سوريالية سياسية (نضال سعد الدين قوشحة)

 

نضال سعد الدين قوشحة

يؤمن كثيرون بالمذهب الإبداعي السوريالي ، وهو المذهب الذي ظهر في أوروبة ، بعيد نهايات الحرب العالمية الثانية ، بمبادرة من العديد من القامات الفكرية والفنية الأوروبية آنذاك . منهم أندريه بريتون وسلفادور دالي وسواهما . في المذهب السوريالي ، تتحطم القواعد الفنية ، التي قضى فنانون مؤسسون قرونا وعقودا في ترسيخها ، فالمبدع السوريالي ، يذهب لما يتخطى حدود هذه القاعدة العلمية الراسخة ، والمذهب لا يعترف بوجود قواعد ناظمة للإبداع . والرأي الغالب عنده ، أن الإبداع لا حدود عليه ولا سقف له . وللمبدع أن يأتي بما شاء من أفكار مهما تعارضت أو تناقضت مع منظومة القواعد الفنية الراسخة ، وربما أحيانا منظومة الأخلاق الموجودة في مجتمع ما .
طبعا ، كان لهذا المذهب مذ ولد ، مناصرون  وكذلك معارضون ، اعتبروه خروجا عن المألوف وكسر لقواعد فنية مستقرة وصحيحة ، والسجال مازال عنيفا بين الفريقين حتى اللحظة .
طيب ، ما علاقة السياسة في الموضوع ، هنا يبرز سؤال كبير ، هل هنالك سوريالية في السياسة . ولماذا يقبل الناس السوريالية في الإبداع ويرفضونها في السياسة . فكما أن للمبدع الحق في كسر قواعد الفن ، فيحق للسياسي أن يكسر قواعد السياسة . تعالوا نفترض أن برلمانا ما في دولة ما ، قد قرر بموجب قواعد سياسية محددة ومشروعة مسائلة الحاكم . بموجب القواعد السياسية يجب أن يلتزم الحاكم بمنظومة القواعد التي تحدد آلية هذا الفعل ، ولكن الحاكم بدل أن يخضع هو للمسائلة ، بحكم قواعد القانون ، يستطيع بنظرة سوريالية سياسية أن يقصف البرلمان ، ويسجن أعضائه ، وينفي آخرين وبالتالي يقدم نظرة مختلفة في حل هذه المسألة . مثال آخر ، لو أن الدولة في مكان ما ، قررت تخصيص مبالغ مالية ضخمة لمشروع ما ، سد أو محطة ذرية للطاقة أو مترو أو غيره . فالقاعدة القانونية السياسية ، ستكون بأن ينفق هذا الحاكم هذا المال فيما خصص إليه ، ولكن حاكما سورياليا ، سينظر للموضوع من وجهة نظر سوريالية , فبدل أن ينفق المال على المشروع التنموي المحدد ، سيتحول المال إلى رصيد شخصي له في أحد بنوك أوروبة أو أمريكا . لاحظو النظرة السوريالية الجميلة . ما شاء الله . أيضا ، مثال آخر ، لو عارض سياسي ما الحاكم في بلد محدد ، فإن القاعدة السياسية تقول ، أن الحاكم سوف يتحاور مع هذا القطب السياسي المعارض ، لكي يصلا إلى تفاهم ما ، يحفظ تماسك الحكومة ، وبالتالي الدولة ، ويتقاسمان السلطة ، لكن هذا الحاكم لو كان سورياليا ، فإنه سوف يعتقل هذا المعارض ، ويلصقه الكثير من التهم ، أدناها الشذوذ الجنسي وأعلاها التواصل مع العدو ، لكي يضعه في السجن ويحرقه سياسيا.  والأمثلة ستكون كثيرة فيما لو أراد المرء أن يستزيد .
إذا المسألة ليست في إطلاق صفة الدكتاتورية على حاكم ما ، يتبع القواعد غير المألوفة في الحكم ، بل يمكن القول أن هذه الصفة قد ألصقها الحكام الآخرون ، الذين يغارون من هؤلاء الحكام التجديدين السورياليين ، لأن الأولين لا يمتلكون مواهب السورياليين في الحكم و لا يعرفون مهاراتهم في الحكم .
القاعدة السياسية تقول بأن الحاكم يجب أن يأتي بصندوق إنتخاب ، لكن بالأسلوب السوريالي سيأتي الحاكم بإنقلاب عسكري أو توريث عائلي ملكي أو أميري أو غيرهما . كذلك ، تقول القاعدة السياسية بأن المعتقل يجب أن يحاكم بشكل نزيه ويجب أن يتمكن من الدفاع عن نفسه ، لكن هذه القاعدة سورياليا تسقط ، ويصير بإمكان الحاكم سجن شخص ما ، ولما يشاء من الوقت ، دون أية تهمة وأية محاكمة. القاعدة السياسية تقول ، أن تداول السلطة في الدولة يجب أن يكون دوريا وسلميا ، لكن القاعدة السوريالية تسقط هذه الفكرة ، ويستأثر حاكم ما بالسلطة ويصبح التغير غير سلمي .
إذا ، ليس الموضوع ديكتاتورية ، لا قدر الله ، عند هؤلاء الحكام ، الذين يبسطون سلطتهم على مختلف دول العالم ، من أمريكا غربا وحتى أقصى الشرق . بل هي نظرة ، تجديدية ثاقبة ، تطمح إلى خلق نموذج خلاق من الحكم ، يتمازج فيه الفكر الإبداعي مع الفكر السياسي . وذلك بنقل السوريالية من المنهج الأدبي إلى السياسة ، لخلق ما يمكن تسميته بالسياسة السوريالية . فالحاكم السوريالي ، يقدم طيفا جديدا من الأفكار والآراء التي لا يستطيع حاكم تقليدي كلاسيكي أن يأتي بها . ويبدو أننا في الوطن العربي ، قد حققنا طموحنا في التقدم على الغرب في موضوعة ما ، فكانت في أن التاريخ السياسي للوطن العربي في مدة نصف قرن مضى ، أثبتت بما لايدع مجالا للشك في أننا متقدمون على الغرب في مسألة الحاكم السوريالي ، بل وللحقيقة ، إن هذه النظرية وإن لم تولد عندنا ، لكنها خرجت في أشكال بالغة التجديد على أيدي بعض حكام المنطقة السورياليين . الذين حققوا الكثير من الإبداع السياسي في هذه النظرية ، ولو كان ذلك على حساب الدماء العربية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى