مصر وروسيا وسوريا و«حلف بغداد الجديد»

انتهت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى موسكو قبل أيام قليلة، لكن مفاعيلها لم تنته بعد. يُعدّ اللقاء الأخير بين الرئيسين السيسي وبوتين هو الرابع خلال فترة سنتين، الأمر الذي يعكس رغبة متبادلة مصرية – روسية في زيادة وتائر التعاون بين البلدين. تناقش الجانبان المصري والروسي في إجراءات غير مسبوقة للتعاون مثل إنشاء محطة للطاقة النووية في مصر بتقنيات روسية، وإقامة منطقة صناعية روسية في منطقة القناة، وتصدير طائرات «سوبر جيت» روسية إلى مصر، وبالطبع التنسيق المشترك في الأزمة السورية على قاعدة «جنيف – 1». في الزيارة الأولى للسيسي إلى موسكو العام 2013، كان الهدف الحصول على دعم دولي واسع للإطاحة بجماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة، وتوجيه رسالة إلى أميركا مفادها أن القاهرة بصدد تنويع علاقاتها الدولية. وبالطبع، بحث الجانبان وقتها شراء مصر لسلاح روسي بقيمة ثلاثة مليارات دولار، تدفعها السعودية للتأثير بشكل غير مباشر في حسابات روسيا عبر صفقة السلاح المصرية ولتوجيه رسالة سعودية إلى واشنطن مفادها الامتعاض من التقارب الأميركي ـ الإيراني.

في زيارة السيسي الأخيرة لموسكو، كان لافتاً وجود ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد والعاهل الأردني عبد الله بن الحسين في موسكو أثناء الزيارة، ما يعني ثلاثة أمور: أولها أن التغيّر الذي جرى على رأس السلطة في السعودية أثّر على تكتيكات الرياض حيال كل من موسكو والقاهرة، وثانيها أن التحالف المصري ـ الإماراتي يتقدم في الأهمية والأولوية على العلاقات المصرية ـ السعودية، وثالثها أن تجمّع الدول الثلاث مصر والإمارات والأردن في روسيا يهدف إلى بحث الأزمة السورية، وأن رؤيتي القاهرة والرياض للأزمة السورية وطرائق حلها تفترقان افتراقاً واضحاً. لذلك، لم تكن مصادفة أن تتقدم السعودية، الممتعضة من المواقف المصرية بشأن الأزمة السورية، بطلب مفاجئ إلى الجامعة العربية بإلغاء لقاء وزراء دفاع وخارجية الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية لإقرار «القوة العربية المشتركة»، والذي كان من المقرر عقده في 27 آب الحالي في أثناء زيارة السيسي لموسكو. ومن المعلوم أن القاهرة تعوّل على إنشاء «القوة العربية المشتركة» كوسيلة لمكافحة الإرهاب في المنطقة ورافعة لأدوارها الإقليمية المرتقبة.

القاهرة وموسكو: كوابح الأدوار

تتقاطع مصالح البلدين في عنصرين أساسين: الأول أنهما يواجهان عدواً مشتركاً في ما يخص قضايا الإرهاب والتطرف سواء في الشرق الأوسط أو الشيشان، والثاني أنهما يلعبان أدواراً إقليمية في الشرق الأوسط بدرجة أقل مما يستحقان تاريخياً، ومما يتطلع إليه شعباهما. ومع التسليم بأهمية العنصرين المذكورين أعلاه، تبدو ثلاثة عناصر سلبية أخرى تجمع بين البلدين، أولها أنهما لا يملكان حدوداً جغرافية مباشرة مع دول المشرق العربي على العكس من تركيا وإيران مثلاً، وثانيها أنهما يعانيان من ضائقة اقتصادية نسبية تكبح قدرتهما على منافسة لاعبين آخرين، وثالثها أن غيابهما عن الحضور الفعال في المنطقة خلال العقود الأخيرة فتح منطقة الشرق الأوسط أمام لاعبين إقليميين ودوليين يمتلكون إمكانات اقتصادية ومالية واسعة، ويطمحون إلى تعبئة الفراغ الذي تركته القاهرة وموسكو خلفهما. تشكل العناصر الخمسة ـ الإيجابية والسلبية على حد سواء ـ الأساس الموضوعي الذي يحكم العلاقات بين مصر وروسيا، في منطقة المشرق العربي التي شهدت نفوذاً تاريخياً لهما في السابق لا يضاهي بأي حال نفوذهما الراهن.

أهداف روسيا في سوريا

لا تريد روسيا مقارعة واشنطن في الشرق الأوسط كساحة حروب بالوكالة، لكنها تريد استعادة وبناء سمعتها الدولية ومقاسمة واشنطن نفوذها في المنطقة. لذلك تفتح الأزمة السورية الممتدّة لسنوات نوافذ الفرص والأخطار أمام روسيا في آن واحد. فمن ناحية تضمن المبادرات الروسية بشأن سوريا تحسين صورة موسكو الدولية وتقديم نفسها كوسيط دولي مميّز وشريك لواشنطن في الشرق الأوسط بتكاليف سياسية زهيدة. ومن ناحية أخرى، لا تبدو موسكو قادرة على التأثير في ملفات المنطقة الأخرى بتأثيرها ذاته في سوريا، ولذلك فمن شأن هزيمة النظام السوري عسكرياً أن تطيّر هذه الورقة المهمة من يد موسكو. وبعد جلستين للحوار في جنيف عامي 2012 و2014، استضافت روسيا جلستين للحوار التشاوري السوري في كانون الثاني ونيسان من العام الجاري 2015، حضرتها بعض فصائل المعارضة والنظام السوري مع غياب «الائتلاف الوطني الموحّد» بسبب عدم اشتراط الجلسات رحيل بشار الأسد عن السلطة، في انحياز روسي واضح لأحد طرفي الصراع. ومع ما تداولته وسائل الإعلام مؤخراً من إمداد عسكري روسي إضافي للقوات الموالية للنظام السوري، يتوقع أن يستمر الموقف على الأرض في سوريا على حاله المتعادل نسبياً حتى نهاية العام على الأقل، وبالتالي ترى موسكو في الأزمة السورية باباً لاجتراح المبادرات والبقاء على خشبة المسرح الدولي طيلة هذه الفترة. ومع ذلك، تفتقر روسيا إلى الغطاء المعنوي المطلوب كراعية للحلّ في سوريا لسببين: أولاً موسكو ليست دولة عربية ولا تملك الأطر المؤسسية لإنفاذ إرادتها في المنطقة (الجامعة العربية مثلاً). وثانياً روسيا منحازة بوضوح للنظام السوري وغير مقبولة من غالبية فصائل المعارضة.

أهداف مصر في سوريا

لا تملك مصر أي مصلحة في تقسيم سوريا، ويُعَدّ بقاء سوريا موحّدة أولوية ثابتة من أولويات وثوابت الأمن القومي المصري، على العكس من الدول الإقليمية المنخرطة في الصراع السوري الآن. لا يناسب مصر بأي حال تفتيت الجغرافيا السورية، لأن سوريا هي مطلّ مصر على المشرق العربي تاريخياً، وتفاقم ذلك الأمر بعد قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي العام 1948، بسبب انقطاع الخط البري بين القاهرة ودمشق. ومن شأن تقسيم سوريا ـ لا قدّر الله ـ أن تفقد مصر المرتكز الجغرافي لأدوارها المحتملة في المشرق العربي، فيكون مثل ذلك التقسيم بمثابة كارثة على مصر. تصلح هذه الحقيقة أساساً موضوعياً لوساطة مصرية بلا غرض تقسيمي، على العكس من اللاعبين المنخرطين في الصراع عليها الآن. ففي حين شكلت تركيا مؤخراً «منطقة عازلة» في شمال سوريا ولها مطامع تاريخية معلنة في حلب وشمال البلاد، لا تمانع السعودية في إعادة رسم خرائط المشرق العربي بحيث تمنع طهران من الوصول برياً إلى بيروت. وإذا لاحظنا المقالات السعودية المتعلقة بضم أجزاء واسعة من سوريا والعراق إلى العرش الهاشمي الأردني خلال الفترة الأخيرة، لرأينا بوضوح هذه الرغبة. أما إيران التي تدعم النظام السوري فيهمّها بالأساس الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وتعبيد الطريق البري من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان، وما رواج مقولات مثل «سوريا المفيدة» للإشارة إلى القبول بسيطرة على الساحل السوري نزولاً إلى دمشق إلا الدليل الواضح على ذلك. ومن مفارقات الأقدار أن الدول المنخرطة في «حلف بغداد» في الخمسينيات من القرن الماضي (تركيا وإيران والسعودية)، هي ذاتها الدول المنخرطة الآن في الصراع على سوريا لكن مع تغيّر الأدوار. ومثلما واجهت مصر «حلف بغداد القديم» في الخمسينيات من القرن الماضي وأسقطته فاتحة الطريق أمام أدوارها الإقليمية بالمشرق العربي، يعد «حلف بغداد الجديد»، بصراعات دوله وتناقضات مصالحها، خصماً شرساً لحلول متوازنة في سوريا تضمن وحدة أراضيها. وهنا تقتضي الموضوعية ملاحظة أنه برغم الأفضلية الأخلاقية التي تملكها مصر في الأزمة السورية مقارنة مع اللاعبين الإقليميين، إلا أن قدرتها على التأثير في أطراف الصراع السوري محدودة مالياً ولوجستياً، وبالتالي فقدرتها على اجتراح مبادرات مستقلة محدودة أيضاً.

الخلاصة

ينفتح الباب نظرياً أمام تنسيق مصري ـ روسي بشأن الأزمة في سوريا، يؤمن نظرياً مساندة متبادلة: مصر بالغطاء العربي والمقبولية النسبية لدى أطراف الصراع السوري، وروسيا بالنفوذ الدولي وبعلاقاتها المتميّزة مع النظام في دمشق. بالمقابل، تكبح اعتبارات موضوعية أتينا عليها ذلك التنسيق المصري ـ الروسي. تتلمس القاهرة طريقها للعودة إلى توازنات المنطقة ولكنها تصطدم بمروحة من التناقضات؛ فمن ناحية تروم القاهرة تطوير علاقاتها مع موسكو كلاعب دولي مهم، وفي الوقت نفسه عدم التفريط بعلاقاتها مع واشنطن حتى مع تراجع مستواها خلال السنوات الماضية. ومن ناحية أخرى ترغب مصر في الحفاظ على علاقاتها بالسعودية كدولة مهمة ووازنة في المنطقة وكداعم مالي لنظامها، وفي الوقت نفسه تريد هامش مناورة خاصاً بها في القضايا الإقليمية ـ ومنها الأزمة السورية ـ لا يتقيّد برغبات السعودية حصرياً.

برغم كل الصعوبات الموضوعية والكوابح القائمة، يبقى أمل كل المخلصين معلقاً بحل سياسي لأزمة سوريا يحفظ وحدة أراضيها من ناحية، ويضمن للشعب السوري الشقيق حقّه في حرية وكرامة يدفع ثمنها بدمه مرتين: واحدة في مواجهة نظامه الباطش وثانية في مواجهة دول «حلف بغداد الجديد» متغيّر الأدوار على الأرض السورية!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى