تحليلات سياسية

“ملاحظات حان وقتها”

 د. عزمي بشارة

“ملاحظات حان وقتها” …إذا افترضنا أنَّ الإفقار وقمع الحريات هو ظاهرة مرافقة وجانبية في خدمة هدفٍ سامٍ مثل الدفاع عن الوطن، فإنَّ مثل هذا يمتد لمدد قصيرة مثل زمن الحروب، ولا يبرر أن يكون الإفقار من نصيب الشعب، والإثراء من نصيب الحكام. كما لا يبرّر نظاما ممنهجا وممأسسا لاستباحة كرامة المواطنين وحرياتهم وحقوقهم، ولا تعديهم المستمر على ثمار عمل غالبيّة الشعب، وباختصار إنه لا يبرّر الفساد والاستبداد. وإذا استُخدِمت هدف مشترك مع الشعب لتبرير مثل هذه السياسات فإن الهدف يتحول إلى وسيلة تسمى الديماغوغيا الخطابيّة والأيديولوجية التبريريّة، فيما يكون الهدف الحقيقي هو تثبيت نظام الاستبداد والفساد. ولا يمنع هذا من وجود هدفٍ سامٍ فعلًا وقضيّة عادلة شرعيّة، ولكنّها تستخدم لمنح شرعيّة لنظام غير شرعي. ومن هنا فإن النضال ضد الاستبداد يهدف للتحرر منه أولا، ولكن يجب أن يتجنّب المسَّ بالقضايا الشرعيّة العادلة، بل أن يدافع عنها ضد استخدام النظام لها. ويشمل ذلك رفض الهيمنة الأميركية على المنطقة وتفصيل السياسات العربية تجاه العرب بموجب المصلحة الإسرائيلية، ويشمل ذلك أيضًا عدالة قضية فلسطين وحق بل وواجب المقاومة ضد الاحتلال.
2- لا يوجد شعب في العالم يمكنه أن يفهم أن عليه تحمّل التعذيب والاعتقال التعسفي والفساد المالي وكم الأفواه لجيل بعد جيل من أجل أيّ هدفٍ كان. ولا يمكن لأحد أن يطلب من شعبٍ أن يقبل بالاستبداد والفساد لأجلٍ غير مسمى ومن دون أي أفقٍ للتغيير، فقط لإرضاء مشاعر بعض المعلّقين الذين يعتبرون معاناة الشعب قضيّة جانبيّة قياسًا بالقضايا الكبرى، لا سيّما وأنَّ التجربة أثبتت عدم حصول أي تقدم في القضايا الكبرى ذاتها.
3- لا يمكن الادعاء بتفهم أوضاع شعب وعدالة مطالبه، ثم الطّلب من هذا الشعب أن لا يفعل شيئًا وأن ينتظر أن يقوم الحكام بالإصلاح، لا سيّما حين يرفض الحكام القيام بأي إصلاح جوهري. ليس البشر هواة تعرّض للقصف وللقتل، ولكن لا يمكن أن نطلب من الناس أن يستمروا بالتظاهر سلميًّا والتعرّض للرصاص دون أن يدافعوا عن أنفسهم في الوقت الذي ليس لدى صاحب هذا الطلب أي سلطة لإقناع النظام أن يتوقف عن إطلاق النار والقتل. ومن لا يستطيع أن يُلزم النظام بالتعامل سلميًّا مع المظاهرات السلميّة يجد نفسه يطالب الشعب بتحمل التعرض للقتل أو التوقف عن النضال دون تحقيق أي مطالب.

4- لن يغفر التاريخ للنظام إطلاق النار على المظاهرات السلمية بشكل مثابر ،ومن دون توقّف، أي كتعبير عن سياسة منهجية لوأد الثورة السلمية. لقد كان أكثر ما يخيف النظام المظاهرات السلمية الشعبية الواسعة المطالبة بإسقاطه، وقد اندفع للقضاء عليها بالقوة.
5- لا بدّ لمن يخرج للنضال ويتعرض للقتل والقصف والتهجير وتتعرض أملاكه للنهب، أن يطالب الأقربين والأبعدين بمساعدته ودعمه. ومن الطبيعي أن يقبل الدعم المقدم له. ولا يجوز لمن يتركه في هذه الحالة أن يلومه أيضًا على تلقي الدعم وأن يلقي عليه المحاضرات بشأن هويّة الداعمين في حين لا يستطيع هو أن يقنع النظام الحاكم بأي تحوّلٍ سلميٍّ للديمقراطية أو أي نقل تدريجي سلميٍّ للسلطة.
6- ليس هذا ذنب تطلع الناس للحرية والكرامة، ولا ذنب الشباب الذين حملوا السلاح ضد القمع المسلح والهمجي والذي لا يعرف حدودًا أو خطوطًا حمراء. المسؤولية كلها يتحملهاالنظام وحده. فهو الذي رفض الإصلاح الذي طالب به الشعب في الأشهر الأولى واعتبره مؤامرة، ورفض المبادرات العربيّة المتتالية لنقل تدريجيٍّ للسلطة. والتي بدأت بمبادرة في شهر آب 2011 التي طرحت حكومة وحدة وطنيّة ودستور جديد وانتخابات رئاسية في 2014 ( وهو أمر يبدو خياليا الآن)، ومبادرة أخرى في شهر يناير 2012 تطرح نقل السلطة لنائب الرئيس وحكومة وحدة وطنية ودستور جديد. وفي كليهما لم يتم المس على الإطلاق بالجيش، ولا بعقيدة الجيش القتاليّة أو غيرها.
7- إن واجب القيادة السياسيّة للثّورة الانتباه لطبيعة القوى الداعمة لها وشروطها السياسيّة وأهدافها ومرادها. بحيث تحافظ على هوية البلد وسيادته وقضاياه، بحيث لا يتحول الدعم إلى اختراقات مخابراتيّة أو سياسيّة. هذا هو واجب القيادة الوطنيّة للثّورة،، سواء كانت سياسية أو عسكرية، وواجب القوى المدنيّة المشاركة في المعارضة السياسيّة.
8- ومع ذلك وعلى الرغم مما قيل أعلاه يمكن تفهم الارتباك الذي يقع فيه بعض الإخوة الوطنيين، أو الغصّة التي يستشعرها الإنسان إزاء ما يجري في سورية. وأنا لا أقصد تلك الغصة التي نشعر بها جميعا بسبب النكبة الحقيقيّة التي تمر فيها مناطق كاملة من هذا البلد العربي وأهله الأحباء بسبب خيار النظام “الشمشوني”، فهذه غصةٌ نشعر بها جميعًا، وإنما أتحدث عن الارتباك السياسي. فحين ينظر المرء إلى القوى الفاعلة في الثّورة السوريّة يجد من بين الدول التي تدعم الثّورة حاليًا، أو تزعم أنها تدعم الثّورة على الأقل، دولًا غير ديمقراطية عارضت كافة الثّورات العربيّة، ووقفت ضدها. وهي بالتأكيد تدّعي دعم الثّورة السوريّة لأهداف أخرى لا علاقة لها بأهداف الثّورة، مثل سياسات النظام الخارجيّة ودعمه للمقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة وموقع سوريّة الاستراتيجي. كما يسهل تشخيص استخدام الطائفيّة في تجييش التضامن مع الثّورة السوريّة عند قوى عربية لم تتضامن مع الثورات أخرى في مصر وتونس واليمن. والطائفيّة في المشرق العربيّ ليست بغيضة ومتخلّفة فقط كحالها في كل مكان، بل هي خطيرة وقاتلة أيضًا. يمكن تفهم ارتباك المراقب بهذا الشأن. ولكن حتى المرتبك يجب أن يعرف أنَّ هذا الارتباك لا يمكن أن يكون سياسة تتبناها الثّورة السوريّة أو يتبناها الشعب السوري بشكل عام. فالشعب السوري ليس مراقبا. ومَنْ يتعرّض للقصف والدمار بالمقاييس غير المسبوقة في الثّورات العربيّة، ومن عرف أنّه إذا تراجع إلى الخلف لن يحكمه الأمن فقط بل سيحكمه حزب جديد من الرعاع وحثالات المجتمع هو ما يسمى “الشبيحة”، لا يمكنه أن يرتبك أو أن يسمح لنفسه بالارتباك تجاه تشخيص الخصم وقضية قبول الدعم. ومشكلته ليست هوية الداعمين بل قلة الدعم وبراغماتية الداعمين وحساباتهم.
9- يبقى من واجب المثقف الوطني الديمقراطي أن لا يتعب من التوضيح والتحذير من الطائفيّة، وأن يؤكد باستمرار على مقومات الديمقراطيّة والمواطنة والعدالة الاجتماعية، وعدم جواز استبدال استبداد بآخر، وعن ودور سوريّة العربي والإقليمي، وقضية فلسطين وغير ذلك. ولكن يجب أن يفعل ذلك من منطلق الانحياز للشعب السوري ولثورته ضدَّ الاستبداد. وإذا فعل ذلك من منطلق الوقوف إلى جانب النظام السوري فلن يسمعه أحد، وسوف يفقد مصداقيته، وستكون النتيجة الوحيدة التي يحققها هي إلحاق الضرر بهذه القضايا التي يتحدق باسمها.
10- بالنسبة للشعب السوري في المرحلة الراهنة لا توجد قضية في الدنيا أعدل من الدفاع عن حياة أبنائه وأعراضهم، ولا توجد قضية أهم من إسقاط النظام وضمان مستقبل سوريا في ظل حكم ديمقراطي يستحقه هذا الشعب.

 

صفحة د. عزمي بشلرة على الفيس بوك

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى