من أين لكم هذا.. من «دم الشيطان»؟

إنه النفط، ومع ذلك وبرغم ذلك، غضب في مدنٍ وبلدان محافظات الجنوب والوسط. السخط عابر للطوائف والمذاهب. لقد بلغ العراق حافة الجوع. البنى التحتية تتآكل، الكهرباء تنوص، الخدمات الصحية، تعتلّ، الرواتب تفقد وزنها. كل ما في العراق إلى نقصان باستثناءين: تعاظم الفساد واستشراء العنف.

لا يحدث كل ذلك في بلد فقير. العراق يعوم على ثراء فاحش، ويعيش أهله في بؤس وفاقة ومذلة. معاناة فجائعية متعددة الوجوه: حرب من نوع غير مسبوق في توحّشها. توجّس من عدوّ موجود في الآخر المذهبي. تهجير وقتل وذبح. سيارات تنفجر وأشلاء تتناثر. إنفاق تشغيلي وبذخ استهلاكي للمحظيين، وشح في التنمية وهدر يتفاقم.

قيل، حيث يكون النفط، يترعرع الفساد: ينعم المسؤولون، بحمايات تكاد تفوق عديد الجيش العراقي. راتب النائب مجزٍ ومقرّ وغير معقول، عشرة آلاف دولار، تضاف إليه مخصصات طعام وإسكان ومحروقات ومخصصات طبية، له ولأفراد الحماية، التي تشكل حاشيته المقيمة والمتنقلة. وألحق بهذه العطاءات زيادات بلغت 16 ألف دولار لكل نائب، وأعطي حق تملك قطعة أرض في أي مكان مع قرض قيمته 70 ألف دولار، لشراء سيارات مع سلف مالية معفاة من الضرائب، وبلغت كل سلفة 76 ألف دولار. وينعم بمثل هذه العطاءات رؤساء مجالس المحافظات والمحافظون ونوابهم وأعضاء مجالس المحافظات والمديرون العامون ووكلاء الوزارات… هذا النعيم الشيطاني، يقابله مواطن عراقي يبلغ متوسط دخله الشهري حوالي 260 دولاراً، وإذا قيس بمرتّب عضو البرلمان، تجاوز الأخير 40 ضعفاً.

العراق المنكوب بالحروب، المنكوب بالاحتلال، المنكوب بالمذهبية، منكوب بسلطة «وطنية» تستحوذ على ثروة نفطية تبدّدها، استفاقت على وقع إقدام «الجماهير» المظلومة والغاضبة، فقررت أن تحارب الفساد بالفاسدين، في أكثريتهم، إذ، من أين يأتي الأوادم، والنظام فبركة لا تهدأ في إنتاج الفاسدين والمُفسدين. ما قام به رئيس الوزراء حيدر العبادي محفوف بخطر ارتداد بعض المتضررين لـ «قتال» السلطة من أجل استعادتها، أو اللجوء إلى العنف، ولقد عاد، عبر السيارات المفخخة. فالفساد ليس جباناً. إنه يدافع عن «حقه» في حصة من النفط.

النفط نعمة في الدول الديموقراطية، ولعنة في الدول الاستبدادية. لقد كتب الكثير عن «لعنة النفط». فيرنون سميث، لقّب النفط بـ «دم الشيطان» (من جامعة جورج ماسون، 2003) وسمّاه مؤسس منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) خوان بابلو بيريز الفونسو «فضلات الشيطان». ولكنه ليس كذلك في كل مكان وفي كل زمان. فعائدات النفط في الدول الديموقراطية أنفقت على التنمية والتربية والصحة والتعليم، كما بذلت في إقامة المشاريع الكبرى التي ساعدت على التبادل الصناعي والتجاري ووسعت الأسواق وأطلقت ديناميات على مستوى عالمي. لقد بات «النفط شريان حياة الاقتصادات الغربية العالمية، وما يرتبط بهذه الاقتصادات من أنشطة منتجة».

النفط، في المنطقة العربية وفي دول الإقليم وبعض دول العالم الثالث، كان «لعنة». من تلقى عائدات النفط؟ الشعب أم الحكم، ملكاً أو ديكتاتوراً؟ مَن أنفقه وكيف ولأي غايات؟ مَن استفاد منه؟ ما حصة «المواطن» منه؟

حظ «المواطن» العربي من النفط، النبذ والإلغاء والاستتباع. غذّت السلطات الاستبدادية، كعائلات حاكمة أو كقوى تسلطية بواسطة العسكر، معسكر منعدمي الكفاءة. نشأت «رأسمالية الأتباع والأقارب» و «شجّعت الإنفاق الحكومي بلا حساب». فالنفط ملك لمن ملك السلطة وقبض على القرار، وطوّع الناس بالأمن والقمع والعنف.

حظّ العربي من النفط، أنه كان «لتمويل أدوات القمع لتصفية المعارضة» ولمنعها. لولا هذا المال، لكان الحكم هزيلاً، إذ من أين يأتي المال لشراء الجلاوزة وشراء العقول وشراء الذمم؟ النفط العربي موّل أجهزة البوليس القمعية وشبكات التجسس والتخريب، واشترى ضمائر قضاة وتملّك وسائل أعلام، وأسكت وسائل إعلام معارضة. حظ العربي من النفط أنه كان يتلقى الفتات، ويتعرّض للرشوة عبر خدمات مجانية صحية وتربوية، مقابل القبول بإملاءات السلطة وتقديم فروض الطاعة والولاء… حظ العربي أنه شهد على فساد غير مسبوق، علني ومفاخر وباذخ، غارق ومغرق في الاستهلاك بلا حدود، بل إلى منتهى الابتذال.

في مرحلة الصعود القومي، راج شعار «نفط العرب للعرب». كان ذلك شعاراً براقاً ومثالياً جداً. قلة رأت أن هذا النفط سيكون وبالاً على العرب. نبيل حبيقة كان سباقاً في اكتشاف أن «بترول العرب ضد العرب». لن يصل من عائدات النفط إلى الفرد العربي، غير السوط والجزمة والتخلف من جهة، وغير الاستلاب الكبير وتفشي الثروات المفاجئة والعملاقة كالفطر، ونشوب اقتصاد العقارات. لا إنتاج، لا صناعة، لا زراعة، لا… إنسان.

لبنان قادم على محنة نفطية. الخلاف عليه سابق لاستخراجه وورود عائداته. سيكون كما هو المنطق «اللبناني»، لكل فريق حصته. وسيعوم لبنان على فساد إضافي. لا مراقبة ولا محاسبة ولا شفافية. العراق نموذجه. دول الخليج الأخرى لها طريقتها في إنفاق عائدات النفط، بالطرق غير الديموقراطية.

مضحك أمر لبنان، يسنّ القوانين ويخالفها جهاراً، ويسكت القضاء عنه. ابتدع من «أين لك هذا؟». لم يسأل أحدٌ بعد. علماً أن الفساد هو الحاكم وهو الحكم وهو الذي يفاخر ويتباهى أمام الجميع، بأفضاله على الجمعيات والمياتم والمدارس والبلديات وفي شراء الذمم.

إذا كان لبنان بلداً بلا موارد، والفساد فيه متفوّق، فكيف إذا كثرت موارده؟ بالطبع، سيزداد أصحاب المليارات. أما المواطنون فسيكونون «حراساً ورهائن بيد مَن يُطعمهم». ولن يصوّتوا ضد «الأيدي الملوّثة التي تطعمهم».

فبنعمة النفط لا تتحدّث، في غياب الديموقراطية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى