لماذا أخفق الإسلاميون في ليبيا؟ (أحمد فرحات)

أحمد فرحات

فاجأت الانتخابات الليبية الأخيرة معظم المراقبين العرب والأجانب بنتائجها التي جاءت لغير مصلحة تيارات الإسلام السياسي الليبي، وفي طليعتها "حزب العدالة والبناء"، المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا. فلقد أسفرت النتائج النهائية لانتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان الليبي) عن فوز ساحق لتحالف القوى الوطنية بقيادة د. محمود جبريل، رئيس الحكومة المؤقتة خلال الثورة، حيث حصد تحالفه أربعين مقعداً من أصل 80، مخصصة للأحزاب السياسية، في مقابل 17 مقعداً فقط حصدها "حزب العدالة والبناء" الإسلامي.
أما باقي المقاعد فتقاسمتها مجموعة من الشخصيات المستقلة، والأحزاب الصغيرة المتفرقة، والتي يسعى الحزبان الليبيان الأساسيان إلى استمالتها لضمان الحصول على الأغلبية المقررة في البرلمان، المؤلف أصلاً من 200 مقعد، خُصص 120 منها للمرشحين المستقلين الذين يصعب تحديد انتماءاتهم السياسية. فيما يرجح الكثير من المراقبين أن دفة الحكم المقبلة ستميل بالتأكيد لتحالف القوى الوطنية، الذي اكتسح الأصوات في أكثر من عشر دوائر انتخابية من أصل 13 دائرة، وذلك بفارق لا يسمح حتى بالمنافسة في حدها الأدنى مع الخصم. ولم يكن للتيار الإسلامي إزاء هذه النتائج المفارقة إلا أن يعترف بالأمر الواقع، ويقرّ بفوز تحالف جبريل الذي يضم زهاء 60 حزباً معتدلاً. وفي هذا الصدد صرّح "مرشد إخوان ليبيا" بشير سالم الكبتي بأن " نتائج الانتخابات تعتبر إيجابية في ظل كونها أول مرة تمارس فيها الأحزاب الحياة السياسية في ليبيا بعدما منعها العقيد الراحل معمر القذافي من حرية العمل على مدى سنوات حكمه الـ 42 الماضية."
 
وبعد رفضه اعتبار هذه النتيجة خسارة سياسية لحزب العدالة والبناء، أردف الكبتي يقول للإعلام "بأن من فاز بنتيجة هذه الانتخابات هما الديمقراطية والشعب الليبي." ونوّه بأن "عدم تحقيق الإخوان في ليبيا لما حققه نظراؤهم في مصر وتونس بعد ثورات الربيع العربي يرجع الى اختلاف الظروف في البلدين مقارنة بليبيا."
 
الإنتخابات المعجزة
 
من جهة أخرى وصف رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل النتائج الأولية للانتخابات بأنها معجزة، وأنه لا يتوقع أن يحكم الإسلاميون ليبيا، لكنهم سيؤدون دوراً سياسياً جوهرياً في البلد.
 
أما د. محمود جبريل الذي يضم تحالفه الفائز أكثر من 60 حزباً و200 جمعية من المجتمع المدني و281 شخصية وطنية مستقلة، فقد أعلن ناطق باسمه " أن التحالف يرفض توصيفه بالعلماني أو الليبرالي. إنه فقط كيان إسلامي سياسي معتدل."
وكان جبريل نفسه قد أعلن للصحافة "بأن المرحلة الجديدة تقتضي احتواء الجميع وعدم إقصاء أي جهة"، لافتاً إلى أن الاستحقاق في هذه المرحلة هو استحقاق وطني وليس استحقاقاً سياسياً فقط. وقال أنه يمد يده إلى الذين قاطعوا الإنتخابات، وحاولوا تعطيلها، لافتاً إلى أن تحالفه سيسعى إلى أن يكون هؤلاء ممثلين في أجهزة الدولة. كما طالب بإشراك ما يسمونهم بالتيارات المتطرفة في إعادة بناء الدولة والوطن، منوهاً إلى أن هذه الفئة ظلمت وحرمت كثيراً، وأن التطرف إنما ينشأ عن الإقصاء والتهميش.
 
وركز جبريل أيضاً على ضرورة تعزيز النظام اللامركزي في إدارة شؤون البلاد. "وأنه من مصلحة التنمية أن تكون موزعة على كل الليبيين في كل مناطقهم، وأنه ولّى زمن تركيز التنمية في منطقة واحدة، أو على الأصح في مدينة أو مدينتين على الأكثر."
 
ومن المفيد أن نذكر هنا بعض تعليقات الصحف الغربية حول ظاهرة محمود جبريل ذي الخلفية الأكاديمية الغربية. فقد ركزت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية على شخصية جبريل قائلة بأن "ما كسر قالب الازدواجية في ليبيا بين "إسلاميين"  وغير "إسلاميين"، كان خطاب جبريل السياسي الذي لم يوجه أبداً تهم التطرف ضد الذين دعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، مثل بعض الأحزاب في ليبيا، بمن فيها الإسلامية منها. وقد تعهد جبريل بجعل الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع لا حصرياً."
 
أما "وول ستريت جورنال"، وبعدما أشارت إلى مسألة عدد وتوزيع المقاعد في المجلس الجديد، وأنه من أصل 200 مقعد خُصص 120 مقعداً للمرشحين المستقلين، أشارت إلى أن "هذا التخصيص يعني أن أي مجموعة حزبية مهما جاءت قوية انتخابياً، ستحتاج إلى تشكيل ائتلاف مع مجموعة من السياسيين المستقلين الذين يركزون بشكل جوهري على القضايا المحلية أكثر من القضايا الدينية". وأردفت الصحيفة الأميركية تقول بأنه "بات من الموضة القول أن تدخل الناتو في ليبيا ترك هذا البلد العربي في حال ليست أفضل من سابقتها… وأنه لأمر واقع وموضوعي القول اليوم بأن الليبيين أقبلوا بفرح على التصويت في انتخابات حرة."
 
وتستدرك الصحيفة قائلة بأن: الانتخابات وحدها لا تصنع ديمقراطية، لكن الليبيين يدركون في المقابل أنها أفضل من ديكتاتورية القذافي وأولاده."
 
لماذا تراجع الإسلاميون؟
 
ثمة أسباب عدة وراء إخفاق الإسلاميين في الاستحقاق الانتخابي البرلماني الأول في ليبيا، لعلنا نجمل أبرزها بالآتي: 
– المجتمع الليبي في الأساس مجتمع إسلامي محافظ، يتميز بالوسطية والاعتدال والإلتزام  الديني "العفوي" والموروث… فضلاً عن أنه متجانس من ناحية المذهب. فمسلمو ليبيا مثلاً يتبعون المذهب المالكي.. مع وجود أقلية ضئيلة جداً للمذهب الإباضي، خصوصاً في منطقة جبل نفوسة… وهذا ما يجعل سائر دعوات الإسلام السياسي المؤطرة في أحزاب أو تيارات أمراً لا تأثير له في ليبيا. فالراية الإسلامية الواحدة يتقاسمها الجميع بلا مزايدات تمثيلية سياسية حصرية، لا بل إن الذي يعمد إلى أدلجة الإسلام وحصره في جماعته، سرعان ما ينفر منه الليبيون ويقصونه من مشهد اهتمامهم العام مهما كانت أهميته وجاذبيته وحتى "قدسيته".
 
–  انقسام الإسلاميين بعضهم على بعض، وعدم تكتلهم في جبهة انتخابية واحدة. فلقد دخلوا المنافسة الانتخابية مشرذمين في ستة أحزاب متناحرة… فضلاً عن ترشح إسلاميين آخرين بصورة مستقلة عن أي حزب، أو تيار سياسي إسلامي.
 
– ضعف تجربة العمل السياسي للإسلاميين في ليبيا سواء عبر الأساليب السرية (أيام القذافي) أم العلنية منها، خصوصاً في المدة القليلة الأخيرة من عمر الثورة على النظام السابق. لذلك من المبكر القول إن في ليبيا أحزاباً إسلامية (أو غير إسلامية) راسخة بعملها السياسي الهرمي والمنظم على غرار جماعات الإخوان في مصر وتونس والمغرب والسودان الخ…
 
– المجتمع الليبي مجتمع قبلي في بنائه الاجتماعي… وكل قبيلة تزداد انكماشاً وعصبية، خصوصاً في أيام الحروب والنزاعات التاريخية الداخلية منها، والخارجية. ولذلك، ومهما اشتد ساعد التيارات الإسلامية في المجتمعات القبلية تبقى عصيّة على إحداث اختراق يذكر في البنية القبلية.
 
يُضاف إلى ذلك أن البنية القبلية، وكما يقول بعض الدارسين، "تحافظ على طقوس إسلامها الشعبي التقليدي (التصوف وظاهرة الزوايا) وتكون أقل طلباً على خطاب الشريعة الذي تدعو إليه الحركات الإسلامية وتمارس به الدعاية الانتخابية والعمل السياسي."
 
– الممارسات الفوضوية والأخطاء الكثيرة وأعمال العنف التي ارتكبها الثوار في مرحلة ما بعد التحرير في ليبيا، انعكست كلها سلباً على صورة تيارات الإسلام السياسي في هذا البلد، ما جعل الناخب الليبي ينفر من التصويت لمرشحيها مهما تزيّوا بالأخلاقيات الدينية والشعارات الجاذبة.
 
– انحياز القوى الشبابية الليبية الجديدة بقوة لتحالف القوى الوطنية، لأن الأغلب الأعم من هؤلاء الشباب ليسوا إسلاميين بمعنى التحزّب السياسي. وهذا أمر لم يقرأه الإسلاميون جيداً، وهو يؤشر إلى أنهم ليسوا وحدهم الأكثرية في هذا البلد. وأن ثمة أيضاً فرقاً بين الإقبال على الدين الموجود بحماسة لدى الشباب الليبي وبين استقطابات الإسلام السياسي وتوجهاته وأجنداته الداخلية والخارجية.
 
 
– ليس هناك من نجومية أو "كاريزمية" لرجال دين في المجتمع الليبي الراهن. ولذلك فإن المشتغلين بين رجال الدين الليبيين في مجال الإسلام السياسي كانوا ولا يزالون مقودين إلى مرجعيات إسلامية سياسية خارجية، الأمر الذي أضعف ويضعف من دورهم وقدرتهم على التأثير في مجتمعهم وإنتاج حراك قوي وفاعل لهم على الأرض.
 
 
– يبدو أن الناخب الليبي قد استفاد من تجارب ما حصل ويحصل من الجماعات الإسلامية السياسية التي وصلت إلى السلطة، وخصوصاً في تونس ومصر، ومثل هذه التجارب جعلت حتى الرئيس التونسي محمد المنصف المرزوقي يعلّق على نتائج الانتخابات الليبية بالقول: "إن الأداء غير المقنع للإسلاميين في مصر وتونس، كان مؤثراً على اختيار الليبيين في أول انتخابات تشريعية ديمقراطية في بلادهم، موضحاً أن التيارات الإسلامية ليست فصيلاً واحداً، وظاهرة الحركات السلفية تحتاج إلى معالجة ثقافية."
 
في ضوء نتائج الانتخابات الليبية التي لم تنشر رسمياً بعد، ومن قبلها الانتخابات الجزائرية، هل يمكن الحديث عن توقف زخم صعود الإسلام السياسي لمصلحة التيارات الأخرى في المنطقة العربية والإسلامية؟ سؤال يبدو أنه من المبكر الإجابة عنها. ودائماً الأمور تكون بنتائجها.

مؤسسة الفكر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى