لا يشبه انقلاباً

لقد أحدث الانقلاب العسكري الفاشل يوم الجمعة في 15 تموز ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه (حزب العدالة والتنمية) هزة في الشرق الأوسط والوضع الجيوبوليتيكي العالمي.

ففي أعقاب الانقلاب وانزلاقه إلى مشروع فاشل، برز أردوغان وكأنه سلطان منتصر يتمتع بتفويض قوي لسحق المعارضة، وبأقل قدر من الاعتراض. لقد سارع أردوغان إلى توجيه إصبع الاتهام إلى عسكريين مؤيدين لفتح الله غولن، الزعيم الروحي التركي الذي يعيش في منفى اختياري في ولاية بنسلفانيا الأميركية.

سؤال قيمته 64,000 دولار

الآن، السؤال الملح الذي تصل قيمته إلى 64 ألف دولار، يتعلق بتوقيت الانقلاب. لماذا حدث الآن؟

يعقد المجلس العسكري الأعلى التركي مراجعة سنوية للجيش، وهي جلسة تستغرق ثلاثة أيام تُراجَع فيها كفاءة وولاء أفراد القوات المسلحة للدولة التركية. وقد راجت توقعات بأن الجلسة السنوية لهذا العام، والمقرر أن تعقد في أوائل آب (وهو موعد لم يتغير)، شتشهد عملية تطهير تطال مؤيدي غولن والمتعاطفين معه.

في غضون ذلك، كانت أصداء أقاويل عن انقلاب وشيك ضد أردوغان تتردد منذ مدة طويلة في أوساط المحللين والمراقبين للشأن السياسي التركي، مشفوعة بتوقع عملية تطهير وشيكة واسعة النطاق للضباط الغولنيين.

بمعنى آخر، يمكن تفسير المحاولة الانقلابية، بشكل من الأشكال، بأنها محاولة وقائية من قبل الجيش، وعلى وجه الخصوص الغولنيين المتشددين، ليس للحيلولة دون حدوث عملية التطهير المرتقبة فحسب، بل لإنهاء حكم أردوغان أيضاً.

لمحة موجزة عن Hizmet

لحركة غولن تاريخ يمتد على مدى ستة عقود في تركيا. وهي تُعرَف أيضاً باسم Hizmet، والتي تعني «خدمة»، في إشارة إلى الخدمات التي تقدمها للمجتمع. وليس لهذه الحركة، التي تتبنى نهجاً «من الأسفل إلى الأعلى» في ممارسة النفوذ السياسي والاجتماعي، بنية رسمية للعضوية فيها حيث إنها تعمل كمجموعة شبكات ذات بنية فضفاضة وتفتقر إلى قيادة واضحة للعيان. وعلى امتداد عمرها، عمدت حركة Hizmet إلى نشر رسالة غولن عبر إنشاء المئات من المؤسسات والجمعيات الخيرية، ودور النشر، والمؤسسات الإعلامية، وآلاف الكليات التي تحضّر طلبة الثانويات لامتحانات دخول الجامعات. وتقدر الثروة المتأتية عن عملياتها في تركيا بما بين 25 وثلاثين مليار دولار. وقد ارتقى العديد من الطلبة الذين درسوا في مدارس وكليات Hizmet إلى مناصب أساسية في مؤسسات الدولة. اليوم، يجد هؤلاء أنفسهم في قلب عمليات التطهير التي تقوم بها حكومة أردوغان.

امتد نشاط شبكات Hizmet ليشمل آسيا الوسطى والقوقاز وباكستان والبلقان وشمال أفريقيا. وخلال السبعينيات والثمانينيات، نسج غولن علاقات جيدة مع الأحزاب العلمانية في البلاد نائياً بنفسه، في الوقت عينه، عن الجيش. وفي ظل تولي تورغوت أوزال رئاسة الوزراء (1983-1989) ورئاسة الجمهورية (1989-1993) تمتع غولن بحماية رسمية من الحكومة.

إن إيديولوجيا الغولنيين مشتقة من التاريخ السياسي للإمبراطورية العثمانية وحركة «النور»، وهي الحركة التي أسسها المصلح الإسلامي التركي سعيد النورسي (1877-1960). وخلط غولن بين القيم الإسلامية التقليدية والقومية التركية، وعارض إيديولوجيا أتاتورك العلمانية، وروّج للتعدد الثقافي والتسامح مع الأديان الأخرى.

وفي التسعينيات، أطلق رجب طيب أردوغان (الرئيس الحالي)، وعبد الله غول (وزير الخارجية الأسبق والرئيس لاحقاً)، وأحمد داوود أوغلو (وزير الخارجية السابق ولاحقاً رئيس الوزراء)، وبولند أرينج (نائب رئيس الوزراء السابق) حزب «العدالة والتنمية» من رماد حزب «الرفاه». وفي ما شكل مفاجأة للكثيرين في الغرب، اليوم، تخلّى حزب «العدالة والتنمية» عن الإسلام السياسي، ودعا إلى إنشاء ما وصفها بـ«ديمقراطية محافظة».

ومع صعود نجم حزب «العدالة والتنمية» في السياسة التركية، وجد غولن في أردوغان رفيقاً إيديولوجياً يمكنه أن يوظفه لزيادة نفوذه في السياسة التركية. ورأى الرجلان أن توجهاتهما الإيديولوجية تلتقي عند هدفين استراتيجيين رئيسيين: تطهير الدولة التركية من العلمانيين وإضعاف المؤسسة العسكرية. وفي الواقع، فإن حركة Hizmet لعبت دوراً فعالاً في محاكمات «ارغنكون» الشهيرة والتي طالت أشخاصاً رفيعي المستوى، واتُّهِم فيها نحو 300 ضابط عسكري وصحافي علماني ونائب معارض، بالتآمر سراً لإطاحة حكومة حزب «العدالة والتنمية».

دور غولن في محاكمات «ارغنكون» كان مهماً، فقد عمد إلى استخدام علاقاته الوثيقة بشعبة الشؤون التركية في الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) للتنصت على المحادثات الهاتفية للمتهمين واستخدام التسجيلات ضدهم في المحكمة.

السقوط في الخطيئة

لقد أثار تنامي سلطة ونفوذ الغولنيين في كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية التركية عوامل القلق لدى أردوغان، بينما كانت خلافاتهما تتكشف تدريجياً للعيان. انبرى غولن إلى رفع سقف انتقاداته لتنامي علاقات أردوغان مع إيران وتدهور علاقاته مع إسرائيل، والتي بلغت أدنى مستوى لها في أعقاب حادثة «أسطول الحرية» في غزة عام 2010 والتي راح ضحيتها عدد من المواطنين الأتراك، الذين قتلوا في هجوم للبحرية الإسرائيلية على سفينة «مافي مرمرة» التركية التابعة للأسطول، والتي كانت تحمل على متنها إمدادات غذائية ومواد بناء إلى غزة.

وفي أعقاب حادثة «مافي مرمرة»، وجّه غولن ــ الذي نجح إبان وجوده في المنفى في نسج علاقات وثيقة مع اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة ــ انتقادات لاذعة لأردوغان، ناصحاً إياه بعدم قطع العلاقات مع إسرائيل، وطالباً منه أن ينأى بنفسه عن إيران. ومع اندلاع التظاهرات في حديقة «غازي بارك» في عام 2013 وقيام الغولنيين بكشف النقاب عن الفساد في حكومة أردوغان، تدهورت العلاقات بين أردوغان وغولن إلى أن بلغت حد العداوة الكاملة.

إن المحاولة الانقلابية الفاشلة، يوم الجمعة الماضي، والتي جاءت قبل نحو ثلاثة أسابيع على التئام المجلس العسكري الأعلى، تتسم بأهمية بالغة وتستحق أن تولى عناية كبيرة. لقد بنى الرئيس أردوغان جيشاً من الأعداء من جماعات نخبوية من أرباب المهن والمثقفين، الذين يتمتعون بنفوذ في المجتمع والسياسة التركيين. وبفضل سياسات أردوغان الخاطئة بشكل رئيسي، يستمر الاقتصاد التركي في التدهور، ويمكن وصف السياسة الخارجية التركية، بكل بساطة، بأنها باتت كالسفينة الغارقة. ومع سيطرة الشكوك على كافة نواحي الحياة السياسية والاجتماعية التركية، فإن أمر مواجهة تحديات كبيرة، في الأيام المقبلة، يعتبر قدراً مقدوراً بالنسبة لأردوغان والزمرة المحيطة به التي تربطها في ما بينها وشائج وثيقة.

* مدير تحرير مؤسسة «فورين بوليسي كونسبتس» للاستشارات ــ كندا

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى