على أبواب سايكس ـ بيكو جديدة (حسين العودات)

 

حسين العودات

لوّح تقرير بريطاني إلى احتمال إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، التي كانت قد رُسمت باتفاقية سايكس ـ بيكو. وقال التقرير، الذي نشرته صحيفة "التايمز"، إن الصراع الدائر في سوريا منذ أكثر من ثلاثة أعوام، لن ينتهي إلا بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
ورأى كاتب التقرير الصحافي والمحلل البريطاني أنطوني لويد، أنه ربما لا يرغب أحد في الإقرار صراحة بأن تقسيم سوريا، وفق أسس طائفية وفيدرالية، قد يكون حلاً محتملاً ينهي الأزمة المستمرة.
تتداول الأوساط السياسية في المنطقة وفي المنظمات الإقليمية والدولية، حال بلدان الشرق الأوسط الحالية والمقبلة، وخاصة بلاد الشام، التي رسمت حدودها اتفاقية السياسيين سايكس الفرنسي وبيكو البريطاني، قبيل رحيل السلطنة العثمانية عنها، وأصبحت هذه الحدود، خلال أكثر من تسعين عاماً منذ ذلك الوقت، حدوداً سيادية ثابتة وراسخة بين هذه البلدان، حتى كادت تصبح أيقونة مقدسة.
قسمت اتفاقية سايكس ـ بيكو بلاد الشام، التي كانت ولايات تابعة للسلطنة العثمانية المركزية في إسطنبول، إلى أربع دول هي سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين، وطالت خرائط التقسيم بعض أراضي العراق، وأبقت أراضي الأكراد مجزأة بين العراق وسوريا وتركيا وإيران، وحرمتهم من إقامة دولة كردية لهم، كما أبقت لواء الإسكندرون السوري ذي الأكثرية العربية في ذلك الوقت معلقاً.
ثم بادلته فرنسا فيما بعد مع تركيا مقابل بقائها على الحياد في الحرب الثانية، وتُركت فلسطين أيضاَ معلقة في انتظار إقامة دولة إسرائيلية فيها تنفيذاً لوعد بلفور، وأعطت لفرنسا الحماية على سوريا ولبنان، ولإنكلترا على شرقي الأردن وفلسطين، ثم أقرت عصبة الأمم هذه الحماية، وحققت الاتفاقية بذلك مصالح الدولتين الأوروبيتين (بريطانيا وفرنسا) إلى أمد بعيد.
جرت تعديلات فيما بعد على الاتفاقية الأساسية، فقد ضم الانتداب الفرنسي أربعة أقضية من سوريا إلى لبنان وسماه دولة لبنان الكبير، ووهبت فرنسا لواء الإسكندرون إلى تركيا نهائياً.
وبقي خط الحدود وهمياً بين هذه الدول التي لا تفصلها عن بعضها جبال ولا أودية، ورُسمت الحدود على الورق، وكانت مضحكة، حيث نجد بلدة في دولة وأراضيها الزراعية ومجالها الحيوي في دولة أخرى، ويقيم نصف العائلة من سكانها هنا ونصفها الآخر هناك.. وهكذا.
تغيرت الظروف والشروط الموضوعية في المنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة، وكذلك بعد تغير مضامين المفاهيم الوطنية والقومية ومفاهيم السيادة، في ضوء الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة، وصار الجميع الآن، أعني الشعوب والأنظمة في المنطقة، يعترفون، ولو ضمناً، بضرورة إعطاء الأكراد حقوقهم القومية والثقافية، كما تفجرت التناقضات الإثنية والطائفية وغيرها (لأسباب متنوعة).
وفي الخلاصة، وفي ضوء هذه الظروف المستجدة، ترددت (أوروبياً وأميركياً وفي أوساط الهيمنة الاستعمارية) فكرة إجراء تعديل جدي على الحدود القائمة حالياً بين دول بلاد الشام وتركيا وإيران، وإقامة الدولة الكردية، وكذلك كيانات للأقليات الإثنية والطائفية التي "تم النفخ فيها" حتى كادت أن تنفجر
. ولا شك أن هذه التعديلات سوف تؤدي، إن حصلت، إلى إقامة حدود جديدة وسيادات جديدة، لابد أن ترافقها مفاهيم جديدة للسيادة والمصالح الوطنية، بل والمصالح القومية، ولفكرة القومية العربية والوحدة العربية وغيرها من المفاهيم التي كانت سائدة طوال ما يقارب القرن، قبل هيمنة النظام العالمي الجديد والعولمة.
إنه لمن المهم أن ترى القيادات السياسية والثقافية العربية، وقيادات الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية والقومية هذه الظروف (والمشاريع) التي تلوح في الأفق، وتستعد لمواجهتها وأقلمتها مع مصالح البلاد والشعوب، وتجاوز مخاطرها بأقل الخسائر الممكنة.
خاصة وأن قوى أجنبية عديدة إضافة إلى إسرائيل، بدأت العمل لمزيد من تمزيق المنطقة، وتعميق العداء بين شعوبها، وإنهاكها بالتطرف والعنف، ذلك أن طبيعة التطور العالمي، ومصالح الدول الكبرى، والأهداف الإسرائيلية والصهيونية الضاغطة، ومفاهيم ما بعد الحداثة، ومضامين القيم السياسية والوطنية والقومية الجديدة، تهيئ الظروف لقدوم هذه المرحلة قريباً، مما يتطلب من جميع التيارات السياسية والنخب الوطنية والأنظمة والدول، الاستعداد لها لاستيعابها قبل أن تحدث نكسات جديدة.
فلم يعد الصلف والتعصب، والصراع على السلطة، وعدم رؤية الواقع وقصر النظر تجدي نفعاً، كما أنه من الخطأ الكارثي تجاهل التحولات القائمة والضرورات المستقبلية، أو الإصرار على تطبيق قوانين وقيم الماضي السياسية والأيديولوجية على الحاضر، وإهمال الصراعات القائمة والمحتملة التي تُسرع الخطى، ولا تسمح بالانتظار كثيراً، وخاصة لشعوب مثل شعوبنا الفقيرة الضعيفة المغلوبة التي تفجرت فيها أخطر التناقضات، وغالباً ما تباغتها الأحداث.
أسست اتفاقية سايكس ـ بيكو عديداً من المصاعب والمخاطر التي شغلت شعوب بلاد الشام ودولها ما يقارب القرن، ونجحت في تحقيق أهداف الاستعمار القديم (الكولونيالي)، ولم يعد مبرراً الآن إلقاء تبعات أي تقسيم جديد على الإمبريالية أو الاستعمار الجديد وحدهما، وتجاهل مسؤولية شعوب المنطقة وحكوماتها، خاصة وأن الظروف القائمة والشروط المحيطة، تؤكد حدوث تطورات حتمية قريبة، لن ينجو من سلبياتها إلا من يراها مسبقاً ويستعد لمواجهتها، تمهيداً للخروج منها بدون خسائر أو بأقلها.
الخشية أن يتجاهل القادة والسياسيون العرب هذه المخاطر القادمة التي يعمل كثيرون لتسريعها، وأن تعجز أنظمتنا عن تخطيها.

صحيفة البيان الأماراتية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى