فكر القتل

في عام 1934 انعقد المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي. بعد خمس سنوات انعقد المؤتمر الثامن عشر: بين المؤتمرين وفي محاكمات موسكو 1936-1938، أعدم ستالين 98 من أعضاء اللجنة المركزية لعام 1934 من أصل 139 عضواً، واعتقل 1108 أعضاء في المؤتمر من أصل 1996 عضواً يشكلون قوام المؤتمر. تم إعدام المعتقلين أو ماتوا في المعتقلات ومعسكرات العمل الإجبارية. تمت تسمية مؤتمر 1934 بـ «مؤتمر الملعونين». كان من بين المعدومين أربعة من أعضاء المكتب السياسي للحزب البلشفي يوم قيام ثورة أكتوبر1917.اغتيل الخامس في المكسيك عام 1940، وهو ليون تروتسكي، بيد أحد عملاء ستالين. يروي جاكوب بيرمان، وهو رئيس «مصلحة أمن الدولة» في بولندا ورجل ستالين في وارسو في فترة 1944- 1953، أنه عندما أراد الشيوعيون البولنديون أواخر الأربعينات إصدار كتاب تذكاري عن تاريخ الحزب، كانت المشكلة أن معظم أعضاء اللجنة المركزية للحزب البولندي كانوا أُعدموا، ومنهم مؤسسون للحزب، أثناء إقامتهم في موسكو في محاكمات 1936- 1938، لذلك تولى هو الأمر وذهب وقابل زعيم الكرملين وعرض عليه الكتاب. كانت المفاجأة وهو يروي هذا قبيل وفاته عام 1984، أن ستالين قال عن بعض القادة المعدومين إنهم «شيوعيون جيدون». يمكن أن تساعد هذه الرواية على الاستنتاج بأن ستالين كان لحظتها يتملكه الندم على الإعدامات، أو منقسم المشاعر. ونجد بعض المؤيدين للتفسير السيكولوجي لشخصية السياسيين يقودهم الاستنتاج إلى القول إن زعيم الكرملين قام بإعدام غالبية أعضاء مؤتمري 1934 لأن هناك مئة منهم صوتوا ضد عضويته للجنة المركزية فيما كان سيرغي كيروف لا ينقصه سوى ثلاثة أصوات لينال الإجماع، وهو ما يدفع أصحاب هذا التفسير للاستنتاج أيضاً بأن اغتيال كيروف، مسؤول منظمة لينينغراد للحزب في الشهر الأخير من عام 1934، أي بعد تسعة أشهر من المؤتمر، مرتبط بتفوقه على ستالين في التصويت، في عملية تحمل طابع الانتقام وأيضاً التصفية لمنافس محتمل، وفي الوقت نفسه استغلال حادثة الاغتيال كذريعة لاعتقالات طاولت أعضاء المؤتمر أنفسهم، ومن ثم ذريعة للمحاكمات التي كانت موجهة ضدهم بالأساس.

يمكن أن يساعد التفسير السيكولوجي في تفسير ظاهرة ستالين، ولكن جزئياً. الأرجح أن «الانتقام» لا يفسر ظاهرة كهذه من زعيم ظن نفسه وحيداً على قمة سلطة الكرملين منذ عام 1929، ليرى المفاجأة في تصويت مؤتمر 1934، عندما تفوق عليه مسؤول حزبي صاعد حديثاً. هناك المصلحة السياسية في ضرب أي منافس جديد، وهناك المصلحة في إخضاع حزب ظن ستالين أنه أصبح سهل الانقياد منذ تصفية نفوذ تروتسكي وزينوفييف وكامينيف وبوخارين وريكوف، وهم من قيادة 1917، بين عامي 1925 و1929.

هذا تفسير أقوى من التفسير السيكولوجي، لكن حتى هذا التفسير عبر «المصلحة» لا يفسر ظاهرة القتل الراضي لرفاق درب طويل، وعبر قناعة ومن دون وسواس، ما دام التنافس السياسي يولد مصالح في إزاحة خصوم في حالات أخرى لا تصل إلى التصفية الجسدية والقتل، كما نرى في الدول الديموقراطية. الأرجح أن ما يولد هذه الحمية لقتل الرفاق، وأيضاً المخالفين والخصوم والمعارضين، وتصفيتهم جسدياً، مع تصفيق الموالين وتبريرهم، هو شيء آخر يعود إلى الفكر. ستالين هو وريث لينين، ليس فقط في منصب زعيم الحزب بل في الفكر أيضاً: منذ كتاب «ما العمل؟» عام 1902، كان لينين يرى أن المجتمع لا يستطيع من دون طليعة سياسية يراها موجودة فقط في التنظيم الحزبي، أن يصل إلى الوعي السياسي. وهذا يشمل عنده كل الطبقات الاجتماعية وكل الأحزاب، وبالتالي فإن الوعي يتم تصديره من «الطليعة». التعبئة والتنظيم من «الطليعة» للقوى الاجتماعية هو من أجل الوصول للسلطة عبر ثورة تكون بوابة لإعادة بناء المجتمع وهندسته، وأيضاً عبر الطليعة المستولية على السلطة وفق مخطط مرسوم، وهو ما يشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع والفرد. هذا لا يتم وفق نظام ديموقراطي بل وفق ديكتاتورية واعية لذاتها بأنها كذلك.

وفق التجارب التي رأيناها، كانت هذه «الطليعة» لا تتصرف كطليعة لجمهور وتريد هداية البشر، بل يبدو أركانها أشباه آلهة يملكون سلطة كلية في الإرادة والتقرير لمسار ومصائر المجتمع وأفراده.

هذه «الطليعة» تنظر إلى نفسها بوصفها الممثل الوحيد للحقيقة، وأن مخالفيها في الأيديولوجية، ورفاقها في الأيديولوجية أيضاً، عندما يختلفون معها في التفسير الأيديولوجي أو في السياسة أو في التنظيم، هم في «انحراف»، وهذا رأيناه حتى قبل الوصول إلى السلطة، عندما أطلق لينين على طروحات إدوارد برنشتين نعت «التحريفية» منذ عام 1898، حيث يحوي هذا المصطلح في مضمراته الفكرية أن هناك حقيقة واحدة خرج «المنحرف» عن خطها المرسوم والمحدد. «المنحرف» في الأديان كان يسمى «ضالاً»، وهو لا يبعد كثيراً في مضمراته عن هذا المصطلح الحديث اليساري .الاثنان يعتبران الآخرين خارج «الحقيقة»، ويعتبران ذاتيهما الممثلة الوحيدة لها، وكل ما هو خارج ذلك «انحراف» و «ضلال» و «باطل».

خارج الحركة الشيوعية العالمية الحديثة لم يوجد «فكر القتل» سوى عند الفرق الدينية المنقسمة والمتقاتل بعضها مع بعض: عند المسيحية ضد اليعاقبة السريان الذين قامت الدولة البيزنطية بمذابح ضدهم، وفي الإسلام ابتداءً من الخوارج، الذين كان تكفير مخالفيهم في معركة صفين مدخلاً عندهم إلى جواز قتل المسلمين الآخرين ونسائهم وأطفالهم. لم يوجد «فكر القتل» عند «السنة» و «الشيعة»، بل اقتصر الأمر على «شروط الإيمان» حين رأى الشيعة أن «الإمامة» من شروط الإيمان، وبالتالي من لا يؤمن بها يكون مسلماً غير مكتمل الإيمان، وهي نظرة الشيعي للسني، فيما بُني فكر السني منذ القرن الأول على «إرجاء الحكم للسماء» مع اعتبار أن كل من نطق بالشهادتين مسلم، ولا يؤخذ الإسلام والإيمان بالقلب، بل باللسان. كان ابن تيمية استثناء في التاريخ الفكري للسنة. الأرجح أن الحركات الجهادية التكفيرية، من «القاعدة» إلى «داعش»، هي استمرار للخوارج وابن تيمية.عند هاتين الحركتين يوجد «فكر القتل».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى