عجز يضاهي الجريمة

بالقدر الذي نقلق فيه من تزايد الاعتداءات المسلحة على الجيش في الشمال، نقلق من عجز الطبقة السياسية عن معالجة الوضع المتدهور منذ سنوات عدة. هذا العجز مصدره أولاً خيارات سياسية لم تعطِ نتائجها المرجوة بداية ثم صارت رهانات على عامل الفوضى نفسه باعتباره يصيب البلاد كلها ويضغط على الآخرين، وثانياً لأن الأطراف السياسية التي تصدّرت تمثيل مناطق الشمال ليست قادرة بطبيعتها على إدارة صراع سياسي شعبي ومسلح، فهي تميل إلى استثماره والبقاء على مسافة منه وهو ما يأكل رصيدها على المدى البعيد.

لكن الأهم من دون الادعاء بمعرفة السيناريوهات التي يجري إعدادها لما يمكن أن نسميه التمرد الشمالي أو تظهير الهوية الشمالية، فإن الصلة عضوية ووطيدة بين هذا المناخ الشمالي وما يجري في سوريا والعراق وخاصة على الحدود التركية. لا أحد يستطيع أن يجزم في النتائج لكن فكرة قيام «هلال سني» بمحاذاة الحدود التركية من شمالي لبنان إلى شمالي العراق مروراً بشمالي سوريا في مواجهة «الهلال الشيعي» يجري العمل عليها كميزان قوى أولاً، ومشروع كياني بحسب الحلول المتعددة المحتملة لأزمات الإقليم. ولا تخفي القيادة التركية تصريحاً وممارسة منذ اندلاع الأزمة السورية رغبتها في الحصول على مدى حيوي إقليمي في الجوار السوري تحت أشكال ومسميات عدة، آخرها المنطقة العازلة أو الآمنة.

بل أكثر من ذلك لقد أصبحت «المسألة الكردية» مسألة تركية خالصة بعد انهيار وحدتي العراق وسوريا وصار على تركيا أن تتصرف «كبالع الموسى»، فهي متورطة بالمسألة الكردية إذا اتسع نفوذها أو ضاق. وليس أدل على ذلك من ترددها وارتباكها إزاء التحالف المناهض للإرهاب، والمقصود «داعش»، وإزاء مأساة «كوباني ـ عين العرب» حيث كان عليها أن تختار بين انتعاش الوجود الكردي والمحافظة على مصالحها في «التحالف».

على أي حال، يدرك جميع الأطراف أن المدى الزمني للحلول السياسية بعيد جداً، وأن الاستثمار في النزاعات مفتوح وقد تتسع ملفاته كما حصل فجأة في اليمن، وأن لكل الأطراف الفاعلة أوراقاً تدخل بها المشهد الدموي في المغرب العربي أو في سيناء المصرية. ولن يكون لبنان بالتالي صاحب امتياز في الحفاظ على استقراره النسبي، لذا تتواطأ الأطراف على جعل القضايا كلها معلقة لكن تحت خطة التبريد لا التصعيد. وفي هذا المشهد تدفع المؤسسة العسكرية المعبّرة عن النسيج الوطني كله ثمن هذه الحرب الباردة كما تدفع الفئات الشعبية ثمن غياب القرارات والمسؤوليات عن معالجة المشكلات الاجتماعية والخدمات الأساسية، لكن كذلك مع عجز لدى الفئات الشعبية عن الاستثمار السياسي. ففي كل مرة يهتز الأمن أو الاستقرار أو تتأزم علاقات أطراف الطبقة السياسية يكون على أصحاب القضايا الاجتماعية أن يهادنوا وينكفئوا وحتى يساوموا على القضايا والمطالب.

الموضوع طبعاً ليس غياب الأفكار لمعالجة هذه الأوضاع بل غياب القوى الحاملة والضاغطة على المعادلة التي تفرضها الطبقة السياسية وهي معادلة «الخارج» والسياسة الخارجية، والتوازنات بين الطوائف داخل السلطة. ولأول مرة في لبنان تبدو المشكلة الاجتماعية والقطاعات والفئات المشاركة في المطاليب أكبر من الفئات السياسية المتضامنة.

لا معارضة سياسية تغتذي من هذا الحراك الشعبي، ولا حراك شعبي يطمح لأن يكوِّن لنفسه حاضنة من خارج القوى الرسمية. فإذا لم تنفجر هذه الأوضاع أمنياً أو اجتماعياً فهي سائرة في طريق الاهتراء.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى