مصر وروسيا والبديل الاستراتيجي (محمد أبو الفضل)

 

 محمد أبو الفضل

المشاعر الفياضة التي يبديها الشارع المصري تجاه توطيد العلاقات مع روسيا الآن، تبدو داعمة للتحركات الرسمية للمضي قدما في هذا الطريق، وتمنح القائمين على تمهيده وإزالة مطباته ومنحنياته السياسية اصرارا كبيرا على الوصول لصيغة جيدة من التفاهمات الاستراتيجية، التي تفرضها متطلبات اللحظة الراهنة لدي كل طرف. فالقاهرة، التي دخلت علاقاتها مع الولايات المتحدة (حليفها التقليدي) مرحلة حرجة، تريد أن تؤكد امتلاكها بدائل قوية، حتى لا تصبح رهينة للإرادة الأميركية وما يمكن أن تفرضه عليها من ضغوط لم يعد يقبلها الرأي العام في مصر، بعد التحولات التي حدثت بفعل ثورة الثلاثين من يونيو- حزيران الماضي. وموسكو، لديها تطلعات وطموحات لتوسيع مواطئ أقدامها في الشرق الأوسط، وحماية مصالحها المتنامية في منطقة، مرشح أن تتزايد مفردات التوتر والقلق في ربوعها المختلفة.
الأمنيات والأحلام التي راودت كل طرف خلال الفترة الماضية، بدأت تشق طريقها عمليا، وتتحول التلميحات والاشارات إلى توجهات وتصرفات. فقد شهدت الأسابيع المنصرمة تحركات حثيثة من كلا الدولتين، ظهرت تجلياتها في زيارة رئيس المخابرات الروسية لمصر قبل أيام قليلة، للتمهيد لزيارة نوعية سيقوم بها وزيرا الدفاع والخارجية ومعهما مجموعة من رجال الأعمال وممثلي شركات الأسلحة الروسية للقاهرة يوم 13 نوفمبر- تشرين الثاني الجاري. وسيعقد الوزيران لقاء موسعا مع نظيريهما المصريين، لبحث سبل تطوير العلاقات المشتركة على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وقد أطلق على هذا اللقاء وصف 2+2، والذي من المتوقع أن يكون بداية لمشهد جديد في العلاقات الإقليمية، بحكم الدور المتصاعد الذي تقوم به روسيا في أزمات الشرق الأوسط، والوزن أو الثقل النسبي الذي تمثله مصر في المنطقة. وهو ما يتزامن مع حالة من التخبط والارتباك والخلل تعاني منها الولايات المتحدة.
الحقيقة أن التصورات والسياسات الأميركية لعبت دورا مهما في التقارب المصري- الروسي من زوايا مختلفة. فواشنطن ضغطت على المؤسسة العسكرية لمنح جماعة الإخوان فرصة للاستمرار في الحكم، بصرف النظر عن أخطائهم الكارثية التي أضرت بالأمن القومي المصري. ورفضت الاعتراف مبكرا بأن ما حدث في الثلاثين من يونيو- حزيران ثورة شعبية بامتياز. وهي أيضا حاولت افساح المجال للمصالحة السياسية والضغط لاستيعاب الإخوان ضمن خارطة الطريق. وعندما فشلت واشنطن في توفير الغطاء الدبلوماسي اللازم للجماعة في هذه المرحلة، بالغت في ممارسة ضغوطها على السلطات الرسمية ولوحت بورقة وقف المساعدات العسكرية، عقب تجميدها مؤقتا. هنا أخذت تتكشف النوايا الأميركية الرامية لتضييق الخناق حول القاهرة واجبارها على الرضوخ لمطالبها، وبدا الصدام مفتوحا على احتمالات متعددة، أسوأها أن تصر مصر على الحفاظ على استقلالية قرارها وتخفف من الاعتماد على الولايات المتحدة وتتحلل من قيودها المتراكمة.
في الأفق لاحت لدى نخب سياسية وإعلامية في مصر ورقة روسيا، وضغط هؤلاء من أجل احداث تحول استراتيجي، وعودة التوجه إلى الشرق مرة أخرى. ولقيت هذه الأمنية هوى عند صناع القرار، مستندة إلى جملة من الشواهد. أبرزها، دعم موسكو لثورة الثلاثين من يونيو- حزيران، وظهور حب جارف في الشارع المصري للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وصل إلى درجة رفع صوره في ميدان التحرير بقلب القاهرة، في الوقت الذي حظي الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتهكم والسخرية وضربت صوره بالأحذية. ولأن تصرفات بعض الجهات الأميركية بلغت أحيانا حد الوقاحة قامت دوائر رسمية وشعبية مصرية باستثمار هذه الأجواء والاقتراب بضعة خطوات من موسكو، والتأكيد على ضرورة تنويع مصادر السلاح وعدم الارتهان للإرادة الأميركية. وبالتالي ضرب مجموعة من العصافير السياسية بحجر واحد، أي احراج واشنطن ومبادلتها الضغوط بأخرى موازية تضطرها للتخلي عن تهديداتها للقاهرة، وتدعيم استقلالية القرار الوطني، والانفتاح على دوائر جديدة. وتعزز هذا التوجه بوجود استعداد خليجي، من جانب السعودية والامارات والكويت تحديدا، لدعم التقارب المصري- الروسي.
على هذا الأساس بدأت تتضح أكثر لعبة توازنات اقليمية متشعبة، خاصة أن بعض سياسات الولايات المتحدة في المنطقة طرأت عليها تغيرات لافتة. فواشنطن استبدلت موقفها الصارم من نظام الأسد في سوريا بموقف بدا لكثيرين أقل صرامة، بل مال إلى حد الليونة السياسية والعسكرية. أضف إلى ذلك انفتاحها على ايران. وهو ما وفر اشارات متضاربة، تسببت في قلق بعض الحلفاء في الخليج العربي، لأن الليونة والانفتاح سوف ينعكسان في النتيجة النهائية على مصالحهم. وكان من الضروري مساندة مصر واخراجها من كبوتها السياسية، ومحاولة استثمارها لضبط بعض التوازنات المعرضة لمزيد من الاختلال. وقد فهمت القاهرة كل هذه الاشارات، بصورة منحتها دفعة قوية للصمود في وجه الابتزاز الأميركي، وتحمل تكاليف الضغوط التي ظهرت نظريا ثم عمليا في الخطاب الأميركي. فإما أن يعود إلى صوابه ويعدل الدفة ويتعامل مع مصر كحليف استراتيجي كامل، أو يتمادى في سلوكه، فتجد القاهرة مبررا للاحجام عن واشنطن والاقدام على موسكو وبخطوات متسارعة، كبديل استراتيجي مهم.
بالطبع لم تكن التقديرات والتكهنات السابقة خافية على قيادات الكرملين في موسكو، حيث لديهم حسابات معقدة، وربما أشد تعقيدا من الحسابات المصرية. فروسيا – بوتين تبحث دوما عن مصالحها، ونجحت خلال سنوات قليلة في الدفاع عنها، وتحقيق مكاسب اضافية. وبدا دورها ونفوذها جليا في الأزمة السورية، وتمسك بجزء معتبر من تلابيب الأزمة الغربية مع طهران، وتراقب التحولات البطيئة في المشهد الإقليمي، وأصبحت على يقين أن تململ القيادة الجديدة في مصر من إدارة أوباما لم يعد خافيا على البعض، وبالفعل هناك نية لدى القاهرة لعدم الرضوخ لواشنطن، مصحوبة برغبة في توطيد العلاقات مع موسكو. وعندما التقت مصالح الطرفين عند نقطة وسط، جرت في النهر مياه كثيرة، ستبدأ مع لقاء 2+ 2، وقد لا تنتهي بزيارة متوقعة للرئيس فلاديمير بوتين للقاهرة خلال الأسابيع المقبلة.
المهم أن التحولات الاستراتيجية الكبرى لا تمر بسهولة، ولا يقدم أصحابها عليها ما لم تكن هناك مبررات كافية لحدوثها. لذلك وصلت الرسالة المصرية بسرعة لأرجاء البيت الأبيض، وقام جون كيري وزير الخارجية بزيارة خاطفة ومفاجئة للقاهرة الأسبوع الماضي، فهم منها أن الولايات المتحدة على استعداد لعودة الأمور لمجاريها مع مصر، لكن كانت خطوات الأخيرة قطعت شوطا نحو موسكو لم يعد مقبولا خسارته. بالتالي فالسؤال المحوري، هل تكون موسكو بديلا عن واشنطن؟ وهل تتحول القاهرة إلى بديل عن دمشق بالنسبة لروسيا؟
مع أن الإجابة سوف نجدها عندما يتبين تماما ماذا يريد كل طرف من الآخر، إلا أن انطلاق قطار العلاقات من محطته يقول أن هناك شيئا كبيرا يلوح في الأفق بين البلدين، ولقاءات 2+2 بالقاهرة لن تتوقف عند حدود توقيع عدد من صفقات السلاح فقط.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى