مسرح الصراع على السلطة في إيران

برغم الصخب الإعلامي الذي يُحيط بإيران، ضدها ومعها، فما زالت الصور النمطية عنها متغلّبة على التحليلات السياسية حولها، بحيث يُغيّب الأساسي ويُستحضر الهامشي، فتتثبت في الأذهان انطباعات غير مطابقة للواقع. شهدت إيران منذ مطلع العام انتخابات البرلمان و «مجلس الخبراء» الذي يُسمّي المرشد ويعزله، لكن من دون حدوث تغييرات بنيوية يُعتد بها في تغيير موازين القوى الداخلي، برغم رواج سرديات مفادها أن هذه الانتخابات «تمثل فوزاً للإصلاحيين والمعتدلين في مواجهة الأصوليين». يمكن تشبيه مسرح الصراع على السلطة في إيران بمسرح رمزي تتعارك على خشبته أطراف عالية الصخب، وتعرف قدراً كبيراً من الاستقطاب في مواجهة بعضها بعضاً، في حين يبقى المتصارعون الأساسيون على المسرح الفعلي (المرشد و «مؤسسة الحرس الثوري» في مقابل الشيخ رفسنجاني والرئيس روحاني) خلف الستار.

المسرح الرمزي للصراع

يتعارك على خشبة المسرح الإيراني الأصوليون والإصلاحيون، وهناك كثر في «الكمبوشة» – كما نقول في مصر – لوصف المكان الذي يتموضع فيه المُلقِن الذي يلقن الممثلين الحوار على خشبة المسرح، ويكون ظاهراً كقبة واطئة على الخشبة. وكان فوز «لائحة الإصلاحيين والمعتدلين» في طهران أثناء انتخابات البرلمان وسقوط رموز متشددة مثل غلام علي حداد عادل، بالإضافة إلى سقوط اليزيديين في انتخابات مجلس الخبراء، أوج مشاهد المسرح الرمزي الإيراني. وإذ تملك طهران 30 مقعداً في مجلس الشورى من أصل 290 مقعداً، لم تضمن الفوز في طهران بالضرورة غالبية عددية في البرلمان، وبالتالي في موازين القوى الداخلية. ولعل الفوز اللاحق لكل من علي لاريجاني برئاسة البرلمان وآية الله أحمد جنتي برئاسة مجلس الخبراء، دليل كافٍ على أن شيئاً كثيراً لم يتغير في موازين القوى الداخلية.

لا يمثل الأصوليون أو الإصلاحيون قوة محورية راهناً في السياسة الإيرانية، وصراعهما على خشبة المسرح الرمزي قد يؤمن اهتمام الجمهور، لكنه لا يعكس الصراع الحقيقي الذي يدور في كواليس المسرح غير المرئية بين «مؤسسة الحرس الثوري» التي تؤيد الأصوليين في المسرحية، والشيخ رفسنجاني «عراب» الإصلاحيين والمعتدلين. على ذلك كانت هزيمة الرموز الأصولية في الانتخابات هزيمة معنوية لا تمتد إلى «مؤسسة الحرس الثوري»، باعتبارها قوة عسكرية – اقتصادية – سياسية. هناك تقاطع مصالح بين هذه الرموز الأصولية والحرس، مثلما هناك تقاطع مصالح بين رفسنجاني وروحاني والإصلاحيين والمعتدلين، ولكن «مؤسسة الحرس» لا تحبّذ رجال الدين بالضرورة لأن عسكرة الدولة تبقى عندها أحب من سيطرة هؤلاء عليها. لم تعد قُمّ ومؤسسة رجال الدين بالأهمية ذاتها التي كانتا عليها في بدايات الثورة، وانزياح نفوذ رجال الدين لأسباب كثيرة عن بؤرة الصراع الفعلي في إيران كان لمصلحة «مؤسسة الحرس الثوري». وبالمثل فقد كان فوز بعض الرموز الإصلاحية جزئياً فوزاً معنوياً لا يقلب التوازنات، ولا يسوّغ بأي حال سردية فوز الإصلاحيين بالانتخابات الرائجة. باختصار غير مخلٍّ، يمثل الأصوليون والإصلاحيون مادة ساخنة للتجاذب السياسي على المسرح الرمزي؛ ولكنهم لا يقاربون بأي حال قوة طرفي المعركة الفعلية.

ثنائية خامنئي ورفسنجاني

طبعت هذه الثنائية «جمهورية إيران الإسلامية» بطابعها، مثلما لم تفعل أي ثنائية أخرى. ومنذ وفاة الإمام المؤسس الخميني العام 1989، تقاسمت الثنائية النفوذ في الدولة ومؤسساتها عبر جدلية معقدة من التعاون والصراع. قبل شهرين فقط التقى السيد الخامنئي مع مجموعة من أعضاء «مجلس الخبراء» المتكوّن من ثمانية وثمانين فقيهاً والمناط بهم انتخاب المرشد ومراقبة أعماله، متحدثاً معهم عن خلافته. خاطب خامنئي، البالغ من العمر سبعة وسبعين عاماً، الحاضرين قائلاً: «لن أكون حاضراً إلى الأبد وعليكم انتخاب مرشد ثوري عندما يحين الوقت». وكان رفسنجاني، البالغ من العمر واحداً وثمانين عاماً، حاضراً إلى جوار المرشد، وكان معلوماً للكافة أن تحذير المرشد من انتخاب مرشد غير ثوري موجّه بشكل مبطِّن ضد رفسنجاني.

تحوّل الشيخ رفسنجاني إلى «عراب» المعتدلين بمرور الوقت، حتى يمكن – بكثير من الاطمئنان – حسبان رئيس الجمهورية حسن روحاني ضمن دائرة المقربين منه. في المقابل، نجح المرشد بمرور السنوات في الإمساك بخيوط التوازنات ومؤسسات القوة في الدولة الإيرانية، بحيث همّش إلى حد كبير نسبياً من حضور رفسنجاني. لم تمنع هذه الحقيقة رفسنجاني من مواصلة السعي للحفاظ على مكان في مقاعد السلطة العليا، بتكتيكات مختلفة وخيال سلطوي متجدّد. احتفظ الرجلان بعلاقات مختلطة بين التعاون والصراع، وكان كلاهما قريباً للغاية من الإمام المؤسس الخميني، وإن اعتقد كثر أن رفسنجاني امتلك القدرة على الهمس في أذن الإمام الراحل بكل الأوقات.

في الأعوام الأولى للثورة أزاحا سوياً الراحل مهدي بازركان من رئاسة الوزراء، معبّدين الطريق أمام التيار الديني للإمساك بمؤسسات الدولة الإيرانية كاملة. ثم لعب الاثنان الدور الأكبر في مناقشات البرلمان المؤدية للإطاحة بأول رئيس جمهورية منتخب في تاريخ إيران: الحسن بني صدر. وحين طرحت الثقة ببني صدر فقد حصدا أغلبية ساحقة لعزله، ما أدّى إلى هروبه من البلاد. كلاهما افتقر وقتذاك إلى امتلاك المرجعية الدينية العليا، وكان وجود الإمام الخميني بشخصيته النافذة ومساحاته التي حرص من خلالها على موازنة الفرقاء دوراً في تحجيم الخلاف والطموحات لدى الرجلين.

على أي حال، أفلح رفسنجاني في توسيع صلاحياته ونفوذه في السنوات الأخيرة من حياة المؤسس، فبوصفه رئيساً للبرلمان تمتع بنفوذ قوي مكّنه من تحجيم صلاحيات رئيس الجمهورية ـ السيد خامنئي وقتها ـ بالاستفادة من الدستور الإيراني السابق. وقتها كان منصب رئيس الوزراء – الذي ألغي لاحقاً ـ سيفاً مسلّطاً على رئيس الجمهورية، وكان مير حسين موسوي رئيس الوزراء وقتذاك مخالفاً لسياسات خامنئي وقريباً من رفسنجاني. ولكن بعد وفاة الخميني العام 1989، لعب رفسنجاني دور قائد الأوركسترا في تنصيب خامنئي لخلافة الخميني في تطور دراماتيكي للعلاقة بين الرجلين. في جلسة «مجلس الخبراء» لتعيين المرشد الجديد، قال رفسنجاني للأعضاء إن الإمام الراحل قال له في حوار لم يحضره غيرهما: «لديكم مَن يُشغل المنصب: السيد خامنئي». بعدها انتقل رفسنجاني الى القصر الجمهوري، لكن بعد توسيع صلاحيات الرئيس وإلغاء منصب رئيس الوزراء وفقاً لتعديل الدستور العام 1989.

تمتّع الرئيس رفسنجاني بنفوذ قوي وساهم في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية نحو التهدئة مع الجيران والغرب؛ وأطلق مرحلة «إعادة الإعمار» التي تضمنت الليبرالية الاقتصادية – التي يفضّلها أيضاً الرئيس روحاني. ومرّت الثماني سنوات لرئاسة محمد خاتمي 1997-2005 وأراد رفسنجاني بعدها أن يعود إلى الصفوف الأولى، فأعلن عن ترشحه للرئاسة. من ناحيته، لم يقنع السيد خامنئي بدور المرشد الشكلي، وجاء العام 2005 ليأتي بأحمدي نجاد رئيساً للجمهورية متغلّباً على منافسه رفسنجاني، والعام 2009 متغلباً على مير حسين موسوي مرشح رفسنجاني المفضل، ليتراجع رفسنجاني إلى الوراء من دون أن يتوارى بالكامل. ومع انتخاب روحاني العام 2013 اللازم لإتمام الاتفاق النووي مع الغرب، عاد رفسنجاني مرة أخرى إلى المسرح الفعلي، في حلة قشيبة وجديدة، باعتباره «عراب» المعتدلين والإصلاحيين وصاحب الرؤى الليبرالية الاقتصادية والمؤيد للانفتاح على الغرب.

المسرح الفعلي

لا يمكن القول إن الصراع الحالي على السلطة في إيران يمكن اختصاره في الصراع بين خامنئي ورفسنجاني بشكل حصري، لكنه في أحد الوجوه كذلك إلى حد كبير. تتصارع رؤى سياسية واجتماعية على مستقبل إيران، وتنخرط مؤسسات إيرانية بمصالح متشابكة ومتناقضة في المعركة على توجيه المستقبل. وتنعقد تحالفات بين المرشد و «مؤسسة الحرس» في مواجهة تحالف رفسنجاني وروحاني، من دون أن يعني ذلك تطابقاً في الرؤى والأهداف بين أطراف التحالف، فلا المرشد سيقبل بهيمنة كاملة للحرس، ولا رفسنجاني سيتحالف إلى الأبد مع روحاني.

لم تعد إيران كما كانت قبل إبرام الاتفاق النووي، الذي لم ينهِ ملفها النووي فحسب، وإنما فتح الأبواب أمام فرص وتحديات من نوع جديد اقتصادية وسياسية واجتماعية. يتحين كل طرف من أطراف الصراع الفعلي فرصته للاستفادة من الفرص التي يتيحها الاتفاق وإزاحة الأخطار الناجمة عنه. حتى ذلك الحين تستمر المعركتان في الدوران: واحدة صاخبة على المسرح الرمزي بين الأصوليين والإصلاحيين، وهي معركة لا تعني الشيء الكثير فعلياً، وتساهم فقط في إعادة إنتاج صور إيران النمطية. وثانية وراء الكواليس، حيث تدور المعركة الأهم والأقل ضجيجاً بين المرشد و «مؤسسة الحرس» والرؤى والمؤسسات التي يمثلانها، في مواجهة رفسنجاني وروحاني والرؤى والمصالح الاقتصادية الكبرى التي ينبريان للوكالة عنها.

صحيفة السفيراللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى