قصة الحرب القادمة

زدنا قناعة خلال الأيام القليلة الماضية بأن فشل مباحثات جنيف الأخيرة تطور كارثي، وربما هدد فرص التوصل إلى صيغة تحافظ على وحدة الكيان السوري. نقول هذا ونحن نسمع من مسافة ليست بعيدة، طبول الحرب الأوسع تدق، نرى غمامات ترابية ورملية تثيرها دبابات هادرة، ترفع رايات يأس، أو في اسوأ الأحوال رايات غضب مدفوع بقصر نظر أحياناً، وتضارب رؤى في أحيان أخرى.

تلاقت خلال الأسابيع الفائتة إرادتا المملكة السعودية وتركيا. أسفر التلاقي عن نية صياغة اتفاق تعاون استراتيجي يوقع في نيسان المقبل خلال زيارة العاهل السعودي إلى أنقرة. يقضى الاتفاق، بين ما يقضي، وحسب ما ورد في الصحف، بتعاون الدولتين في تنفيذ عمليات تدخل ثنائي وربما مشترك مع دول أخرى من بين أعضاء تحالف صوري شكلته الولايات المتحدة قبل شهور عدة، كان هدفه المعلن محاربة «داعش». أما اتفاق التعاون بين الدولتين الاسلاميتين فيتبنى، شكلا، الهدف ذاته، ولكن أحدا لا يخفي أن الهدف الحقيقي من التدخل هو إسقاط النظام الحاكم في سوريا بالقوة المسلحة.

استندت معظم التحليلات التي ناقشت مسألة التدخل العسكري المشترك من جانب المملكة وتركيا وحلفاء آخرين إلى قائمة غير قصيرة من دوافع محتملة اشتركت في «حشر» الدولتين داخل قناة تعددت منابعها وتوحد مصبها (…). بدافع القلق وعدم الاطمئنان، شكلنا مجموعة عمل، كلفتني وزميلين، بصياغة تقرير عن اجتهاداتها، في ما يخص حقيقة الدوافع وراء الاتفاق السعودي التركي وخلاصة توصياته. وضعنا التقرير، واسمح لنفسي في ما يلي بعرض بعض جوانب النقاش.

يشهد تاريخ العلاقات على وجود مسافة باردة فصلت طويلا بين أنقرة والرياض. لم تتمكن الدولتان من تجاوزها إلا حديثا جدا. كان لا بد للدولتين، أن ينتظرا وصول الإسلاميين إلى الحكم في أنقرة في تسعينيات القرن الماضي قبل ان يجتهدا معا في إزالة جزء بعد آخر، من مسافة البرودة. بقيت قضايا، ليست ثانوية، ولكن هناك جهدا حقيقيا يبذل لتفادي الإعلان عنه او الخوض فيه، مثل تداعيات أزمة تدمير السعوديين لقلعة أجياد العثمانية ومثل ما تصورته تركيا مغالاة سعودية في «استعداء» إيران ومثل ما اعتبرته المملكة عرقلة تركية لمساعي الرياض، دعم نظام الحكم القائم في مصر وتحقيق الاستقرار فيها.

التقت المملكة السعودية وتركيا على تحميل الإدارة الأميركية الحالية مسؤولية تدهور أوضاع الأمن في الشرق الأوسط، نتيجة التغيرات السياسية والعسكرية التي أدخلها الرئيس أوباما على مجمل السياسة الخارجية الأميركية. كانت تركيا إلى عهد قريب تتمتع بحال انسجام كاملة، سادت العلاقات الأميركية التركية لمدة طويلة، ندر ان يحدث ما يعكرها.

فجأة، توترت العلاقات حين وجدت أنقرة نفسها أمام سلسلة ضغوط سياسية وحملات إعلامية أميركية تذكر بمذابح الأرمن، أو تندد بسوء معاملة الصحافيين، وتنتقد ميل أردوغان لممارسة التسلط واستخدام العنف ضد معارضيه.

من ناحية أخرى، انتاب القلق حكام تركيا بسبب تغير في السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية. اعتبروه تحولا جوهريا. بدا لهم ان الأميركيين أصبحوا يميلون إلى أولوية التعامل مع الإرهاب على حساب أولوية إسقاط نظام بشار الأسد. هذا التغير اشتركت في انتقاده كل من أنقرة والرياض. كلاهما يعتبر الأسد جوهر الصراع في سوريا، وما الإرهاب إلا قضية عابرة وناجمة عن عسف النظام. لقد تأسس إعلام الدولتين منذ بدء الأزمة على التزام تخليص الشعب السوري من نظام مستبد. من ناحية أخرى، لم يرق لحكام أنقرة الاهتمام المتزايد من جانب الرسميين والإعلاميين الأميركيين بقضية أكراد سوريا، والتعامل مع التنظيمات الكردية السورية بشكل مختلف عن تعاملهم مع تنظيمات المعارضة الأخرى. بمرور الوقت واستمرار تدهور الأزمة السورية تعمق الشعور لدى أردوغان ومساعديه بأن أميركا لم تعد مهتمة بدرجة كافية بقلق تركيا على مصالحها ومستقبلها في الشرق الأوسط. ظهر واضحا النفور التركي عندما رفضت أميركا فكرة إقامة منطقة آمنة على حدود تركيا مع سوريا فضلا عن انها لم تتخذ موقعا حاسما أو حازما من التدخل العسكري الروسي في سماء سوريا، ومن اعادة تسليح الجيش السوري أو من الخطوات الواسعة التي خطتها الاستراتيجية الروسية، لإعادة تأهيل نظام الأسد وإعداده لمباحثات الحل السياسي.

لم تكن المملكة السعودية أقل غضبا على الولايات المتحدة من تركيا عندما قررت عقد اتفاق تعاون استراتيجي مع أنقرة، ولم تكن السعودية الدولة العربية الوحيدة الغاضبة، أو على الأقل المحبطة، من سياسات واشنطن. صحيح ان أميركا تدخلت في العراق بدعم عربي كبير، وبخاصة من السعودية، ولكنها تركت العراق تركة ثقيلة وفوضى عارمة تهدد استقرار المنطقة. الأدهى بالنسبة للمملكة أن أميركا انسحبت تاركة العراق خاضعا لإيران.

يبدو من ظواهر الأمور أن صانعي السياسة الخارجية والدفاع في المملكة ربما كانوا قد توصلوا مبكرا إلى نفس ما توصل إليه انطوني كوردسمان كبير الباحثين في بروكنغز في آخر دراسة له، من ان مكانة أميركا في الشرق الأوسط وقدرتها على تنفيذ إرادتها أضعف كثيرا مما كانت عليه في أي وقت مضى. توصلوا أيضا إلى ان الاعتماد المطلق على أميركا، كما كان الحال على الدوام على امتداد قرن أو أكثر، لم يعد كافيا وحده لحماية مصالح المملكة، ومصالح دول الخليج العربية.

أرادت المملكة ان يكون الإعلان عن عزمها التدخل عسكريا رسالة إلى الرأي العام الأميركي انها حليف مستجيب لرغبة قيادة الحلف ممثلة في أشتون كلارك. أرادت أيضا ان تقول لكل الاطراف المعنية بأن هذه القوات تدخل سوريا تحت حماية الولايات المتحدة التي يجب ان تضمن لقواتها وقوات غيرها من اعضاء الحلف عدم تعرض الطيران الروسي لها.

وبرغم وضوح الرغبات وتلاقيها، لا يخفي محللون ومتابعون لتطور الحلف المناهض للإرهاب، شكوكهم في نوايا بعض أعضاء الحلف. ليس كل الأعضاء صادقي النية في محاربة الإرهاب، بل إن أكثر الدول المناهضة للإرهاب لم تتفق على توصيف موحد للإرهابي. فبالنسبة للأتراك الإرهاب في نظرهم هو الجهد العسكري والسياسي الذي يمارسه النشطاء ودعاة الانفصال في كردستان. هؤلاء في نظر أنقرة ينتصرون لنظام الأسد. دول أخرى ترى في بشار الأسد صورة الارهابي الأعظم ولا ينوون الدخول في مواجهة مع منظمات وميليشيات مسلحة ومتطرفة، أما الغالبية العظمى من الأعضاء فقد انضمت إلى الحلف حرجا أو ترضية أو لحاجة مادية أو معنوية.

لم يحدث منذ نشوب الأزمة السورية ان ارتفع هذا العدد من الأصوات وظهرت هذه الكمية من الدراسات ضمن حملات الترويج لمشروعات وخرائط تقسيم سوريا. قرأنا آخرها، ولا شك أن آخرين في الغرب، وفي واشنطن بخاصة، قرأوا مشروع مايكل أوهانين من معهد بروكنغز. ثلاثة كيانات في سوريا، كيان يجمع «الأقليات» من مسيحيين وعلويين ودروز وغيرهم وعاصمته دمشق، وكيان كردي، وكيان مكون من منظمات وميليشيات سنية متعددة تختلف وتتقاتل باستمرار وتتنازع على مساحات ورعايا ورؤى شرعية واجتهادات دينية.

نسأل كما يسأل كثيرون حريصون على «أولوية» وحدة سوريا، نسأل إن كان يوجد في الاتفاق السعودي التركي ما يلزم الدولتين والدول الاخرى في الحلف بوحدة سوريا؟ نسأل ان كانت تركيا تعهدت بالوضوح اللازم انها لن «تبيد» باسم الحلف وتحت راياته وشرعيته الشبان السوريين الأكراد الذين تصر على اعتبارهم إرهابيين ومتحالفين مع «حزب العمال الكردستاني» وحكومة دمشق.

نسأل عن سبب إهمال أو تجاهل جامعة الدول العربية. نعرف ان القمة القادمة سوف يعرض عليها الأمر بشكل روتيني للحصول على شرعية إقليمية أمام العالم الخارجي، وهو في الغالب شرط أميركي. ولكن ألا يختلف الوضع هذه المرة. سوريا، العضو المؤسس بالجامعة العربية، تتعرض لخطر الانفراط اذا لم يتضمن ميثاق الحلف الجديد المتفرع عن الحلف العالمي ضد الارهاب هدف استعادة وحدة الاراضي و «الشعوب» السورية.

لم نسمع بعد عن تصور الزعماء العرب مجتمعين، أو زعيم واحد على الأقل، لشكل الشرق الأوسط في المستقبل. هل يتصورون استمرار الحال متدهورا نحو البعثرة؟ هل يتصورون شرق أوسط جديدا بدول أقل أو أكثر عددا؟ هل نعود إلى وضع إقليمي ونظام إقليمي تأكد فشله، نكمل عليه فننهيه أم نعيده للحياة؟ لا نرى ولا نسمع زعماء عربا ومسلمين في قامة أسلافهم وخيالهم والتزامهم عروبة الأرض التي أسلمت لهم مقاليدها وثرواتها وآمالها.

نسأل عن مستقبل علاقات تركيا بالأقليم. لا ننسى أن تركيا، كانت ولا تزال بعد سوريا، الخاسر الأكبر حتى الآن. فقدت وتيرة القفزة الاقتصادية والتجربة التي انتقلت بها قبل الحرب السورية من حال إلى حال. كانت، قبل الحرب السورية، تحقق سلما داخليا مع الأكراد وبين الطبقات والمؤسسات، فقدت السلم والأمان، وكادت هذه المرة تقع هي نفسها فريسة حرب أهلية وتراجع اقتصادي واستقطاب سياسي وقمع بوليسي. ألا تبدو رغبتها واضحة في أن تتوسع في شمال سوريا وتتدخل لفرض واقع جديد على بقية سوريا.

ومع ذلك، نسأل أيضا، ان كان يحق لتركيا، بسبب المشكلات التي نشأت عن هجرة السوريين إليها، أو عن عبور لها، أن تفعل ما تشاء في سوريا مثلما حاولت أن تفعل في مصر الدولة العربية الأكثر سكانا والأوقع تأثيرا.

تضررت تركيا من الحرب الأهلية السورية، ومن تضارب نوايا الدول المتدخلة، تضررت اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا وقوميا، وربما تضررت أيضا في علاقاتها بالاتحاد الأوروبي ودفعت، أو ستدفع ثمنا غاليا، وتضررت نتيجة تدهور علاقاتها بالحليف الأميركي، وفقدت الكثير جدا وقد تفقد أكثر لو استمرت تلعب دور «الطعم» لقياس قوة وشهوة روسيا خدمة للحلف الأطلسي، في وقت لم يعد للحلف مكانة أو وحدة صف أو أهداف واضحة. الحلف الذي فشل في ردع روسيا في اوكرانيا وجورجيا وغيرهما.

كنا شهودا في الأسابيع الأخيرة على تغير مهم في توازن القوى العسكرية في سوريا لمصلحة حكومة دمشق بفضل موسكو. لا نتصور ان روسيا ستقبل ببساطة دخول قوات عسكرية إسلامية إلى سوريا لتعيد التوازن إلى سابق عهده، ولا نتصور انها، بعد مرور أسابيع أو أيام، ستقبل انعقاد مؤتمر جنيف بالشروط نفسها، فجنيف الحالي يستمد مرجعيته من جنيف (1)، وقرار مجلس الأمن رقم 2254، وكلاهما ثمرة توازن قوى على الأرض السورية وفى الإقليم انتهى ولم يعد قائما.

نخشى ان يؤدي التدخل العسكري الإسلامي السني تحت قيادة الولايات المتحدة إلى التعجيل بتقسيم سوريا بين طوائف وقوميات، والعراق شاهد. نخشى ان وقع تدخل عسكري سعودي تركي سني ان تتدخل إيران شيعيا فتشتعل الحرب الإقليمية الطائفية التي توسلنا ألا تقع. نخشى ان اشتعلت هذه الحرب ان تتدخل روسيا بريا وبحريا ومن الجو فان حدث وتدخلت، ففي الغالب لن تتدخل الولايات المتحدة لتحمي حلفاءها الذين دعتهم إلى التدخل واستجابوا. أوباما لا يتدخل بقواته البرية ليس لأنه ضعيف الشخصية أو لأنه إنسان مسالم وطيب القلب، أوباما ينفذ سياسة دفاعية تشكلت من خلال توافق عام بين مؤسسات الدولة الأميركية، وهي السياسة التي سوف يلتزم بها الرئيس الجديد القادم الى البيت الأبيض بعد أقل من عام.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى