سلاح الطيران والعصر الأميركي الجديد

كتب الكولونيل مايك بيتروشا وزميله النقيب جيريمي رينكن من سلاح الجو الأميركي مقالة لافتة في الموقع الإلكتروني الأميركي «وور أون ذا روكس»، المتخصص في قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي الأميركي. يحاجج الكاتبان بأن سلاح الجو الأميركي يتقدّم في أهميته على القوات البرية، وأن على أميركا توجيه مواردها الدفاعية لمصلحة القوة الجوية. قد يبدو الموضوع تقنياً عسكرياً بحتاً من الوهلة الأولى، لكنه يكشف في الواقع أبعاداً سياسية بامتياز تؤثر على الصراعات الدائرة في المنطقة وعلى مستقبل الانخراط الأميركي فيها. وتفسر المقالة أيضاً ـ من حيث لا يحتسب ـ السلوك الأميركي حيال تنظيم «داعش» والتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن في مواجهته والأهداف الحقيقية له. يسير الكاتبان العسكريان في موجة الميل الأميركي المتزايد ـ الذي تتبنّاه إدارة أوباما بوضوح ـ للنأي بالنفس عن الانخراط العسكري المباشر في صراعات المنطقة، في ضوء النتائج السياسية المخيّبة للآمال الأميركية بعد احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003. ويعترف الكاتبان أن القوات البرية الأميركية لم تفلح في تحقيق الأهداف المرسومة، بل ورّطت رئيسين أميركيين في حروب برية وكان عليهما الاختيار بين الخسارة الآن أو تأجيل الخسارة إلى وقت لاحق. وحتى ينفذ الكاتبان إلى ضرورة الاعتماد أساساً على القوة الجوية، يذهبان إلى أن الإخفاق العسكري الأميركي خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، يوجب إعادة تشكيل القوة العسكرية الأميركية تجاه نقاط قوتها أي القوة الجوية، وليس التورط البري كما جرى في أفغانستان والعراق من قبل.

القوة البرية: نموذج انقضى

حتى يرسّخ الكاتبان فكرتهما، يبدآن أولاً من انتقاد القوة البرية، ويشككان في نجاعتها بتحقيق الأهداف السياسية المرسومة. يلاحظ الكاتبان أن نظريات الحرب البرية الكلاسيكية تعتمد على اعتقاد مفاده أنه لا سلاح آخر قادر على الانتصار في الحروب، لأن سلاح الطيران لا يستطيع الإمساك بالأرض والتصرف كقوة محتلة، ولا تستطيع ذلك القوة البحرية أيضاً. لكن الكاتبين يعتقدان أنه ليس كل المعارك يجب حلها عبر احتلال الأراضي، وليست كل الحلول السياسية بحاجة لاحتلال عسكري لإسنادها. ولا يقلل ذلك من أهمية القوة البرية في القارة الأوروبية مثلاً كما يرى الكاتبان، حيث يستند التهديد الروسي دوماً على قوة برية، وكنتيجة يُعدّ حضور القوة البرية الأميركية في أوروبا وكوريا مفتاحاً للاستقرار هناك. وينعى الكاتبان على القوة البرية أنّها تتحرّك ببطء وتغادر بشكل أبطأ حتى، ومتى تموضعت في مكان فإنها تحتاج إلى دعم كبير، ومتى التحمت في معارك فمن الصعوبة بمكان فض الالتحام.

القوة الجوية وأميركا الحديثة

اعتمدت أميركا لقرن كامل على القوة الجوية والقوة البحرية في عملياتها خارج حدودها، ومرد ذلك أن جغرافيا أميركا شاسعة ومحاطة بمحيطين كبيرين، وأن عدم وجود عدو لها في قارتها يجعل تحدّيها ممكناً فقط من على مسافات بعيدة من أعداء يمكنهم نظرياً ضرب أميركا من الجو والبحر والفضاء والفضاء الالكتروني ولكن ليس من البرّ. نجحت القوة البحرية في تثبيت أميركا كقوة صاعدة في نهاية القرن التاسع عشر، وبعدها بنصف قرن فقد رسخت القوة الجوية أميركا كإحدى القوتين الأعظم في العالم. في الحرب العالمية الثانية أظهرت أميركا وسلاحها الجوي الحديث والمتفوق قدراتهما بشكل لافت، حيث استطاع سلاح الطيران قنص الغواصات في المحيط المفتوح وأفلح في إعطاب الآلة الصناعية النازية، وضمن التفوق الجوي لتسهيل الإنزال البري للقوات المتقدمة صوب الأراضي الألمانية. كما أن قصة الحرب مع اليابان تؤيد على نحو قاطع – من منظور الكاتبين – أهمية القوة الجوية والقوة البحرية اللتين عزلتا اليابان وعوّقتا إمداداتها وثبتتا قواعد جوية للانطلاق منها نحو أهداف على الأرض اليابانية، وذلك حتى قبل استخدام القنبلتين الذريتين من الجو. لم تربح القوات الجوية وحدها الحرب مع اليابان، لكن أميركا لم تستخدم جندياً أميركياً واحداً على الأرض اليابانية الأم.

حدود القوة الجوية

استخدمت أميركا وفرنسا في حرب فيتنام القوة البرية للسيطرة على السكان، فأظهرت تلك الحرب أن القوة البرية هي كعب أخيل للقوة العسكرية التقليدية، لان الخسائر البشرية في الخارج تفرض حتميات سياسية في الداخل الأميركي وتنزع دعم الرأي العام للحرب. كما أظهرت حرب فييتنام أن أي قوة معادية يمكنها انتزاع انتصار استراتيجي في حال صمدت أمام القوات البرية الأميركية ولم تستسلم. ويعتقد الكاتبان أن الجسر الجوي الأميركي لمساعدة إسرائيل في حرب العام 1973 ضد القوات المصرية والسورية ساهم إلى حد كبير في تقليل فداحة الخسائر الإسرائيلية. هكذا أثبتت القوة الجوية والقوة البحرية الأميركية نجاعتهما في ردع الخصوم، وفي إظهار التزام أميركا بأمن تحالفاتها الدولية. ومن هناك ينطلق الكاتبان إلى حربَيْ أفغانستان والعراق، حيث عمدت أميركا بعد أربعة أسابيع فقط من أحداث الحادي عشر من أيلول إلى استخدام القوة الجوية بالتعاون مع «قوات التحالف الشمالي» و «القوات الخاصة الأميركية» وبعض القوة البرية، حيث فقدت «طالبان» السلطة في كابول وفي كل المدن الأفغانية الحدودية وحلّت محلها «الحكومة الانتقالية». لكن عدم استسلام «طالبان» نهائياً جعل الأمور تزداد سوءاً في أفغانستان، برغم سقوط ألفي عسكري كخسائر بشرية أميركية وبرغم تكلفة تقدر بحوالي سبعمئة مليار دولار. أما في العراق، فقد تحولت أميركا من استعمال القوة الجوية إلى استعمال القوة البرية لاحتلال البلد، وكانت النتائج في غير مصلحتها، وحتى الاحتلال لفترات طويلة لم يساعد على تحقيق الأهداف السياسية الأميركية هناك. ويعتقد الكاتبان أن العراق اليوم مسيطر عليه إيرانياً، وغير قادر على الدفاع عن أراضيه ويشكل ساحة خصبة للمتطرفين. وبعد مرور اثني عشر عاماً على احتلاله، يعدّ الوضع في العراق والمنطقة أسوأ كثيراً عما كان عليه قبل احتلاله. وإذ كلفت عمليات منطقة حظر الطيران ملياري دولار سنوياً فقط، إلا أن أميركا خسرت بعد الاحتلال خمسة وثلاثين ألف عسكري، منهم خمسة آلاف قتيل وتكلفة مادية قدرت بحوالي ثمانمئة مليار دولار وعراق غير قادر على الدفاع عن نفسه. كما تسبب الاحتلال في قيام مجموعات مسلحة انتشرت عبر الحدود في دول المنطقة.

مقاربة جديدة

في ليبيا استخدمت أميركا القوة الجوية فقط ونجحت في تدمير جيش القذافي ـ كما يقول الكاتبان ـ ثم توقفت بعد عشرة أيام من مقتله وكلفت حوالي مليار دولار. وبرغم من أن النتيجة ليست مشجعة، إلا أن أميركا لم تخسر عسكرياً واحداً كما أن التدخل البري لم يكن ليؤدي إلى نتيجة أفضل. في المقابل، فإن الضربات الجوية ضد تنظيم «داعش» هي نتيجة طبيعية للتعامل مع الفوضى الناجمة عن احتلال العراق. ويعتقد الكاتبان أن الضربات الجوية ضد تنظيم «داعش» أظهرت أنها البديل الأفضل من نشر قوات برية أميركية كبيرة مرة أخرى في العراق، برغم من أن هذه الضربات الجوية لم تفلح في وقف تمدد التنظيم الإرهابي في العراق كله، الذي تغلّب على القوات النظامية العراقية في مدينة الرمادي بسهولة. لكن الضربات الجوية أثبتت قدرتها على مساعدة القوات الكردية «البيشمركة» في سد الموصل وتلعفر وكوباني، التي أوقفت التنظيم واسترجعت أراضي منه.

الخلاصة

يعتقد الكاتبان أنه بعد تجربة ربع القرن الماضية يتوجب على وزارة الدفاع الأميركية أن تحول غالبية الموارد إلى القوتين الجوية والبحرية. وهما يريان أنه في حين ما زالت القوات البرية مطلوبة في أوروبا وكوريا، إلا أنها ليست مرغوبة في أماكن أخرى. ويفند الكاتبان انتقادات تقول إن القوة الجوية تسمح للسياسيين بـ «الغزل من دون التزام»، لأن استعمال القوة الجوية يمكن إيقافه بسهولة نسبية ما يسمح بتنوع خيارات السياسيين في المعارك، على العكس من القوة البرية. أما الاعتقاد بأن أميركا يجب أن تنخرط بشكل كامل في كل الحروب لتحقيق نتيجة حاسمة، فسيعني ذلك المزيد من الخسائر البشرية من دون ضمان فعالية النتائج. ويخلص العسكريان الأميركيان إلى أن توليفة من القوة الجوية ووحدات العمليات الخاصة ومجتمع الاستخبارات هي الأفضل لحروب أميركا الراهنة والمستقبلية لتحقيق السياسات الأميركية بعيداً عن القوات البرية وخسائرها المكلفة.

يبدو أن عصراً أميركياً جديداً قد بدأ بالفعل، لا يتخلى عن الوسائل العسكرية لتحقيق أهداف سياسية، وإنما يقلل إلى أقصى حد ممكن تورط أميركا المباشر في صراعات المنطقة. على ذلك لا تكمن أهمية المقالة في بعدها العسكري التقني، وإنما في تداعياتها السياسية المباشرة على صراعات المنطقة وتوازناتها!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى