ما الذي حدث لـ “النموذج التركي”؟ (سونر چاغاپتاي و ديفيد بولوك)

 

سونر چاغاپتاي و ديفيد بولوك

 

هل يمكن استنساخ تجربة تركيا خلال العقد الماضي في ظل حكومة «حزب العدالة والتنمية»، التي نجحت إلى حد ما في الدمج بين الديمقراطية والعلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة والسياسة الخارجية الإسلامية والرأسمالية والمنهج الإسلامي — من قبل دول "الربيع العربي"؟ وبمعنى آخر، هل تُصنع نسخ عربية من «حزب العدالة والتنمية» في القاهرة وطرابلس وتونس وصنعاء أو حتى دمشق وغيرها؟ نعتقد أن دولة واحدة من تلك الدول هي المرشحة بشكل كبير، على الرغم من كل الحديث عن "النموذج التركي".
لقد شهدت تركيا حتى الآن عقداً كاملاً من حكم «حزب العدالة والتنمية». ورغم جذوره الضاربة بعمق في الحركة الإسلامية في البلاد، إلا أن الحزب تبنى مواقف معتدلة لكي يأتي إلى السلطة في عام 2002. وهذا الاعتدال يقوم على ضغوط ديمقراطية وغير ديمقراطية. لقد واجه «حزب العدالة والتنمية» المعضلة الكلاسيكية للأحزاب المتطرفة في الديمقراطيات التي تمتلك وسائل تحقيق التوازن بين السلطات (والتي تمثلت في الحالة التركية في القضاء والجيش): وذلك من خلال إما التحرك إلى الوسط والانتخاب أو البقاء على الهوامش والتلاشي. لقد كانت تلك معضلة مريرة لـ «حزب العدالة والتنمية» لأن المحاكم والجيش العلمانيين اللذين كانا يتسمان بالقوة والثبات قد حظرا بشكل متكرر أسلاف الحزب الإسلاميين، ووضعا «حزب العدالة والتنمية» بين خيارين: "إما الاعتدال أو التعرض للإغلاق والإقصاء".
وكانت النتيجة أن «حزب العدالة والتنمية» تبنى مواقف معتدلة في النهاية.
وما إن اعتلى الحزب سدة الحكم حتى حقق نمواً اقتصادياً خارقاً للأتراك. ثم قام «حزب العدالة والتنمية» بتوزيع بعض هذه الثروات على الطبقات الوسطى والعاملة. وخلال العقد الماضي، تضاعف متوسط الدخل التركي ثلاث مرات، وتركيا الآن تمتلك طبقة وسطى كبيرة، ليس فقط في اسطنبول لكن أيضاً عبر المدن الصغيرة في الظهير الأناضولي. وقد حققت هذه الاستراتيجية قاعدة دعم قوية لـ «حزب العدالة والتنمية»، مما جعلته يحظى بشعبية هائلة: في الانتخابات الأخيرة التي أُجريت في تموز/يوليو 2011، حصل الحزب على أغلبية نسبية ساحقة بلغت 50 بالمائة تقريباً من الأصوات.
إن تبني الرأسمالية كان العامل الرئيسي وراء استراتيجية «حزب العدالة والتنمية». وقد زادت شعبية الحزب منذ ذلك الحين بحيث تمكّن من إعادة تشكيل تركيا، حيث أخضع الجيش الذي كان متحكماً في سير الأمور والنخبة التركية – بما في ذلك المحاكم العلمانية ومجتمعات الأعمال والإعلام – وضمها إلى معسكره وتحت لوائه. وتظهر نزعته السلطوية في التعامل مع النساء أو الأقليات أو الصحفيين على السطح بين الحين والآخر، لكنها غالباً ما تصطدم بأصوات أكثر اعتدالاً بين مجالسه الداخلية وفي المجتمع التركي بأسره. 
وفي غضون ذلك، دار «حزب العدالة والتنمية» دورة شبه كاملة في السياسة الخارجية. وفي البداية، أثار الحزب مشاكل مع الولايات المتحدة حول مسائل جوهرية في الشرق الأوسط، من بينها حرب العراق والبرنامج النووي الإيراني، على أمل إظهار تركيا كـ "قوة إسلامية". وقد نجحت هذه السياسة على جانب العلاقات العامة على الأقل: فقد حظي «حزب العدالة والتنمية» بشهرة كبيرة ليس فقط داخل تركيا، بل عبر أنحاء دول الشرق الأوسط المسلمة. لكن الحزب غيّر مساره مؤخراً حيث أصبح أكثر قرباً من المواقف الأمريكية حول إيران وتعاون أيضاً مع واشنطن في ليبيا وهو يتعاون معها حالياً في سوريا.
وهذا يرجع إلى أن «حزب العدالة والتنمية» أصبح يدرك أن أنقرة كـ "قوة إسلامية" خالصة في الشرق الأوسط، لكنها معزولة عن الغرب، تشبه في أحسن الأحوال "اليمن الثرية"، بمعنى أنها ستكون أشبه بدولة إسلامية مزدهرة وضخمة بدون أي قيمة حقيقية للأمن الإقليمي. وبعد ذلك أدرك «حزب العدالة والتنمية» أن قيمته الحقيقية للشرق الأوسط تتمثل في أنه قوة إسلامية تحظى بروابط قوية مع الولايات المتحدة وتمتلك تقنيات حلف شمال الأطلسي وعضلاته. وهذا الوضع الذي يتمحور حول المصلحة الذاتية، والذي يمنح تركيا نفسها وضعاً أمنياً أفضل في منطقة مضطربة، كان العامل المحفز للتحول في سياسة أنقرة الخارجية. ووفقاً لذلك، ففي أيلول/سبتمبر 2011، اتخذت تركيا قرارها الأكثر استراتيجية خلال العقد الماضي، حيث قررت المشاركة في مشروع الدفاع الصاروخي لحلف "الناتو" في القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت نفسه فإن مشاكل تركيا الواضحة للعيان وإحباطاتها في التعامل مع كل من دمشق وبغداد مؤخراً سلطت الضوء داخل البلاد على القيود المفروضة على محاولة تصدير "نموذج تركي" إلى الساحة الجيوسياسية الإقليمية الأوسع نطاقاً.
لقد مزج «حزب العدالة والتنمية» بين الإسلامية والرأسمالية والديمقراطية وعضوية "الناتو" والسياسة الخارجية "الإسلامية". فهل هذا هو الطريق المستقبلي لكي تمضي المجتمعات العربية في الشرق الأوسط إلى الأمام؟ وبمعنى آخر، هل من الواقعية أن نتوقع أن يزدهر نموذج «حزب العدالة والتنمية» في المجتمعات العربية عقب سقوط الأنظمة السلطوية، مثل مصر؟
النقطة الأولى التي غالباً ما يُغضّ الطرف عنها أنه وبعد مضي ما يزيد عن العام على بدء "الربيع العربي"، فإن معظم الدول العربية لم تتجاوز مرحلة السلطوية بعد. والواقع أن معظم تلك الدول إما لا يزال يصارع السلطوية أو أنه يمر مؤخراً بحالة من الفوضوية. على سبيل المثال، لا يزال الملوك في دول الخليج العربي الست جميعاً، فضلاً عن الأردن والمغرب، يتشبثون بقوة بالسلطة بشكل أو بآخر – وبعض تلك الدول لها برلمانات منتخبة ضعيفة، والبعض الآخر يفتقر حتى لبرلمانات كهذه.
وفي ليبيا واليمن، تمت الإطاحة بالحكام المستبدين، لكن الحكومات الجديدة لم تُحكم سيطرتها على السلطة ولا تزال رهينة إلى حد ما لميليشيات قبلية أو إقليمية أو دينية. وفي العراق، يبدو أن الحكومة المنتخبة تتراجع إلى الوراء بدلاً من السير إلى الأمام بعيداً عن النزعات الاستبدادية، حيث يُظهر النظام السياسي مؤشرات جديدة على الشرذمة. وسوريا تشهد صراعاً دموياً بين نظام ديكتاتوري وانتفاضة شعبية تكتسي بالعنف بشكل متزايد. ولم تشهد فلسطين انتفاضة شعبية أو تغيراً سياسياً سلمياً؛ وبدلاً من ذلك، فإنها لا تزال منقسمة بين حكومتين مختلفتين، وقد انتهت مدة الشرعية الانتخابية لكلا الحكومتين منذ فترة طويلة، ولا ترغب أي منهما أو ليس لديها القدرة على التفاوض بحرية مع إسرائيل.
والآن نتحول إلى تونس ومصر.
في تونس، كما في تركيا، فاز حزب إسلامي معتدل نسبياً بأكثرية الأصوات في انتخابات حرة لكن لا يزال عليه التنافس مع مزيج من الأحزاب السياسية العلمانية نسبياً والمؤسسات والجماعات الاجتماعية. وكما هو الحال في تركيا، غاب الأصوليون المتطرفون عن البرلمان أو المؤسسات الوطنية الكبرى الأخرى، رغم أن لهم تواجد متواضع في المجتمع التونسي. وعلى غرار تركيا أيضاً، فإن الشعب التونسي ككل مثقف جيداً نوعاً ما، حيث توجد شريحة كبيرة من أصحاب الدخول المتوسطة رغم وجود بؤر فقر كبيرة. كما يبدي الحزب الإسلامي المهيمن الكثير من الود للقطاع الخاص، لا سيما الشركات الصغيرة، ولا يشكل خطراً على السياحة وحبال النجاة الاقتصادية الدولية الأخرى الهامة.
وفضلاً عما سبق، تحملت السلطات الإسلامية الجديدة في تونس على وجه السرعة مسؤولية تجنب استثارة العداء مع من يتمنون للبلاد النجاح في الغرب وأظهرت بأساليب عملية رغبتها الشديدة في استثمار العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الولايات المتحدة وغيرها من الأصدقاء الأجانب. ولكل هذه الأسباب، يبدو أن تونس هي المرشح الأفضل للسير على خطى تركيا. واللافت للنظر وليس من قبيل المصادفة أن "حزب النهضة" الحاكم في تونس هو الحزب الوحيد في أي دولة عربية يعترف صراحة برغبته في محاكاة "النموذج التركي".
واعتباراً من تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بعد عامين تقريباً من بدء "الربيع العربي" في تونس، ظلت توقعات البلاد المستقبلية وسجلها عقب الثورة ثابتة بلا تغير – لكنها لا تزال تميل في اتجاه "النموذج التركي". فمسوّدة الدستور لا تزال تحافظ على مبادئ القانون العلماني والحريات المدنية والمساواة بين الجنسين. ويبدو أن الأحزاب السياسية غير الإسلامية، والتي لا تزال متشرذمة، تحتفظ بدعم نحو نصف الجمهور، ويرجح أن تواصل حرمان "النهضة" من احتكار السلطة. وقد تم إضفاء الطابع القانوني على بعض الأحزاب السلفية، وسط ضغوط متزايدة من الشارع للالتزام بالتقاليد الإسلامية، لكن العلمانيين والتقدميين أيضاً لديهم قدرة كبيرة على الحشد وأصوات مسموعة. كما أن الاقتصاد قد استعاد معدلات نمو محترمة إن لم تكن مزدهرة.
أما مصر فالأمر معها مختلف تماماً. فقد حاز حزب «الإخوان المسلمين» بأغلبية نسبية في انتخابات حرة، لكن منافسيه الرئيسيين في السياسات والمجتمع ككل، هي الأحزاب والحركات السلفية الأكثر أصولية وتطرفاً، وليس العلمانيين. وعلى عكس تركيا، لا يبدو أن الجيش أو القضاء أو أي مؤسسات أخرى تمثل أدوات توازن فعالة ضد هذا الاتجاه.
وفضلاً عما سلف، يبدو أن جماعة «الإخوان» عازمة على احتكار السلطة السياسية، رغم وعودها السابقة باتباع نهج ديمقراطي أكثر شمولية. ويشير الدستور المصري الجديد، الذي تم التصديق عليه في كانون الأول/ديسمبر 2012، إلى المزيد من الانحراف تجاه أسلمة الدولة (وذلك وفقاً لليبراليين مصريين)، بما في ذلك فرض قيود جديدة محتملة على حريات الأفراد والمجتمع المدني.
وفي الميدان الاقتصادي، فللأسف لا تزال مصر تعاني من فقر مدقع وأمية على نطاق واسع – ويبدو أن الخطط الاقتصادية للنظام الجديد هي عبارة عن مزيج من المنهجين الديني والشعبي ولا تعتمد على أجندة واقعية لتحقيق التقدم والتنمية على غرار أجندة «حزب العدالة والتنمية». وعند الحديث إلى المصريين (وليس إلى الجمهور الغربي)، تؤكد «الجماعة» على توجهها الإسلامي، وليس الديمقراطية أو التنمية. ولا شك أن اعتماد البلاد الكبير على المنح والقروض الأجنبية سيرغمها على إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية المحدودة، لكن هذا لا يعني على الأرجح تحقيق نمو يكفي لإنهاء ذلك الاعتماد في أي وقت قريب.
 وأخيراً، خرجت الحكومة المصرية الجديدة في يعض الأحيان عن طريقها لتعادي أصدقائها في الولايات المتحدة وأوروبا بشأن قضايا هامشية، حيث ذهبت إلى حد اعتقال موظفين من المنظمات الأهلية الدولية الداعمة للديمقراطية في المنطقة. وأخيراً وليس آخراً، تنكرت «الجماعة» علانية وبشكل صريح من مقارنتها بـ "النموذج التركي". بل إن معظم المحللين الأتراك المستقلين يتفقون على أن معظم المصريين يكرهون أي تلميح إلى نهج "العثمانية الجديدة" من قبل أنقرة. وأظهرت أحدث استطلاعات الرأي التي تمت برعاية تركية أن المصريين (وغيرهم من الجماهير العربية الرئيسية) تراجعت نظرتهم إلى تركيا كنموذج عما كان عليه الحال في العام الماضي، حيث لا يزال حوالي نصف السكان على الأكثر يتمسكون بذلك الرأي.
غير أنه في ميدان السياسة الخارجية، تحسنت العلاقات الثنائية بشكل كبير. فالحكومتان على سبيل المثال لديهما خطاب مشترك إلى حد كبير بشأن دول مجاورة هامة مثل سوريا وإسرائيل. لكن الحقيقة هي أن تركيا وحدها هي التي تشارك سوريا حدودها، بينما مصر وحدها هي التي تشارك إسرائيل حدودها، ولذا فإن التعاون العملي في هاتين المسألتين يعد أمراً بعيد المنال. كما أن جهود مصر قصيرة الأجل للجمع بين تركيا – والغريمتين إيران والسعودية – في "رباعية إسلامية" لمواجهة الحرب الأهلية في سوريا اختفت بغير رجعة الصيف الماضي. وقد قام الرئيس مرسي بزيارة ودية للغاية إلى أنقرة في أيلول/سبتمبر، لذا يبدو أن مصر وتركيا ستصبحان حتماً أكثر قرباً، وربما شريكين اقتصاديين، أكثر مما كان عليه الوضع قبل الثورة. غير أن هذا بعيد كل البعد عن التنبؤ بأن التطور السياسي أو الاقتصادي الداخلي في مصر سيكون على غرار النموذج التركي.  
وإذا كانت احتمالات تحقيق الديمقراطية الإسلامية والازدهار على غرار نموذج تركيا تبدو قاتمة إلى حد ما في مصر، إلا أن هناك احتمالات كبيرة بأن تواصل مصر سياسة خارجية معتدلة بصفة أساسية. فأمنها القومي واحتياجاتها الاقتصادية تدفعانها في ذلك الاتجاه، وهو الأمر حول عدم ارتياحها من إيران. إن مصر الآن منقسمة بين دعم «حماس» في غزة أو التشبث ببقايا "السلام البارد" مع إسرائيل. وإذا كان الماضي القريب هو أي دليل فإن مصر ربما ستختار النهج الأخير على مضض. ومن المفارقات أنه يمكننا أن نتوقع على الأرجح أن لا تتصرف مصر بنفس المستوى من الديمقراطية على الساحة الداخلية، بل أكثر تعاوناً مع الخارج، على عكس ما تشير إليه الانطباعات الأكثر سطحية عن النظام الجديد.
فهل يشير هذا إلى نموذج مختلف لحكومة عربية إسلامية غير ديمقراطية، لكنها متعاونة بشكل عام مع الولايات المتحدة ومعادية لإيران ولا تمثل تهديداً فعلياً على إسرائيل؟ ولكي نحصل على مثال مطابق لذلك بشكل مذهل من الواقع، ويجسد بشكل أكبر مستقبل مصر، ربما لا ينبغي علينا التطلع إلى تركيا وإنما إلى المملكة العربية السعودية. فلو كانت مصر تمتلك نفط السعودية أو التجربة الديمقراطية التركية والطبقة الوسطى الكبيرة الماهرة، لرجحت كفة أي من هذين النموذجين.       

معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى