع الأمني تردّيا. لا يبالغ الدكتور مأمون عبد الكريم، مدير الآثار والمتاحف في سوريا، حين يصرّح: «ما يتعرّض للنّهب ليس تاريخ سوريا، فحسب، بل تاريخ الإنسانية جمعاء! قبل بداية الصراع المسلّح كان ناهبو الآثار يقومون بحفرياتهم ليلا، أما اليوم فهم يقترفون جرمهم في وضح النهار! «
هل يكون «الأمر في عمقه حقدا على الحضارة، حضارة هذه المنطقة الألفية، سومرية كانت أم بابلية، أكادية أم أشورية، كنعانية أم فرعونية، أموية أم عباسية أم فاطمية أم أيوبية؟ حقد من لا يملك على من يسبح في الغنى. وعندما يكون الثراء هو ثراء حضاري تاريخي ثقافي، والفقر كذلك، فلا الأموال ولا القوة تستطيعان تعويضه. لا شيء يعوّض إلا التدمير. أما بالنسبة للصّهاينة فقد لخّص بيغن كل المعادلة بيننا وبين جماعته حين قال عام 1993: «حتى لو حصل سلم بيننا وبين العرب، فان الحرب بين الحضارة العربية والحضارة اليهودية ستظلّ قائمة إلى أن تسيطر إحداهما على الأخرى!»
يا سادة، التراث التاريخي السوري، الذي تبلغ مأساته حدّ قول مهرّب وتاجر الآثار، محمد خليل: «دمشق تباع هنا بعمان، قطعة قطعة!»، كما التراث التاريخي العراقي كما تراث ليبيا، كما مكتبة مصر وكل ساحات العرب المستباحة يتعرّض للنهب والحرق والإتلاف… ألاّ نذود عنه ونحميه، نكون نفرّط في آخر الحصون: ذاكرتنا الوطنية… لا خير في حراك ثوري يتغاضى عمّا يتهدّد تراثنا، فما بالك إذا كان يقايض ماضينا بمستقبل لا يملك حتى ملامحه؟
الأمم لا تموت إلاّ إذا قررت هي بنفسها الانتحار!

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى