من ألبرت أينشتاين إلى المشير السيسي (علاء الأسواني)

 

علاء الأسواني

قبيل منتصف الليل توقف سائق «التاكسي» في شارع قصر النيل ليأخذ زبونة طلبت منه أن يوصلها الى ميدان الجيزة، في نهاية الشارع توقفت السيارة أمام كمين للبوليس وظهر ضابط شاب قال للسائق:
ـ ـ أرقام السيارة مطموسة. ما ينفعش تمشي بها، ابتسم السائق مستعطفاً وقال:
ـ أنا متأسف يا باشا
رد الضابط قائلا:
ـ متأسف يعني إيه ياروح أمك؟
تجاهل السائق الإهانة وقال:
ـ الصبح بإذن الله أعيد طلاء اللوحة حتى تكون الأرقام واضحة.
غضب الضابط وشتم السائق بأمه. لاذ السائق بالصمت وهنا تدخلت الراكبة وقالت:
ـ عيب يا حضرة الضابط تشتم رجلا في عمر أبيك
نظر الضابط للراكبة وصاح بغضب:
ـ وإنت مالك؟
صاحت الراكبة:
ـ أنا محامية وأنت مهمتك تنفيذ القانون لا إهانة الناس.
عندئذ ابتسم الضابط بغيظ وقال:
ـ تريدين تنفيذ القانون؟ حاضر.
سحب الضابط من السائق رخصة القيادة وأعطاه إيصالاً موقعاً باسمه يسمح له بالقيادة لمدة أسبوع واحد. بعد أن تجاوزا الكمين قالت المحامية للسائق بحماس:
ـ يا أسطى لازم تدافع عن حقوقك. الضابط ليس من حقه أن يشتمك. لو أن كل من تعرض للإهانة فعل كما فعلنا اليوم لتعلم هذا الضابط كيف يحترم القانون.
قبل أن تنزل المحامية من «التاكسي» أعطته «كارت» فيه رقم تليفونها وعنوان مكتبها وطلبت منه أن يتصل بها، حتى تذهب معه الى إدارة المرور لاسترجاع الرخصة.
شكرها السائق، لكنه في اليوم التالي ذهب وحده الى إدارة المرور، فلم يجد الرخصة، وأعاد المحاولة كل يوم بلا طائل، حتى انقضى الأسبوع وانتهى تصريح القيادة، فاضطر الى التوقف عن استعمال «التاكسي». تردد على ادارة المرور لمدة أسبوع آخر لكن رخصة القيادة لم تظهر. عندئذ سأله موظف في الادارة:
ـ أنت عملت مشكلة مع الضابط؟
حكى له السائق ما حدث، فقال له الموظف الطيب، إن الضابط غالباً احتفظ بالرخصة معه عقاباً له. ذهب السائق الى الضابط الذي أنكر في البداية وجود الرخصة معه، لكن السائق ظل يلح عليه ويتوسل إليه حتى صفح عنه وأعاد اليه الرخصة. بعد ذلك حكى لي السائق هذه الحكاية، ولما سألته لماذا لم يستعن بالمحامية فوجئت به يقول: ـ يخرب بيت المحامية. هي السبب في كل البلاوي.
قلت له:
ـ المحامية أرادت أن تدافع عن حقك.
قال بغضب:
ـ لم أطلب منها أن تدافع عن حقي. أنا كنت سأتفاهم مع الضابط. هي حشرت نفسها في الكلام وفي الآخر ماذا أخذت من دفاعها؟ الرخصة انسحبت ودخت وراءها وانقطع عيشي.
سألته:
ـ يعني تقبل يا حاج أن ضابطاً في عمر ابنك يشتمك.
ابتسم السائق وقال:
ـ كان عندي مخالفة فعلا لأن اللوحات ممسوحة. الضابط كان ناوي يسمعني كلمتين ويزعق له زعقتين وفي الآخر يسيبني أمشي. هو ضابط شاب وفرحان بالبدلة وعاوز يتمنظر ويشتم. خلاص يا سيدي هي الشتيمة بتلزق؟ يشتمني أحسن ما يقطع عيشي.
هذه الواقعة حدثت منذ بضعة اعوام، وهي تعكس في رأيي حالة مصر قبل الثورة. السائق ـ مثل ملايين المواطنين ـ كان قد اعتاد الإهانة، ويئس تماماً من تحقيق العدل وصار متوائماً مع الظلم. في المقابل سلطة غاشمة يمثلها الضابط تعودت أن تفعل في خلق الله ما تشاء بلا رقابة ولا حساب وهي تستعمل القانون بشكل انتقائي، فتطبقه أو تعطله على مزاجها، ليس بغرض تحقيق العدالة وإنما كوسيلة لقمع كل من يتمرد عليها. مع جبروت السلطة وإذعان الناس كانت دعاوي الحرية تتردد بين حين وآخر فلا تجد من يستمع اليها. هكذا كانت حالة معظم المصريين ثم تغيروا فجأة فصنعوا ثورة عظيمة أذهلت الدنيا. انتهى الى غير رجعة الإذعان والخوف والاستسلام لإرادة السلطة. في «25 يناير» 2011 انتفض ملايين المصريين وواجهوا بشجاعة واحدة، واحدة من أعتى آلات القمع في العالم واستطاعوا ان يرغموا مبارك على التنحي، الانسان المصري الذي كان يعتبر إهانات السلطة شراً لا بد منه ليعيش ويربي اولاده تحول الى النقيض فصار يقف أمام مدرعات الشرطة يتلقى الرصاص بصدره مفتوحاً فلا يهرب ولا يخاف. وكأن صبر المصريين الطويل قد نفد فجأة فثاروا وصنعوا معجزة. قدم المصريون آلاف الشهداء وصمدوا أمام مذابح عديدة، مسؤول عنها المجلس العسكري السابق فلم ينكسروا ولم ينسوا حلمهم بالعدل والحرية، ثم وصل «الاخوان» الى السلطة وسرعان ما اكتشف المصريون انهم الوجه الآخر لنظام مبارك، فنزلوا بالملايين واستطاعوا عزل الرئيس مرسي الذي فقد شرعيته عندما قام بانقلاب رئاسي وأصدر إعلانا دستورياً عطل به النظام الديموقراطي ووضع قراراته الرئاسية فوق القانون. إن ما حدث في مصر قد حدث من قبل في كل الثورات. تغير المصريون فجأة تماماً. اكتسبوا شجاعة وأحسوا بمسؤولية عن بلادهم وقرروا تغييرها بأيديهم. إن الإنجاز الحقيقي للثورة المصرية هو ذلك التغير الانساني الذي حدث للمصريين فجعلهم مختلفين في الرؤية والتفكير والسلوك. هذا التغير لم يفهمه أحد من الذين تولوا السلطة بعد الثورة. سواء المجلس العسكري أو «الاخوان» أو حتى السلطة الحالية. كلهم تعاملوا مع الشعب وكأن ثورة لم تقم. كل ما تفعله السلطة الحالية منقول بحذافيره من كتاب مبارك المقرر. قنوات فضائية وصحف كثيرة وظيفتها نفاق السلطة والتشهير بالمعارضين بواسطة إعلاميين يتولى تشغيلهم ضباط أمن الدولة، قانون انتخابات يخالف الدستور ويتحدى قرارات مجلس الدولة ويقرر تحصين اللجنة العليا للانتخابات لتفعل بالنتائج ما تشاء، تماماً كما حدث أيام مبارك. ضمانات شكلية لنزاهة الانتخابات تم تفصيلها على مقاس المشير السيسي. قانون للتظاهر مخالف للدستور تستعمله السلطة للانتقام من شباب الثورة فتلقي بهم في السجون أعواماً عديدة، لأنهم تجرأوا على التظاهر، أو حملوا لافتات تقول لا للدستور. معارضون يتم التشهير بهم في التلفزيون فتذاع تسجيلات لمكالمات تنتهك حياتهم الشخصية، وعندما يتقدمون ببلاغات الى النائب العام تظل حبيسة الأدارج عدة شهور فلا يحقق فيها، بينما يحكم قاض على 529 متهماً بالإعدام بعد جلستين اثنتين فقط لا غير. اعتقالات عشوائية وتعذيب وتطبيق انتقائي للقانون.
المحزن أن السلطة الحالية، على عكس نظام مبارك، ليست مضطرة للقمع لأنها وصلت للحكم بشرعية منحها لها ملايين المصريين الذين تظاهروا في «30 يونيو» لإنهاء حكم «الاخوان». هل كان من الضروري أن ترتكب السلطة الانتقالية كل هذه الانتهاكات لحقوق الانسان..؟!. لقد ارتكب «الاخوان» من الجرائم ما يجعل إدانتهم مؤكدة اذا تمت محاكمتهم من خلال أي نظام قضائي عادل، فلماذا تتورط السلطة في المحاكمات الشكلية والاعتقالات العشوائية والتعذيب؟
إن السلطة الحالية تنتهك حقوق الانسان بشكل بشع، وعندما يستنكر العالم هذه الانتهاكات، يتحدث المسؤولون عن مؤامرة كونية تشترك فيها دول العالم أجمع ضد مصر. اذا كانت هناك مؤامرة ضد بلادنا فإن سياسة السلطة الحالية تساعد على نجاحها. إن الحكومة الحالية تتعامل معنا على طريقة مبارك وكأننا رعايا إحسانها فتمنحنا الحقوق أو تحجبها كما تشاء. المعادلة القديمة نفسها التي انتهت صلاحيتها منذ قيام الثورة وأدت الى سقوط مبارك وحبسه، لكن السلطة الانتقالية ما زالت تحاول إعادة فرضها على المصريين. مع احترامنا لشخص المشير السيسي وتقديرنا لدوره البطولي عندما انحاز لإرادة الشعب ضد الإرهاب، لكن ما يحدث في مصر لا يتجه بها نحو الديموقراطية. المشير السيسي يحيط به كثيرون: دراويش يسبّحون بحمده وهم جاهزون دائماً لإلقاء سيل من الشتائم على رأس كل من يوجه له نقداً، طبّالون وزمّارون ينافقون السيسي اليوم ليستفيدوا منه غداً، كما فعلوا مع كل حاكم قبله، ثم فلول نظام مبارك الذين نهبوا المصريين على مدى ثلاثين عاماً ويريدون الآن الإبقاء على مصالحهم الضخمة بأي طريقة. لن ينفع المشير السيسي الدروايش ولا المنافقون ولا الفلول. لن ينفع السيسي إلا من ينصحه وينبهه الى أخطائه. ما زالت أمام المشير السيسي فرصة عظيمة لتغيير مصر وتحقيق أهداف الثورة وإقامة ديموقراطية حقيقية، لكن ما يحدث الآن يبعده كل يوم عن الطريق الصحيح. من حق المشير السيسي أن يترشح للرئاسة ومن حق المصريين أيضاً أن يحصلوا على انتخابات عادلة محترمة بعد ثورة قدموا فيها آلاف الشهداء. السيسي يتمتع بشعبية حقيقية ستمكنه غالباً من الفوز بالرئاسة، فلماذا لا يتم تطبيق قواعد عادلة وشفافة للانتخابات حتى يكون فوزه مستحقاً محترماً من الجميع. الدولة تحارب الإرهاب الذي يستهدف جنودنا من الشرطة والجيش، ولكن التاريخ يعلمنا ان القمع لا يقضي على الإرهاب وإنما يقدم ذريعة لاستمراره. العدل وحده هو الذي يقضي على الإرهاب لأنه يقضي على أسبابه. اذا أراد المشير السيسي أن يؤسس دولة ديموقراطية فيجب عليه أن يقوم بالخطوات التالية:
أولاً: إلغاء قانون التظاهر لأنه باطل وغير دستوري والإفراج عن جميع المحبوسين بمقتضاه.
ثانياً: إلغاء تحصين اللجنة العليا للانتخابات وإبقاء جهاز الدولة على الحياد أثناء الانتخابات وإخضاعها لمراقبة دولية وتطبيق ضمانات نزاهة الانتخابات على جميع المرشحين بلا محاباة.
ثالثاً: تفعيل العدالة الانتقالية عن طريق تكوين لجان قضائية مستقلة تعيد التحقيق في كل المذابح التي تعرض لها المصريون، على أن يتم تعويض الضحايا وتقديم القتلة للمحاكمة.
رابعاً: تطبيق إجراءت العدالة الاجتماعية، مثل الضرائب التصاعدية، على الأفراد والشركات وتطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور وإلغاء الصناديق الخاصة التي تحتوي مليارات الجنيهات من مال الشعب وضمها لخزينة الدولة فوراً.
خامساً: تنفيذ الدستور واحترام حقوق الانسان ومنع التعذيب والاعتقالات العشوائية.
هذه الخطوات التي يجب على المشير السيسي تنفيذها فوراً، اذا أراد أن يدفع مصر في الطريق الصحيح، أما اذا استمرت السلطة الحالية في إعادة إنتاج نظام مبارك فإن نهايتها ستكون قطعاً مثل نهايته. ذات مرة كتب العالم الألماني الكبير ألبرت أينشتاين (1879 ـ 1955) العبارة التالية:
"لا أفهم أبداً كيف يعيد شخص نفس التصرف بنفس التفكير في نفس الظروف ثم يتوقع نتائج مختلفة".
أرجو أن يدرك المشير السيسي قصد أينشتاين.
الديموقراطية هي الحل

صحيفة المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى