قراءة في ماهية ثورات الربيع العربي وانعكاساتها (محمد الشيوخ)

 
محمد الشيوخ

كيف لحدث عابر في تونس أن يتحول إلى موجة تغيير تصل إلى كافة أطراف المنطقة العربية.

الحدث الذي تمثل في إضرام الشاب الجامعي محمد البوعزيزي النار في نفسه بتونس في 17 ديسمبر 2011م، في بلدة سيدي بوزيد في الجنوب التونسي، اصطلح على تسميته بـ"شرارة الربيع العربي". هذا الحدث الصغير في حجمه، والكبير في معناه ومضامينه، سرعان ما تحول فيما بعد الى فعل احتجاجي من قبل بعض الافراد التونسيين الغاضبين والمقهورين، ثم الى تظاهرات حاشدة امتدت الى معظم المدن التونسية بما فيها العاصمة، والأخيرة تحولت الى ثورة عارمة اطاحت بزين العابدين بن علي، وأطلق على تسميتها بـ"ثورة ألياسمين".
كان فاعل الحدث فردا واحدا، ثم تحول الى فعل احتجاجي قام به مجموعة من الافراد قد لا يتجاوز عددهم عدد اصابع اليد الواحدة، ثم تحول الى تظاهرات حاشدة ضمت المئات ثم الآلاف، الى ان تحولت الى ثورة شعبية عارمة شارك في صناعتها معظم ابناء الشعب التونسي، اطاحت بالنظام الحاكم وأقامت على انقاضه نظام حكم جديد مغاير لما سبق.
كما كان يمكن أن يمر حدث بوعزيزي الصغير كأي حدث عابر يبدأ ثم سرعان ما ينتهي لولا أن سوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مضافا الى الاحتقان السياسي في تونس، وهو العامل الاهم، والذي قد بلغ أقصى مداه طيلة حكم زين العابدين بن علي الذي دام 23عاما، هو الذي جعل منه حدثا هائلا، لازالت مفاعيله قائمة ومستمر. كما كان بالإمكان ايضا ان لا يتعدى ذلك الحدث الذي شهدته تونس إلى ابعد من حدودها، لولا وجود ارضية خصبة في العالم العربي، مشابهة تماما لما هو موجود في تونس، تتمثل في الظلم والفساد والقهر والحرمان، وهي الارضية التي تعتمل فيها براكين الاحتجاجات والثورات. وهذا ما يفسر انتشار تلك الثورات في سائر الاقطار العربية.
ما هو ملفت حقا، أن تداعيات الحدث الذي تم في تونس لم تقف في حدود جغرافيا هذا البلد فحسب، وإنما امتدت وبسرعة هائلة الى مصر، ثم ليبيا، ثم اليمن، وأسقطت الانظمة الحاكمة هناك، ولم تنته فصول المشهد بعد الى تلك الاقطار، وإنما اتسعت الدائرة بشكل أوسع لتصل تلك الشرارة الى اقطار خليجية وعربية اخرى كسوريا والبحرين، والسعودية، وسلطنة عمان والمغرب والأردن وغيرها من الاقطار، ولازالت تداعيات الحدث آخذة في التوسع والانتشار.
هذه الظاهرة وبحجمها الواسع الذي شهدها العالم العربي، اطلق على تسميتها بـ"الربيع العربي"، وهو المصطلح الذي بات يعبر عن حقبة زمنية جديدة ومختلفة بدأ يعيشها العالم العربي بكل حمولاتها ومفاعيلها السياسية. كثيرون وصفوا ظاهرة الاحتجاجات والثورات في العالم العربي، التي اجتاحته وعصفت به من اقصاه الى اقصاه، بـ"الزلزال".
أن عملية انتقال الثورة من تونس الى العديد من الاقطار، وكذلك سرعة استجابة الشعوب العربية للثورات، يؤشر على مدى حجم السخط والاحتقان الذي يكتنف هذه الشعوب، علما بان الشعوب العربية بطبيعتها مسالمة ولا تحبذ الصدامات والنزاعات والثورات، كما تود الاستقرار والتعايش السلمي مع انظمتها السياسية، الا ان حالة القمع والفساد والجمود والاضطهاد والاستبداد السياسي، هي التي تدفع شعوب المنطقة لتبني الثورات كخيار وحيد وأخير للإصلاح والخلاص ووضع حد للفساد والاحباطات، كما ان فعل الشاب التونسي الذي اضرم النار في نفسه، هو الاخر لا يعبر عن غضبه الذاتي فحسب، وإنما يعبر عن سخط الشارع العربي كله، ولهذا التقط التونسيون تلك اللحظة وحولها الى فرصة تاريخية مفصلية طوت عهد الاستبداد.كما ان الشرارة التي انطلقت من مدينة بوزيد التونسي النائية، احدثت زلزالا هز العالم كله، تجلت في سلسلة من الاحتجاجات والثورات الشعبية العارمة والواسعة، التي غيرت العديد من المعادلات والحسابات السياسية الدولية وأسقطت اربعة من اعتى الانظمة الاستبدادية في المنطقة. وبعد تلك الثورات والاحتجاجات اثيرت اسئلة عديدة في اوساط سياسية وثقافية وإعلامية بحثية متنوعة بغرض التعرف على ماهية هذه الظاهرة الجديدة ودوافعها ومحركاتها وكل ما يتصل بها.
وبهذا يمكن القول بان عام 2011، هو عام تاريخي ومفصلي ليس للعرب وحدهم فقط، وإنما للعالم، وذلك لسببين على الاقل: اولاهما، ان المتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم العربي ولا زالت، من قبيل تغيير بعض النظم السياسية، سلقي بظلالها وتأثيراتها على اجزاء كثيرة في العالم، خصوصا الذي تتشابك مصالحه الاقتصادية والسياسية، وبشكل مباشر، مع مصالح هذه المنطقة الحيوية والمهمة استراتيجيا، وسياسيا، وجغرافيا، علاوة على الاهمية الاقتصادية، التي تمثلها المنطقة العربية نظرا لتنوع مواردها الاقتصادية، واحتوائها على كميات هائلة من النفط والغاز الطبيعي، كما تمثل ايضا رابطا بين قارات العالم، مما ينعكس تأثيرها ايجابا أو سلبا على الاقتصاد العالمي وطرق التجارة العالمية، مضافا الى ان المنطقة العربية تشرف على ثلاث بحار هامة هي البحر الأحمر والمتوسط والخليج العربي، التي تلعب دوراً هاماً على الصعيدين التجاري والاقتصادي العالمي.
وثانيها، لان طبيعة الاحداث والمتغيرات التي حدثت في المنطقة العربية، بعد موجة الربيع العربي، هي احداث استراتيجية كبرى وليست أحداث اعتيادية وهامشية، مما سيكون لها تداعيات كبيرة، حاضرا ومستقبلا، على صعد متعددة. فحدث فرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي على متن طائرة خاصة خارج بلاده، وسجن الرئيس حسنى مبارك في مصر وخضوعه للمحاكمة في بلاده، وإعدام الرئيس الليبي معمر القذافى، بالطريقة التي شهدها العالم، وكذلك اعلان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح رحيله من البلاد.هذه الحوادث، التي رافقها تغييرا في بنية الانظمة السياسية، التي كان على رأسها هؤلاء الحكام، على سبيل المثال وليس الحصر، هي أحداث كبيرة في دلالاتها وعميقة في مفاعيلها وتداعياتها.
ولكون الشعوب العربية، ومنذ زمن طويل، كانت تحلم وتترقب حدوث مثل هذه المتغيرات الجوهرية، لهذا تفاعلت معها وبشكل مذهل، مما ادهش كل المراقبين.هذا التفاعل هو الاخر، يؤشر على حالة التوق الشديد للحرية والشراكة السياسية، كما هو مؤشر على حالة اليأس والإحباط الشديدين من الانظمة الحاكمة، التي لم تتمكن من تحقيق ادنى احلام وتطلعات هذه الشعوب، مع توافر كل الامكانات البشرية والمادية.
أن سقوط اربعة من الانظمة السياسية في المنطقة، بسبب الثورات الشعبية وفي فترة وجيزة جدا، اذ لم تتجاوز العام الواحد تقريبا، خلفت وراءها العديد من الاسئلة والنقاشات، كما افرزت العديد من المتغيرات، أبرزها تمثل في إقامة انظمة سياسية جديدة في تلك البلدان، تؤمن بالتعددية والحرية والشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة، وفي حال استمر هذا النمط من الانظمة السياسية ستتغير صورة المشهد السياسي العربي، وبشكل دراماتيكي، خصوصا اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان النسق السياسي في العالم العربي هو أكثر الانساق تأثيرا، وبالتالي فأن ان كل الانساق المرتبطة به، هي عرضة للتبدل والتأثر.
اذن نحن امام ظاهرة عربية جديدة وفريدة من نوعها ومؤثرة، ستقلب الكثير من المعادلات والموازين الدولية، الامر الذي يستدعي الوقوف امامها ودراستها وبصورة معمقة، لتفكيكها ومعرفة ماهيتها وطبيعتها، بشكل دقيق، وكذلك دراسة تأثيراتها القائمة والمحتملة على مختلف الصعد والمستويات.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى