سوريا: أوباما أسيراً لخياراته (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

يتعرض الرئيس الأميركي باراك أوباما الآن في سوريا لأهم اختبار منذ توليه الرئاسة قبل أكثر من أربع سنوات، حيث تبدو التطورات الميدانية والإقليمية أكبر من قدرته المثبتة على المراوغة وتجنب الحسم المباشر. ويعد استعمال السلاح الكيميائي نقطة الحسم في مسار التردد الذي اشتهر به، بحيث سيضطر أوباما مدفوعا برغبات حلفاء واشنطن الإقليميين والدوليين إلى اعتماد سيناريو عسكري ما ضد النظام السوري، حاول أوباما تجنبه منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية المتحولة إلى حرب أهلية في سوريا.

حسابات واشنطن السورية

ارتكزت إدارة أوباما في تعاملها مع الشأن السوري على معادلة واضحة: منع أي من الطرفين المتحاربين من تحقيق الانتصار، لأن انتصار أيهما سيعني خسارة للولايات المتحدة الأميركية. انتصار النظام في سوريا سيثبت حضور المحور الذي تقوده إيران في المنطقة ويضم النظام السوري و«حزب الله»، أما انتصار المعارضة، التي يهيمن عليها منذ فترة الجهاديون والسلفيون الطالبانيون، فسيشكل تهديداً لأميركا وتحالفاتها في المنطقة. لذلك كلما تقدم النظام السوري لإحراز «إنجازات» على الأرض، سارعت واشنطن إلى مد المعارضة بالسلاح وتسهيل حصولها عليه. وبالمقابل كلما بدأت المعارضة في «تحرير» مناطق ومواقع، أوقفت إدارة أوباما الدعم العسكري واللوجستي لها، حتى يعود النظام السوري لتدارك الوضع على الأرض. هكذا مضى الوقت لمدة سنتين ونصف سنة دموية دفع ثمنها الشعب السوري من دمه وماله وأرواحه، لقاء وضع تعادلي يسمح بسفك الدم السوري، ولكنه لا يسمح لأحد الطرفين المتصارعين بالقضاء على الآخر أو الحسم العسكري على الأرض. ومثّل إطلاق الأسلحة الكيميائية بحق السوريين إعلاناً بشعاً عن نهاية هذه الحالة التعادلية المخضبة بالدم، وتحريكاً حتمياً لمواقف أوباما الساعي مبدئياً إلى الخروج العسكري من الشرق الأوسط. وبغض النظر عن هوية الجهة التي أطلقت الأسلحة الكيميائية، فإن واقعاً إقليمياً جديداً يتشكل الآن بعدها لإلغاء هذه الحالة التعادلية، سواء بإعادة واشنطن عسكرياً إلى المنطقة أو إجبارها على التصعيد في سوريا.

التطورات الإقليمية تضيّق الخناق على أوباما

يبدو أوباما محكوماً بالتصعيد العسكري، فالأطراف الإقليمية الحليفة له تريد إنهاء حالة التردد السلبي التي اعتمدها في ملفات الشرق الأوسط، تلك التي «لم يحسم» في أي منها. أخفق أوباما في منع إسرائيل من توسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 فأغضب الأطراف العربية، وأخفق في وقف البرنامج النووي الإيراني رغم الضغوطات الإسرائيلية، وكبح تركيا عن التدخل في سوريا بحجبه لغطاء الناتو عنها، مع التسليم بقدراتها المحدودة نسبياً في هذا المضمار. الآن ومع اشتعال الوضع في لبنان بتفجيرات الرويس وطرابلس، وفي سوريا على أثر استعمال الــسلاح الكيمــيائي، تبــدو إدارة أوباما مدفوعة لحسم عســكري في منطقة إقليمية ملتهبة طائفياً. سيجتمع ممثلو الدول الإقليمية المتحالفة مع واشنطن للتباحث في السيناريو المقبل، تركيا والسعودية ودول الخليج العربية وقطر والأردن. كل هذه الأطراف لا تختلف على إنهاء حكم بشار الأسد، لكنها لا تتفق في ما بينها بأية حال على بديله، أو على سيناريو اليوم التالي. تركيا وقطر تفضلان «الإخوان المسلمين» للتعويض عن مصر، والسعودية ودول الخليج والأردن تفضل المعارضة المدنية غير الإخوانية لتأكيد مكاسبها من الوضع المصري الجديــد. وحتــى حكومــة العــراق المركــزية تبدو محبذة أيضــاً للبديل غير الإخواني، خشية من بناء تحالف إقليمي ســني في مواجهــتها وعمقــها الشــيعي. لا يستطيع أوباما الآن الهرب من تحالفاته الإقليمية، فلمرة نادرة يبدو فيها الحلــفاء الإقلــيميون ـ على تضارب مصالحهم – أقوى من سقفهم الدولي، الذي يبدو مضطراً إلى تغيير الوضع القائم حالياً بنفسه.

خيار كوسوفو في سوريا؟

بناء على ما سبق، يبدو أوباما في وارد استعمال القوة العسكرية المباشرة، ولكن في سقف أدنى بكثير من الغزو البري، باهظ الكلفة سياسياً داخل الولايات المتحدة. لأن البديل لذلك السيناريو يتمثل في غزو أميركي واسع النطاق لإسقاط النظام، وقتال المجموعات المسلحة الجهادية في الوقت نفسه. ومن الواضح أن التكلفة العالية سياسياً ستمنع أوباما المتردد أصلاً في المضي بهذا السيناريو. لذلك فالأرجح أن يعتمد أوباما سيناريو كوسوفو في الوضع السوري، أي توجيه ضربات صاروخية وجوية لمنشآت عسكرية وحكومية ومواقع لها طابع رمزي تتعلق بـ«برستيج» الدولة السورية، مثل القصور الرئاسية، ولكن دون إنزال عسكري أو غزو بري. ستعفي الضربات الجوية أوباما من الحسم على الأرض، لأنها ستسمح له بإمساك العصا من المنتصف بحيث يكون قد أظهر «صلابة عسكرية» أمام تحالفاته الإقليمية وأضعف النظام السوري، وفي الوقت نفسه ستسمح له باستبعاد الغزو العسكري الباهظ الكلفة. بمختصر الكلام، سيهرب أوباما من الحسم بتوجيه ضربات صاروخية وجوية على أهداف منتقاة في سوريا. تبدو المؤشرات على ذلك واضحة من الآن، فقد زاد عدد القطع الأميركية البحرية في البحر المتوسط من ثلاث إلى أربع مدمرات تكفي لإطلاق صواريخ «توماهوك» تساندها صواريخ «كروز». وإذ قال وزير الدفاع الأمــيركي تشــاك هــيغل إن «وزارة الدفاع لديها مسؤولية إمداد الرئيس بخيارات لكل الظروف، وهذا ما يتطلب إعادة تموضع لقواتنا من أجل تنفيذ سيناريوهات مختلفة، أياً كان السيناريو الذي سيطلبه الرئيس». وتشير إعادة التموضع إلى عمل عسكري أكثر من مجرد التلويح به للردع، فالتفكير في الخطوة المقبلة هو شــيء، أما تحريك القطع فشيء آخر. وبالإضافة إلى ذلك يملك سلاح الجو الأميركي قواعد في الشــرق الأوســط وأوروبا يمكنها شن ضربات جوية من مسافة بعيدة نسبيا عن الأراضي السورية، كون سوريا تملك دفاعات أرضية لا يستهان بها نسبياً. ولا يحتاج المرء إلى الحضور على طاولة التباحث الأميركي – الغربي مع الحلفاء في المنطقة ليعرف أن الأهداف – في هذا السيناريو – ستكون بطاريات الصواريخ وسلاح المدفعية السورية القادرة على إطلاق الأسلحة الكيميائية، وكذلك وسائل الاتصال والدعم اللوجستي. تعارض الخارجية الروسية شن الضربات العسكرية بشدة، وتعتبرها أمراً غير مقبول، ما يعني أن قرارا بتغطية الضربات المحتملة من مجلس الأمن هو أمر مستبعد. وفي هذا السياق يمكن فهم مشروع القرار الإنكليزي الذي يطلب من النظام السوري نزع سلاحه بنفسه باعتبار ذلك «فرصة أخيرة»؛ أي جني ثمار سياسية دون دفع أثمان عسكرية وتهيئة الأجواء الدولية لضربات عسكرية دون غطاء من مجلس الأمن كما جرى في كوسوفو. كانت المعارضة السورية قبل عامين شيئاً مختلفاً، وساد توقع لدى كثيرين بأن تركيا القوية عسكرياً ستشارك في حسم الصراع لمصلحة المعارضة. ولكن مع إسقاط طائرة تركية من قبل الدفاعات الجوية السورية قبل شهور، والقصف المدفعي السوري على الأراضي التركية وانفجار سيارة مفخخة داخل تركيا، لم يكن هناك رد فعل تركي على الفعل السوري. ويعود السبب في ذلك إلى مجموعة من الاعتبارات يتقدمها الاختلال في التناغم بين حكومة حزب «العدالة والتنمية» والمؤسسة العسكرية التركية.

الخلاصة

تدور الحرب في سوريا الآن ـ في العمق ـ بين أمراء حرب سلفيين على الطراز الطالباني وجهاديين من كل أنحاء المنطقة والعالم من ناحية، والنظام السوري المدعوم من إيران و«حزب الله» من ناحية أخرى، مع تهميش متزايد للمعارضة السورية المدنية وقدرتها على تغيير موازين القوى على الأرض. وبسبب هذه الوضعية سيكون انتصار أي من الطرفين المتصارعين خسارة كبرى لواشنطن، التي تعتبر أن السيناريو الأفضل لمصالحها يتمثل في صراع الخصمين في مواجهة بعضهما البعض: النظام السوري ومعه «حزب الله» وإيران في مواجهة المجموعات الطالبانية والجهادية المسلحة، بحيث يحجّم كل طرف الآخر دون قدرة أيهما على إيذاء أميركا ومصالحها. لذلك سلحت أميركا المعارضة السورية كلما حقق النظام إنجازات على الأرض، وتوقفت عن إمدادها بالسلاح كلما حققت تقدماً. الآن يبدو أوباما مضطراً بل ومجرجراً من تحالفاته الإقليمية ليصعّد في الملف السوري، ولا يستطيع المراوغة والتمنع أكثر من ذلك، كما أن تخبط إدارته في الشرق الأوسط وسقوط خياراتها الإخوانية في مصر، سيدفعانها إلى التجاوب أكثر مع هذه الضغوط. يبقى أن السيناريو العسكري المحدود، أو سيناريو كوسوفو، لا ضمانات أكيدة فيه ويحمل بالرغم من محدوديته النظرية مخاطر حرب إقليمية كبرى. تقترب الآن اللحظة الحاسمة بما تحمله من مخاطر على الجميع.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى