عقيدة أوباما في فترته الرئاسية الأولى (جوزيف س. ناي*)

 
جوزيف س. ناي*

 

تشير صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة إلى نتائج متقاربة في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني. ومع أن الرئيس باراك أوباما يتفوق على منافسه الجمهوري، ميت روني، لكن في مسائل السياسة الخارجية، والنمو الاقتصادي البطيء، والبطالة العالية – وهي مسائل لها تأثيرات بعيدة في الانتخابات الأمريكية – فإن كفة روني راجحة. وحتى في السياسة الخارجية، يشكو نقّاد أوباما من أنه لم ينفّذ المبادرات التحوّلية الجذرية التي وعد بها قبل أربع سنوات. فهل هم على حق؟
وصل أوباما إلى سُدّة الحكم في مرحلة كانت الولايات المتحدة والاقتصاد في وسط أسوأ أزمة مالية منذ "الكساد الكبير". فأشار عليه بعض مستشاريه الاقتصاديين على أنه ما لم يتخذ خطوات عاجلة لتحريك الاقتصاد، فستكون هنالك فرصة واحدة من ثلاث لدخول كساد شامل.
ورغم أن أوباما ورث حربين متواصلتين – التهديدات النووية المتكاثرة من إيران وكوريا الشمالية، ومشكلة إرهاب القاعدة المستمر، إلاّ أنه كرّس أشهره الأولى من حكمه في معالجة الأزمة الاقتصادية في أمريكا وخارجها. لم تثمر جهوده عن نجاح تام، لكنه على الأقل تمكّن من درء أسوأ حصيلة.
كانت خطابات أوباما البليغة أثناء حملته في العام 2008 والأشهر الأولى من فترته الرئاسية باعثةً على الإلهام، وتحوّليةً جذرية في أهدافها. وشملت سنته الأولى خطاباً في براغ رسّخ فيه هدفَ عالَمٍ خالٍ من الأسلحة النووية، وخطاباً في القاهرة واعداً بنهج جديد في التعامل مع العالم الإسلامي، وخطابه بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للسلام الذي وعد فيه "بتغيير التاريخ في اتجاه العدالة."
كانت سلسلة الخطابات هذه تكتيكية بشكل جزئي. إذ احتاج أوباما أن يفي بالوعد الذي قطعه برسم اتجاه جديد في السياسة الخارجية، وأن يتعامل بصورة حذرة وبارعة جداً في القضايا التي تركها له جورج و. بوش (بطريقة مشابهة لتلك التي يقوم بها لاعب السيرك بقذف الكرات والمُدى في الهواء والتقاطها). فلا داعي للاعتقاد أن أوباما مخادع في أهدافه. فقد تشكلت نظرته إلى العالم بقضاء جزء من شبابه في أندونيسيا وتحدُّره من أب أفريقي.
يقول كتاب صدر مؤخراً عن مؤسسة بروكنغز إن لأوباما "نظرة نشطة إلى دوره في التاريخ"، وهو ينوي أن "يلمّع صورة أمريكا في الخارج، لا سيما في العالم الإسلامي، وأن ينهي انخراطه في حربين، ويمد يداً مفتوحة لإيران، ويعيد ترتيب العلاقات مع روسيا كخطوة نحو تخليص العالم من الأسلحة النووية، وأن يطور تعاوناً كبيراً مع الصين حول كل من القضايا الإقليمية والكونية، وأن يصنع سلاماً في الشرق الأوسط." لكن سجله في الإنجازات مختلط.
ويواصل التقرير: "حوّلتْهُ الظروف التي بدت مستعصية على الحل من مهندس محتمل لنظام عالمي جديد إلى قائد أكثر تركيزاً على إصلاح العلاقات والتصدّي للأزمات – من أبرزها الأزمات الاقتصادية العالمية." ومع أنه تخلَّص من أسامة بن لادن وأَضعفَ القاعدة، إلاّ أن بعض سياسات مكافحة الإرهاب انتهت إلى تناقص جاذبيته في أماكن مثل الشرق الأوسط وباكستان.
جاءت بعض النظرات السلبية نتيجة أحداث مستعصية على الحل. وكان بعضها نتاجاً لسذاجته في الفترة المبكرة، مثل نهجه الأوليّ في التعامل مع إسرائيل والصين وأفغانستان، لكن سرعان ما تعافى من أخطائه بطريقة عملية. فكما وصفه أحد مؤيديه قائلاً إنه "مثالي براجماتي".
لم يترك أوباما أي تأثيرات تحوّلية جذرية. لكنه غيَّرَ مسار سياسة لم تحظ بالشعبية في العراق وأفغانستان. وتبنّى تكتيكات مكافحة للتمرد بناءً على استخدامات قوة عسكرية وإلكترونية أقل تكلفة، وزاد قوة أمريكا الناعمة في أجزاء كثيرة من العالم، وبدأ ينقل تركيز أمريكا الإستراتيجي إلى آسيا التي تمثل أسرع منطقة في العالم نمواً في الاقتصاد.
وفي ما يتعلق بإيران، ناضل أوباما من أجل تطبيقِ العقوبات التي أقرتها الأمم المتحدة وتجنُّبِ حرب سابقة لأوانها. ومع أن ثورات "الربيع العربي" جاءت مفاجأة غير مرحب بها، إلاّ أنه اتخذ، بعد شيء من التردد، موقفاً إلى جانب التاريخ.
يتحدث ديفيد سانجر في كتاب جديد عنوانه "واجِه وخَبّئْ" ما يدعوه "عقيدة أوباما (رغم انتقاده للرئيس على عدم توصيلها على نحو أوضح)، وهي تتمثل في ما يلي: بصمات عسكرية أخف، مع الاستعداد لاستخدام القوة بشكل فردي عندما تُمَس مصالح أمريكا الأمنية بشكل مباشر، والاعتماد على التحالفات للتعامل مع المشكلة العالمية التي لا تهدد الولايات المتحدة مباشرة، وإعادة التوازن بعيداً عن مستنقعات الشرق الأوسط في اتجاه أعظم قارة وعداً في المستقبل، قارة آسيا.
توضح المقابلة بين قتل أسامة بن لادن والتدخل في ليبيا عقيدة أوباما؛ ففي الحالة الأولى، أدار أوباما شخصياً العملية العسكرية بشكل فردي، حيث تمثلت في شن غارة على أرض باكستانية. وفي الحالة الثانية، عندما لم تكن المصالح الوطنية بالوضوح نفسه، انتظر إلى أن تبنّت جامعة الدول العربية والأمم المتحدة قرارات توفّر الشرعية اللازمة لضمان السياق السليم للقوة الناعمة، ثم شارك قيادة العملية الحربية مع حلفائه في الحلف الأطلسي.
تتطلب عملية تقويم التأثير بعيد المدى لعقيدة أوباما مزيداً من الوقت. لكن مع اقتراب انتخابات تشرين الثاني، يبدو أن له أفضلية على منافسه في السياسة الخارجية. لم يثنِ أوباما قوس التاريخ بطريقته التحوّلية الجذرية التي طمح إليها في حملته الرئاسية قبل أربع سنوات، لكن انتقاله إلى نهج براجماتي قد يتكشف عن شيء حسن، خاصة إذا ظل الناخبون يتشككون في سياسة الاقتصاد التي ينوي منافسه أن يتبعها.

*(مساعد سابق لوزير الدفاع الأمريكي، ورئيس سابق لمجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية. وهو أستاذ في جامعة هارفارد).

صحيفة العرب اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى