قال «السيد»: أينما كان وقال السنيورة: (…)

قال «السيد»: «من حقنا الشرعي والأخلاقي والإنساني والقانوني أن نواجه العدوان».

وقال «السيد»: «سنواجه العدوان، أياً كان هذا العدوان، وفي أي زمان وفي أي مكان وكيفما كان».

وهكذا انتهت «سطوة» قواعد الاشتباك، وأصيب القرار 1701 إصابة قاتلة، أحرجت الرئيس فؤاد السنيورة، أحد عرّابي القرار المحليين، بعد تعديل الميدان لنصوص مسودته، التي كانت تتطلَّع إلى تقييد السلاح وتكبيد المقاومة ثمن غزوة 2006.

وقال السنيورة: انتهى فحص الدم.. «السيد» خرق السيادة وهدَّد العيش المشترك.. قرار يعرّض لبنان واللبنانيين للخطر.

وقال آخرون كلاماً يوقظ «الحنين اليابس» لسلطة الدولة(!) ويطالب بمرجعيتها لقرار السلم والحرب، إلى آخر ما أطنبت به «القوى السيادية» في إبداء الغيرة الشفهية على سلامة الكيان، وإظهار الحذر من «تهور» المقاومة التي تستمد شرعيتها من طبيعة العدوان وضعف الكيان.

قال «السيد» وتغيَّر كل شيء تقريباً: إسرائيل تعيش على «فهم ونص». لم تعد خارج نظام العقوبات المحقة. لم يعد خرقها المستدام للقرار 1701 من دون قصاص. لا خطوط حمراً، حتى تخوم إعلان الحرب. فهمت جيداً أن المقاومة لا تسعى إلى حرب، وفي الوقت نفسه لا تخشاها. والحرب لم تعد نزهة، بل هي جحيم، يصيب لبنان ويشعل ويدمر كيان الاستيطان الصهيوني.

وقال السنيورة كلاماً مستمداً من أدبيات بناء الدولة ومرجعية الدولة وشرعية المؤسسات الدستورية ونهج العيش المشترك والميثاقية. وهي أدبيات، تستند إلى رغبات، ان صدقت، وإلى نصوص (إن اتّبعت)، ولكنها فاقدة لمرجعية تطبيقية، حدث أن برهنت أن الدولة موجودة بالفعل، والسلطة محمية بالدستور ومستندة إلى القوانين وقادرة (وهنا المشكلة) على مواجهة الاحتلال (عندما كان رابضا على لبنان) وعلى التصدي للعدوان.

قال «السيد» كلاماً يتصل بحاجات الميدان، يتكئ على مرجعية وشرعة تبيحان صد العدوان ومقاومة الاحتلال، بكل ما أوتي الشعب، أو جزء منه، أو نخبة تتقدمه من قوة. وبعد عدوان القنيطرة على كوكبة من قادة الميدان (لا قادة الكلام) واستشهادهم على الجبهة الشقيقة للبنان، أسست معادلة جديدة وحقيقية وممهورة بالشهادة وموقّعة بالفداء: وهي معادلة «مقاومة واحدة في جبهتين» كبديل من شعار «شعب واحد في دولتين»، والذي أُسيء إليه وأُسقط من التداول ومن الوجدان.

لكلام السيد ملامح مستقبل، يكون لبنان فيه قوياً في مواجهة العدوان. والظن المرجح، أن إلغاء قواعد الاشتباك، سيردع إسرائيل في المستقبل وسيلزمها أن تحسب حسابات أخرى، وتحديداً عندما تدرك أن الثمن الذي ستدفعه لمغامراتها واعتداءاتها لن يكون قليلا، خصوصاً إذا كان، «أينما كان وكيفما كان وبأي وسيلة كان». ولن يسيء كلام السيد للاعبي السياسة في لبنان، الذين يجيدون العبث بالمبادئ والدستور والقوانين والأموال العامة ويعطلون المؤسسات ويفرغونها من «نواطير مصر»، على حد قول المتنبي. سيبقى الملعب اللبناني مفتوحاً على مصاريعه الطائفية. فهو كان كذلك، من قبل، وإبان الحرب، وفي زمن الوصاية، وفي زمن الصراخ المستدام لتأمين نصاب السيادة والاستقلال…

إنما، لا بد من الانتهاء من فحص الدم. من المعيب جداً أن يحصل ذلك عند كل منعطف. لقد تم الفحص النهائي وانتهى الأمر. ولا ضرورة لامتحانات جديدة. فصيلة دم «14 آذار» السياسية والوطنية، مختلفة كثيراً عن فصيلة دم المقاومة ومن يساندها. ولا أفق في إمكانية تغيير هذه الفوارق. والزمن ليس زمن معجزات علاجية، أو علاجات إعجازية. سيّان.

إنصافاً لما جاء على لسان السنيورة نقول: إن منطقه شديد الاتصال بمفهوم الدولة. غير أن هذا المفهوم ليس متجسداً في «الدولة اللبنانية». فهي دولة مزعومة. شبه مزرعة. مشاع طوائفي. ساحة تبليغ رسائل وملتقى صراعات دولية وإقليمية، وكل ذلك يحصل بإرادة بنيه الممثلين بقياداته المتوارثة من زمن العثمانيين والانتداب، والذين أنجبتهم الحرب الماضية، بعدما دخلوا السياسة بثياب الميليشيات المتقاتلة، وغير المقاتلة لإسرائيل.

للسنيورة ورفاقه في الفهم المدرسي، كامل الحق في اعتبار الدولة مرجعية نهائية وتامة ولا حاجة لمرجعية أخرى، إقليمية (لا سعودية ولا إيرانية ولا سورية ولا قطرية ولا…) أو غربية (أميركا، فرنسا و…) باستثناء المرجعية الدولية، غير المطهرة من الانحياز المطلق لإسرائيل وحلفائها.

هذه الدولة المطلوبة، هي دولة مزعومة. لم تتح لها القوى السياسية المتوارثة أن تكون دولة الحدود الدنيا. كانت وظلت وستبقى دولة طالقة عن جنوبها (عندما كان محتلاً وما بعد الاحتلال) وعن عكارها (صاحبة الرقم القياسي في البؤس) وعن بقاعها (المحروم من فتات الفساد المنتشر) إلى آخره… هذه الدولة، لم تمنع احتلالاً، بل استدرجته بعض قواها ورحبت به وساعدته حتى في مجازره (صبرا وشاتيلا نموذجاً).

هذه الدولة المشتهاة، دولة ساقطة، بالمعنى الأخلاقي، تبيع جسدها لعابري الطوائف والكيانات من ممالك النفط وتجار الرقيق وسماسرة الخزي والجنس… دولة عار هذه الدولة، فكيف نحتمي بها وكيف تحمينا.

لسنا بحاجة إلى فحص دم، بل إلى فحص ضمير وفحص فهم. حجة بناء الدولة، مفلسة. عدم قيام الدولة، لا يعود لسلاح المقاومة، التي أجلت الاحتلال ومنعت العدوان. الدولة لم تنشأ منذ إعلان استقلالها. ورحم الله عبد الحميد كرامي، ثاني رئيس حكومة بعد الاستقلال، عندما واجه الشيخ بشارة الخوري باستقالته وقال له: «هذه ليست دولة، هذه مزرعة». والمزرعة أضحت مزارع، أي بعدد القوى المذهبية والإقطاعية التي ورثت لبنان وحوّلت شعبه إلى قطعان.

حجة مرجعية الدولة متهافتة. الأصل في الخلاف سياسي لا دستوري. فريق «14 آذار»، و «القوى السيادية» قبله، و «القوى الانعزالية قبلهما» هي ضد سلاح المقاومة. بناء الدولة كمين فاشل. الحقيقة أن سلاح المقاومة، قبل الثامن من أيار وبعده، هو سلاح «غير شرعي» ويهدد السلم الأهلي ويدمر العيش المشترك. ألم يكن السلاح الوطني والسلاح الفلسطيني متهمين بذلك… المشكلة ليست في «حزب الله»، بل في مقاومته. قيل له مراراً، اترك بندقيتك وخذ الحصة العظمى من الدولة. فلم يفعل لأن هذا ما تريده إسرائيل.

قال «السيد»: «أينما كان وكيفما كان وفي أي مكان».

وقال السنيورة: (…) و (….) و (…).

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى