مستقبل العرب فى إقليم مضطرب

أعرف أن نية نبيل العربي كانت قد استقرت منذ وقت غير قصير على الاعتذار عن الاستمرار لفترة ثانية في موقعه كأمين عام للجامعة العربية وأنه فاتح بعض المسؤولين العرب في الأمر. أعرف أيضًا أنه فكر مرات عديدة في أن يتقدم بطلب إعفائه من المنصب. منعه عن فعل ذلك ما يمنع الكثيرين في مثل ظروفه الشخصية، وظروف العمل الذي التزم أداءه، وآماله التي عقدها على تطوير ميثاق الجامعة. كنت أحد من توقعوا أنه عندما تحين الساعة، ساعة التجديد للأمين العام القائم أو الترشيح للقادم، فلن يكون في معظم عواصم العرب من يهتم حقيقة بالموضوع. لم أكن أتنبأ، كنت فقط أراقب وأستمع وأسجل تفاصيل السلوك العربي على جميع مستوياته منذ أن وقع الزلزال، وأقصد ثورات ما عرف بـ «الربيع العربي».

لم يكن خافياً، ولا هو خاف الآن، أن جهودا هائلة انصبت على هدف وأد الثورات وهي في المهد انتفاضات، وملاحقتها أو مطاردتها بكل العنف الممكن وبكل الثروة المتاحة حتى لا تنضج وتثمر ثم تنتشر. لم يكن خافياً أيضاً ولا هو خاف الآن أن «الأرض العربية» كما عرفناها قبل حلول «الربيع العربي» تغيرت. لا خلاف على أنها تشققت تحت أقدام القيادات الحاكمة، وأن «شيئا» ما جديدا أو «أشياءً» تنبت من داخل الشقوق.

كنا قد توقفنا منذ زمن عن التفكير في صلاح أو فساد نظام إقليمي أطلقنا عليه ببعض التجاوز وكثير من الطموح تعبير «النظام الإقليمي العربي». عشنا الفترة السابقة على نشوب ثورات «الربيع» شهوداً على تجربة نظام إقليمي يتفسخ بإرادة طبقته الحاكمة وتحت وقع حملات مكثفة من داخل الإقليم ومن خارجه، تبشر أو تنذر بقرب قيام نظام بديل، وصفوه تارة بالإسلامي وتارة أخرى بالشرق أوسطي وتارة ثالثة بالنظام الفسيفسائي وتارة بتجمع الكونفدراليات أو الفدراليات العربية، وفجأة بدأنا نسمع بالنظام الإقليمي «السني».

سمعنا عن تهيؤات واجتهادات عديدة لا رابط بين أكثرها. الشيء اللافت هو ما لم نسمعه. لم نسمع خلال سنوات تشقق الأرض تحت أقدام الطبقات الحاكمة عن فكرة أو اجتهاد يطرح مشروعا لنظام عربي جديد، أو يعرض نسخة منقحة للنظام العربي القائم، أو حتى تهيؤات عن نظام مركب من «نظم إقليمية عربية» فرعية. لم نسمع والمؤكد أنها لم تطرح والأسباب عديدة ومعروفة. أحد هذه الأسباب وأهمها من وجهة نظري شخصياً، كان ولا يزال خلو الساحة الأكاديمية والسياسية العربية من «تكامليين» عرب بعدما نجحت الطبقة الحاكمة والبيروقراطية العربية في كل عاصمة ومؤسسة عربية خلال السنوات العشرين وربما الثلاثين الماضية، في اجتثاث جذور التكامل العربي.

الحديث عن ضعف الأمل في صحوة قريبة لجامعة الدول العربية، هو حديث عن ضعف الأمل في صحوة قريبة للنظام الإقليمي العربي بأسره، صحوة في الفكر المؤسسي له، وفي صلاحية مؤسساته جميعا وليس فقط في صلاحية الجامعة العربية. أعجز أحيانا عن فهم الدعوة إلى القبول بالأمر الواقع والبناء فوقه. وفي محاولات متواصلة للفهم عرضت مع آخرين فكرة استدعاء أكبر عدد ممكن من البيروقراطيين العرب، ومطالبتهم بصياغة التكليف الذي يمكن أن يصدر عن القمة العربية القادمة للأمين العام الجديد متضمنا قائمة بترتيب جديد للقضايا التي يجب عليه أن يهتم بها قبل غيرها. تصورت أننا من خلال ردود هؤلاء البيروقراطيين والمفكرين وبخاصة النافذين منهم في دوائر صنع السياسة في بلادهم، قد يكون ممكنا لنا أن نتعرف على بعض ملامح مستقبل النظام الإقليمي الذي يتمنون ويسعون اليه. في ظني، وأرجو أن يخيب هذا الظن، أنه لن يكون بين بنود التكليف بند يتعلق بإنشاء قوة «عربية» موحدة لحماية أمن الإقليم. لن تكون العروبة صفة مشروطة لقوات الأمن «الإقليمي». بمعنى آخر، لن يكون من حق الأمين العام قيادة هذه القوة أو أن تعمل تحت إشراف أجهزة جامعة الدول العربية.

في ظني أيضا، وأرجو أن يخيب هذا الظن أيضا، أنه لن يكون بين بنود التكليف بند ينص على ضرورة تعديل ميثاق الجامعة العربية بما يسمح بدرجة أعلى وأقوى من الإندماج في نواحي العمل العربي المشترك، مثل انتقال رؤوس الأموال والعمالة وإقامة المشروعات المشتركة. لن يكون هناك في التكليف شرط التزام الأمين العام أو الجامعة العربية بصيانة حقوق الانسان العربي والدفاع عنها والتدخل فعليا لكشف الظلم والقمع باعتبارهما مسؤولين مباشرة عن سلامة الاستقرار والأمن الإقليمي.

ما زال هناك في عالمنا العربي من يحلم بأن الفرصة لم تختف تماما. هناك من يعتقد أن الخلل تفاقم بحيث أصبح واجبا على القمة العربية القادمة تكليف الأمين العام ودعوة كبار رجال ونساء القانون الدولي إعادة النظر في قاعدة التصويت في مجلس الجامعة بكل مستوياته حتى القمة، بحيث تصدر القرارات متناسبة مع التفاوت في أحجام الدول الأعضاء وثرواتها. لدينا في عالم اليوم ما يجعلنا أكثر وعيا بالمشكلات والأزمات التي يمكن أن يتسبب فيها اختلال التوازن أو حتى الإحساس به في العلاقات بين الحكومات وكذلك بين الشعوب. نظرة واحدة إلى الأخطار التي صارت تهدد مشروع الوحدة الأوروبية تكفي، في ما أظن، لإقناع القمة العربية القادمة بأهمية البحث عن صيغة تصحيح للاختلال القائم حاليا في قواعد التصويت في الجامعة العربية.

أظن، وأرجو مرة أخرى أن يخيب ظني، أن الأمين العام القادم لن يجد من يكلفه بالعمل الجاد لإعادة قضية فلسطين إلى موقعها بين أولويات النظام الإقليمي العربي، وبالتحديد بين أسبقيات العمل العربي المشترك. سوف تحاول معظم الأنظمة العربية الحاكمة ما أمكنها إبقاء فلسطين بماضيها وواقعها ومستقبلها بعيدة عن مواقع اتخاذ القرار في الجامعة العربية وبعيدة جدا عن أسماع الرأي العام العربي، ولتبقى محصورة ومحاصرة داخل قصور الحكم في كل عاصمة عربية. والمستفيد الأكبر من هذا الاختيار هو إسرائيل وأصحاب الدعوة إلى تصفية النظام الإقليمي العربي فكرة وعملا وأملا.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى