لغة السياسة وتزوير الواقع (فاروق يوسف)

 

فاروق يوسف

ما بين "تحرير القصير" و"سقوطها" مسافة شاسعة من خيال اللغة الجريحة والجارحة التي تسعى إلى تفسير الواقع وفق منطق سياسي منحاز.
فالبلدة السورية التابعة لمحافظة حمص كانت قد شهدت طوال الفترة الماضية قتالاً دموياً بين طرفين سوريين، دخل حزب الله اللبناني فيه مسانداً لأحدهما. أسفر ذلك القتال عن سقوط مئات/آلاف القتلى، معظمهم من السوريين. اضافة إلى أن المدينة الخارجة من الحرب بدت في الصور أشبه بواحدة من المدن الالمانية لحظة انتصار الحلفاء. خرائب وأطلال وشوارع فارغة وأحياء مهجورة.
كانت هناك مجزرة واسعة.
كان السوريون يقتلون السوريين في مسرح فضاؤه مدينة هجرها سكانها. وهو ما يحدث كل لحظة في سوريا التي تشهد حربا عبثية منذ أكثر من سنتين.
وإذا ما كان حزب الله قد دخل على الخط هذه المرة ليمتزج الدم اللبناني بالدم السوري في سواقي المجزرة فان المدن السورية الأخرى صارت تروي أراضيها بدماء سورية صافية.
ليست الموعظة هنا. بل في الموقع الذي تكون فيه لغة السياسة قادرة على أن تتخطى الألم بنعومة مجازها.
فمَن يتحدث عن التحرير وهو الطرف الرسمي لا يعترف بنقاء دم العدو المحتل، الذي لم تكن صدفة أن يكون سوريا. في المقابل فان مَن يتحدث عن السقوط، انما يدفع العدو المحتل خارج محيط انتمائه السوري.
الطرفان يستعملان لغة مضللة في تجنبها للحقيقة، غير أنها اللغة الوحيدة المتاحة للتعبير عن غصة المرارة العميقة التي يشعر بها السوريون، وهم يرون مدنهم تدمر بعد أن صارت مسرحا للعنف. فمَن حرر المدينة كان سببا في سقوطها، ومَن اتخذها متراساً كان سبباً في خرابها.
بلدة القصير الخارجة لتوها من الحرب لا تنتمي إلى ماضيها. إلى صورتها التي صارت اليوم قديمة أو لنقل أثرية. ما من شيء يذكر بها. لغة الفريقين المتحاربين تخون تلك البلدة وتضلل طريقة النظر إليها، باعتبارها بلدة منكوبة، خذلها السوريون، حين قرروا أن تكون ملعبا لاستعراضات القتل.
طرف يقول بلغة المنتصر المتشفي "هذا ما سيقع في المستقبل القريب لعدد من المدن والبلدات السورية" متجاوزاً حقيقة المعاني البشعة التي تتستر عليها جملته، اما الطرف المهزوم فانه يتحدث عن خسارة معركة واحدة في نزال سيكون طويلاً، غافلاً عن ذكر ما انطوت عليه خسارته من خراب بشري ومادي.
"القصير" حُررت من أيدي السوريين وسقطت في أيدي السوريين.
لغة الدعاية السياسية المضللة تريد أن توحي بان المحتل الجديد هزم المحتل القديم أو أن المحرر الجديد محا المحرر القديم. يتبادل الطرفان المتحاربان الأدوار. سجال مسلح وغادر ولئيم، الحقيقة هي ضحيته الأولى. تحت رمادها تختبئ حقائق الرعب والهلع والأهوال التي عاشتها بلدة القصير، وهي تودع سكانها الذاهبين في اتجاهين، اما إلى القبور أو إلى التشرد الذي سيكون طويلا. ذلك لان تلك البلدة المنكوبة لم تعد مكانا صالحا للعيش، بعد أن أفسدت رائحة القتل هواءها وصارت أشباح القتلى تسكن كل متر من أرضها.
في لغة السياسيين العرب الكثير من التجريد والقليل من التشخيص. وبسبب الاستعمال الدعائي المبرمج لوسائط الاتصال الجماهيري انتقلت تلك اللغة إلى أفواه الناس العاديين. فصار العراقي على سبيل المثال يتحدث عن العملية السياسية أكثر من مما يفصح عن رأيه في ذهاب بلده بكل ما فيه إلى المجهول.
بالقوة نفسها أعمى الاعلام السوري في حديثه الاحمق عن العصابات المسلحة أعين كثير من السوريين عن رؤية صورة بلدهم وقد تحول إلى بركة دم تتسع كل لحظة.
لغة السياسيين العرب تزور الواقع وتستثمر أباطيلها على حساب الحقيقة.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى