قطر .. «موسكو» الثورات العربية (بطرس الحلاق)

 

بطرس الحلاق

استعاد ألبير كامو في روايته «صخرة سيزيف» أسطورة يونانية تقول إن الآلهة غضبت على سيزيف بسبب إهانته جوبتر. حكمت عليه بأن يقضي دهره حاملا إلى قمة الجبل صخرة تهوي لتوها إلى أسفله، فيعود هو ليرفعها من جديد إلى القمة. عملية عبثية بإطلاق المعنى، رأى فيها فيلسوف الوجودية، ألبير كامو، شرف الإنسان الصامد في وجه القدر. فوعي المأساة والتصدي لها كافيان عند كامو ليسموَا بالإنسان إلى مرتبة البطولة. منذ أكثر من قرن ونحن نرفع صخرتنا إلى القمة ثم نعود لنرفعها… وليتنا نتحلى بوعي بطل كامو. صخرتنا هي في البحث عن منقذ لنا خارج شعوبنا. مأساتنا هذه عبثية لأننا لا نزال ندور في حلقة مفرغة حتى الغثيان.
ما بين موسكو وواشنطن
سكرنا بالثورة البروليتارية وغدها المشرق، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، فسلّمنا قيادنا للاتحاد السوفياتي وقائده الملهم «أبي الشعوب»، ستالين. أصخنا له السمع وسلّمنا له أمورنا، مؤمنين بأنه سيحقق مشاريعنا في العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستعمار وتحرير فلسطين، إضافة إلى تحقيق الوحدة. وطوّعنا له شعوبنا نلهيها بالتعلات، بـ«طبخة من بحص» كما يقول قصصنا الشعبي. فعدنا بخفي حنين. لم نخسر فقط حاضرنا بل أضعنا معه وهج إرادتنا: خسرنا التليد والوليد. ثم غُصنا بعدها في «الثورة الحضارية» حسب تعبير محمد أنور السادات، فسلّمنا «الرسن» لواشنطن، وهي وحدها الكفيلة بأن تقودنا إلى بر الأمان اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وحضارياً. انتقل مركز الثقل من مصر وبلاد الشام إلى أمراء «الجزيرة» المنعم عليهم بثروات النفط والغاز، والمحتمين بدرع القوى الأميركية، والمحتكرين تفسير الوحي على هواهم. تفسخت أوطاننا ومجتمعاتنا تفسُّخَ مشاريعنا الجماعية، ولم ننجح إلا في إنتاج بضع مئات من الملياردريين تتيه كالطواويس أمام البؤساء والمشردين. أضعنا ما تبقى من الوليد التليد.
«الخاصة» و «العامة» أو تهميش الشعوب
صدرنا في «ثورة البروليتاريا» كما في «الثورة الحضارية» من البؤرة الفكرية نفسها: «الخاصة» وحدها تحرر «العامة»، الشعوب تحررها نخبتها المثقفة، لا فرق فيها بين من اقتبس علم الغرب الاشتراكي والرأسمالي على السواء، ومن نهل من علوم الدين على الطريقة الوهابية، ومن أتقن علم «العسكرتاريا» فأحكم قبضته على المجتمع. بقي الشعب، أو بالأحرى العامة. عجينة تُشكّل ويعاد تشكيلها حسب إيديولوجيات مُسقطة، وبقيادة «أخ أكبر» من غيرنا. المهم ألا يُسمح لها بالتعبير عن إرادتها، بصياغة طموحاتها في حياة كريمة بالشكل الذي ترتئيه. الحرية والتقدم يصبغان عليها نعمة من فوق. ولا يجوز لها إنتاج حريتها وتقدمها. غاندي استثار طاقة شعبه ووضع نفسه في خدمته؛ شعوب أميركا اللاتينية فرضت إرادتها على حكامها قبل أن تفرضها على «اليانكي»؛ شعوب أوروبا الشرقية هبّت برمّتها وانفكت من قيود الستالينية؛ وكذا فعلت بعض شعوب أفريقيا. أما نحن، فقيّدنا شعوبنا لننقذها من جهلها، متجاهلين استنكار عمر: «أَوَتقودون الناس إلى الجنة بالسلاسل!». رحم الله حكماءنا. إنما الجنة هي الطريق إليها كما يختاره الإنسان بحريته. وكل جنة جاهزة مسبقا، يُعدّها الآخر حتى بحسن نيته، جحيماً بجحيم. إنما الحرية هي الطريق إليها، على المستوى الفردي كما على المستوى الجماعي.
والأنكى: أننا تعامينا عن تجارب فذة في تاريخنا الحديث، حققتها عامتنا. فليست شعوبنا أقل ذكاءً ولا حيوية ولا إنسانية من باقي الشعوب. فثورة طانيوس شاهين («عامية أنطلياس»)، التي قامت في جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر وحشدت فلاحي الجبل من مسيحيين ودروز، انطلقت من الشعب قبل أن تخمدها النخبة الإقطاعية الدينية مستعينة بالأجنبي. وثورة عرابي باشا في مصر في ثمانينيات القرن نفسه، التي استمرت على شكل تمرد شعبي كان من أهم رموزه عبدالله النديم، قامت هي أيضا بإرادة الشعب، وهي التي رسمت الطريق لثورة شعب مصر العام 1919 التي انصاع لها سعد زغلول (ولم يكن يوماً خالقها)، وهي التي استعادها الشعب مع ثورة «الضباط الأحرار». تلك الثورات كانت الخميرة الحقيقية للتحرر. أما في سوريا فبرز يوسف العظمة مع «عامته» المسلحة ببنادق عتيقة وبالعصي لتعبر عن وعي الشعب وطموحه: ثورات أين منها ثورات بلاط عسكرية أنتجت نظام صدام والأسد وغيرهما؟ وكذا الانتفاضات الفلسطينية قبل أن تستوعبها «الخاصة». بذور الحرية حية في أرضنا، فكيف نتجاهلها؟ وأين يا ترى نجد الثقافة الحقيقية، أعند طانيوس شاهين وعرابي والبارودي ويوسف العظمة، أم عند مفكرينا العقائديين أو شبه العقائديين من عسكريين ومدنيين خلفوهم؟
وريثة موسكو وواشنطن؟
انطلقت الثورات المدنية الراهنة من التربة نفسها التي نبتت فيها ثورات «العامة»، فبشّرت بعصر جديد يُبنى بسواعد الشعب ووحيه، ومن خارج «النخبة» ومنظريها. فتصدت لها النخب الحاكمة بتحالف «موضوعي» مع النخبة المعارضة. تحاول الآن هذه النخبة ترويض الشعب في مصر وتونس، لم ينجح مسعاها حتى الآن، وأملنا أن يستظهر الشعب على من يبغي أن يقوده إلى الجنة بالسلاسل. في البحرين لا تزال الجذوة حية في وجه ترسانة من السلاح. وفي اليمن، التي أذهلنا شعبها بوعيه، لا سيما لدى حجباته الرائعات، استطاعت «العامة» باليد المجردة أن تستمر في وجه الترويض: إنها علامتنا الفارقة في الوعي والإصرار، علامتنا المباركة. في مصر كما في تونس يحاول «الإخوان المسلمون» مصادرة ثورة الشعب المدنية، ووجدوا محجتهم في إمارة صغرى تعوم على النفط والغاز، قامت بمشيئة المستعمر آنذاك. هل ننسى ما نصح به تشرشل أثناء الحرب العالمية الأولى – وكان إذاك مديراً للشؤون الخارجية في الحكومة البريطانية – بقوله: «علينا أن ننشئ حول كل بئر من النفط إمارة مستقلة»؟
قطر. أمير داهية انقض على أبيه فسلبه كرسيّه. يُغرق عُشر سكان إمارته الأصليين بالمال، فيما يستعبد عمالة يدوية وتقنية تمثل 90 في المئة من السكان. ينافس جاره السعودي في التقرب من السيد الأميركي وحليفه الصهيوني. يحلم بأن يعيد تشكيل العالم العربي بل والإسلامي وفق مصالحه، بعد أن شلّ، بهباته الحسنى، سياسة الغرب «الديموقراطي» المتهالك على المساعدات المالية. استقطب بقايا الثوريين اليساريين العرب، إضافة إلى «الثوريين الحضاريين». وانبرى لتوجيه الثورات المدنية العربية، عبر قنواته الإعلامية ودولاراته التي بعدد رمال صحرائه، ليجعلها تنصاع لسيطرة الإخوان المسلمين. وبدا، بعد أن مسخ الثورة المدنية، وكأنه شفيعها لدى واشنطن، بل – ويا للمفارقة – وكأنه احتل موقع موسكو التاريخي رمزياً قطباً لها. من غرائب التاريخ أن قطر أصبحت تدّعي وراثة موسكو وتمثيل واشنطن في آن. قطر «قُطر» الدائرة في الزمن العربي الخاسئ. أي مستقبل مستقبلنا إن تركنا أمرنا لسموّه؟
معاذ الخطيب: صوت صارخ في صحراء الوطن؟
لم نحلم يوماً في أشد كوابيسنا رعباً أن تتحول سوريا إلى هذه المقبرة المتوالدة يوما بعد يوم. صرخنا ورددنا الصراخ يوماً تلو يوم: المسؤولية الأولى تقع على عاتق نظام يمثل عبقرية الشر؛ يجمع إلى حنكة معاوية الأسطورية وحشية الحجاج المذهلة. وماذا بعد؟ هل نكرر القول مشدوهين كالدراويش إلى أن تمسي البلد قاعا صفصفا، موطنا للغربان؟ ونرضى بعبثية صخرة سيزيف؟ لا، علينا نحن، مع المقاومة المخلصة أن نجترح الحل، قبل أن تخرج الأمور عن سيطرتنا لتمسي في يد الفئات المتطرفة أو عند القوى الخارجية. الخيار الذي لا يزال قائما – ولكن إلى متى؟ – هو بين أمرين: إما توحيد القوى المسلحة الشعبية والسياسية التي تعمل بوحي الوطن، لتفرض إرادة «العامة» في الداخل الميداني، وإما الاستسلام لدهاء السياسة القَطَرِية الرنان رنين الدولار التي تشرف مباشرة على الائتلاف في كل قرار مهما كان صغيرا. انفضح هذا الدور أخيرا في طريقة انتخاب رئيس حكومة المعارضة، ما أثار الامتعاض حتى داخل الائتلاف. ولم يبق إلا معاذ الخطيب ليكرر أمام سيد قطر وحلفائه أن الثورة لا تكون ثورة إلا إذا ارتهنت بإرادة الشعب ومصلحته. ولكن، في ظل صمت الهيئات المعارضة السياسية والمقاتلة – ولكل منها حساباته أحيانا – لن يبقى من صوت ذلك الشيخ الرائع إلا صدى لا يثير عند وريثة موسكو ومعتمَدة واشنطن إلا ابتسامة رثاء واحتقار؛ هذا إن لم يجبر – لا سمح الله – على العودة إلى الحظيرة.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى