مَن يُحاسِب؟ ومَن يُحاسِب مَن؟ (فواز طرابلسي)

 

فواز طرابلسي

لأول مرة فى تاريخ العالم العربى الحديث نجحت انتفاضات شعبية سلمية فى إطلاق مسارات افضت إلى تنحى أربعة رؤساء دولة عن الحكم.

ولأول مرة فى التاريخ ذاته، أحيل هؤلاء الرؤساء إلى المحاكمة، وجاهيا أو غيابيا، بتهم تتعلق بالأمر بالقتل والتعذيب والفساد ونهب الاموال العامة.
والآن تلوح مؤشرات إلى أن هذه المكاسب الأولية لعملية التحويل الديمقراطى فى تلك البلدان مهددة بالتبديد.
اغتيل معمر القذافى، بالطريقة البشعة الهمجية التى اغتيل بها، دون محاكمة أو قطعا للطريق على محاكمة. وفرّ زين الدين بن على إلى العربية السعودية. وبموجب «المبادرة الخليجية»، المرعية امريكيا، أعفى على عبدالله صالح هو «واعوانه» من اى مساءلة او محاسبة على جرائم وسرقات وهدر خلال ٣٣ سنة من الحكم الدكتاتورى، مقابل التنحى عن الحكم لنائبه. برسم الذين استهولوا قصة اعفاء «الاعوان»، جرى التعويض على عزل عدد من ابناء واقرباء الرئيس اليمنى المخلوع من قيادة ابرز الوحدات العسكرية والامنية بتعيينهم سفراء لليمن خارج البلاد، ما يمنحهم الحصانة الدبلوماسية. ومن ضمن الصفقات المعروضة على الرئيس بشار الاسد مقابل التنحى عن رئاسة الدولة هو تدبير باعفاءات مماثلة.
تبقى تونس ومصر. فى مجال المحاسبة، حُكم على زين العابدين بن على بخمس وثلاثين سنة سجنا على تهمة نهب الاموال. هى عقوبة قاسية اتهم البعض القضاء التونسى بالتسرّع فى اصدارها. ولعل ثمة علاقة بين قسوة العقوبة وغياب المحكوم الذى ترفض العربية السعودية تسليمه طبعا.
على ان الحدث الاهم هنا هو الحكم القضائى المصرى باخلاء سبيل حسنى مبارك من احدى ابرز التهم الموجهة له.

●●●

لنلاحظ ولو بلفتة سريعة ان المشترك بين الحالات جميعها هو غياب المحاسبات السياسية قبل أى شىء آخر. كأنما لا دروس تتوخى من ثلاثة او أربعة عقود من الاستبداد والقمع وتفويت فرص التنمية والانفلات الريعى وعسكرة المجتمعات وأمننتها والقضاء على مستقبل اجيال فى العمل والامل وتعميق الفروقات المناطقية والطبقية ناهيك عن الهدر والحروب المدمّرة التى لا تغطى عليها الانجازات.
عندما صدر الحكم باخلاء سبيل حسنى مبارك، كان النائب العام المصرى فى زيارة قطر. لماذا الدوحة؟ لأن قطر سوف تمدّ مصر «بخبرات بشرية وتقنية فى مجال النيابة العامة والقضاء» حسب التفسير الرسمى الذى اعطى لتغيّب النائب العام. صدّق أو لا تصدق. قطر التى حكم قضاؤها على شاعر بالسجن المؤبد بسبب قصيدة تنتقد الاسرة الحاكمة، قطر هذه صارت مرجعا للقضاء القويم لمصر التى أنجبت امثال عبدالرزاق السنهورى واضع دستور مصر الحديث ودساتير عدد من الدول العربية الاخرى.
تبقى مسألة استرداد الاموال المنهوبة. على الطلبات التى ترسل إلى دول الاوروبية والامريكية، تأتى ردود منمطة: ان تشريعات البلد لا تسمح بذلك. ولسنا نتحدث هنا عن سويسرا أو عن «الفراديس المالية». نجحت بعض الضغوط فى دفع بعض البلدان ــ بريطانيا مثلا ــ على تعديل فى تشريعاتها اتاح تجميد ارصدة متنازع عليها. ومن جهته، حكم القضاء الايطالى بمصادرة املاك لآل القذافى بقيمة ١،٣ مليار يورو بما فيها أسهم فى كبريات الشركات الايطالية.
خلال حقبة الذورة فى الثورات، تشكلت هيئات من المواطنين للتأكد من تحقيق العدل والدفاع عن حقوق ضحايا القمع والقتل ومتابعة عملية استرداد الاموال المنهوبة. بعضها لا يزال يواصل عمله. بالفعل عقد فى الدوحة، بقطر ايضا، «المنتدى العربى لاسترداد الأموال المنهوبة» فى سبتمبر ٢٠١٢. مهما تكن توصيات المؤتمر وحظها من التحقيق، اللافت هو مكان الانعقاد والنظام المضيف.
يقال إن الجمهوريات تحولت إلى انظمة توريثية ودول غنائمية على غرار الانظمة الريعية السلالية الاستبدادية فى الجزيرة والخليج (والاردن والمغرب) حيث الحاكم يملك الارض، وما تحتها خصوصا، والاموال والاعناق. وهذا صحيح. ولكن اذا كانت الجمهوريات قد «تجملكت» وحذت حذو الممالك والمشيخات والإمارات، هل يعنى ذلك انه يجب تبرئة النظام الاصيل ومحاكمة ومعاقبة النظام المقلّد؟ هل محاسبة المستبدين الجمهوريين يبرئ من يتصرّفون بالثروات الفلكية الناتجة عن النفط والغاز. بل اكثر، هل ينصبّهم ذلك مدّعين عامين وقضاة بدلا من ان يكونوا متهمين ومحكومين؟ وماذا عن استرداد اموال شعوب تلك البلدان المنهوبة والمهدورة والمصدّرة بالتريليونات لتمويل ودعم الاقتصادات الغربية؟ بل هل هذا يعطى حكام ممالك وإمارات ومشيخات الغاز والنفط الحق فى ان يحاكموا سرقة اموال الشعوب من حكام الجمهوريات؟

●●●

كشف الائتلاف السورى مؤخرا عن وجود خطة لديه لاسترداد اموال رجال النظام التى قدّرها بمليارى دولار. وهو مبلغ متواضع اذا ما قيس بتقدير الائتلاف ذاته لحاجته إلى نصف مليار دولار شهريا. المعارضة، اى معارضة، ليست معصومة سلفا من اى تهمة تتهم بها النظام الذى تعارضها. وعلى الاخص عندما تتكأكأ عليها الاموال النفطية والغازية. فمن يحاسب المعارضة السورية على إنفاق مثل هذا المبلغ شهريا لو توافر؟ أى كيف تبادر هيئاتها والمؤسسات إلى وضع مقاييس لشفافيتها؟
هذا مجرد تذكير بأول انجازات الثورات المهددة بالتبديد. فابسط بديهيات الديمقراطية حق المواطنين فى مساءلة الحكام المنتخبين ومحاسبتهم وتغييرهم ومعاقبتهم عندما تستدعى الحاجة. واول اختبار للديمقراطية فى الثورات ان تنجح فى مساءلة حكامها والمعارضات فى آنٍ معا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى