نحو مشروع السلطنة في أنقرة

صحيح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يحصل على نسبة الأصوات التي كان يتمناها في الاستفتاء الأخير، ولكن من الواضح أنه اعتبرها كافية للانطلاق نحو تنفيذ مشروعه الطموح في بناء تركيا التي يريد. فبعد دخوله المضمار السياسي وتثبيت قدميه كرجل تركيا القوي قبل أكثر من عقد، سيحرص أردوغان الآن على تشكيل بلاده وفق هواه أكثر مما فعله أي زعيم آخر منذ عهد باني تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك. ولا شك في أن الرئيس التركي وجد في «نعم» الاستفتاء، ولو بنسبة ضئيلة (51.41 بالمئة)، الضوء الأخضر لتأسيس حكم رئاسي صلب يتمتع بسلطات واسعة تمنحه إرادة تعيين وإقالة الوزراء واختيار سلك القضاء وكبار الضباط وحكم البلاد وفق أحكام الطوارئ إذا رغب في ذلك.

ووجد أردوغان نفسه على ثقة كافية بعد اعلان نتائج الاستفتاء كي يوجه خطاباً إلى الاتراك وصف فيه كل من وقف ضد سياسته أخيراً أعداءً لتركيا، شاملاً بذلك ألمانيا وهولندا والاتحاد الأوروبي. لكن أردوغان في الحقيقة يسعى إلى لفت الانتباه بعيداً من نتائج الاستفتاء التي كشفت هشاشة «ثورة» أردوغان في نقل تركيا من النظام البرلمـــاني الخاضع للرقابة الدستورية باستمرار إلى نظام رئاسي قوي يكون لأردوغان فيه الكلمة العليا والأخيرة. فالغالبية في إسطنبول وأنقرة وأزمير صوتوا ضد ترشيحه على رغم سيطرة حزب العدالة والتنمية على القاعدة الجماهيرية في إسطنبول وأنقرة طوال 15 عاماً متواصلة. وقد بدا بالفعل في إحدى لحظات عملية الاستفتاء أن أردوغان على وشك أن يخسر السباق ولكنه فاز في النهاية بأكثرية ضئيلة، ما يقدم للمعارضة بعض التعويض عن الخسارة في شكل عام.

الفـــوز الباهت ليس غريباً لأردوغان ولحــــزبه إذ شهد هذا الأخير تراجعاً كبيراً في عدد مقــــاعده في الجمعية الوطنية (البرلمان) في الانتخابات العامة الثلاثة المتلاحقة، وانخفضت نسبــــة مقاعده بمعدل 9 في المئة بين انتخابات 2011 و2015. على رغم تلك الخسائر المتتالية لم يغيّر أردوغان نبرة صوته التي بقيت مرتفعة ضد معارضيه مستخدماً المواجهة العسكرية مع ميليشيات حزب العمال الكردستاني في التعبئة العامة. وليس من المتوقع أن يفعل عكس ذلك في ضوء نتائج الاستفتاء، إذ بدأ يتحرك لاستقطاب الرأي العام وتعميق الانقسام في وسطه.

قبيل الاستفتاء وأثناء فترة التحضير له اتخذت الحكومة سلسلة إجراءات بدت صغيرة ولكنها تركت مجتمعةً تأثيراً كبيراً على النتائج وساهمت في إحلال السلطوية محل الديموقراطية. وجاءت الانتخابات العامة نفسها وفقاً للمراقبين الدوليين بنتائج مزورة جراء القمع الواسع في مناطق الأكراد جنوب شرق البلاد، واعتقال مئات المعارضين السياسيين، والتأكيد على قيام الاعلام التركي بتغطية نشاط وحملات الحكومة الداعمة لاردوغان وتوقيف أو ضرب الداعين لحملة التصويت بـ «لا».

حملة أردوغان وقيادات حزبه برعوا في التركيز على أن التصويت لتعديل الدستور والتأسيس لقيام نظام رئاسي تنفيذي أمران ضروريان لكسب المعركة ضد خصوم تركيا في الداخل والخارج معتبراً حملة التصويت بـ «لا» تخدم في النهاية الإرهاب. على الأغلب لن تجد تركيا في عهد اردوغان المقبل الذي قد يطول لمدة عقدٍ من الزمن على الأقل، إلا المزيد من الانشقاق المجتمعي في ظلّ رئيسٍ سيمسك بجميع خيوط السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية والقضائية. فالرئيس التركي معروف من خلال سجله السياسي ببراعته في شق الصفوف وتشجيع الخلاف لخدمة مصالحه السياسية. فخسارته في إسطنبول وأنقرة في الاستفتاء على سبيل المثال لن تدفعه نحو الرشد والاعتدال، بل ستجعله أكثر شراسة في البحث عن الخصوم المنتشرين بين صفوف الغولنيين والإرهابيين الأكراد والمتعاطفين معهم من الإعلاميين الأتراك والأجانب المؤيدين لهم والهادفين إلى تدمير تركيا على حد تعبيره.

وينتظر أن نشهد مستقبلاً حملة أخرى ضد الصحافيين والأكاديميين وكبار موظفي الدولة المشكوك بولائهم لرئيس الدولة، وقد بدأ أردوغان وصف كل من يرفض تأييد النظام الرئاسي «الذي صوّت الشعب التركي له» كعدو لتركيا و«خادم لأسياده الأجانب». وهذه وصفة واضحـــة لتعزيز الفرقة الوطنية في مجتمع مركّبٍ من اثنيات وقوميات عدة قابلٍ لانفجار سريع تحـــت أية ضغوط. في بلد تتمتع فيه المؤسسات الديموقراطية بالحرية، يكون فيه الاستقطاب متوازناً حيث يجري تشجيع مثل هذه المؤسسات على التسويات ويحول دون تفرد الحكــــومة بالسلطة. تركيا ليست هذا النوع من الدول وأردوغان ليس معروفاً بالتسامح لا عند لحظــــة الانتصار ولا عند لحظة الهزيمة، بل يتميز بميله نحو التكبّر والتعالي، وهذا من الدروس التي دفعت وزير خارجيته ورئيس وزرائه السابق أحمد داوود أوغلو إلى الخروج من خيمته.

هنا تُطرح مسألة في غاية الأهمية أمام الغرب في الدرجة الأولى، والذي يجب أن لا تتخلى مؤسساته السياسة والمالية (صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي مثلاً) عن تركيا، بل من الضروري أن يبتكر سبلاً في شأن التعامل معها في عهد اردوغان مهما بدا هذا الأخير صعب المراس وذا ميول سلطانية. فتركيا دولة مركزية مهمة يتردد صدى كل ما يجري فيها على قارات ثلاث مجاورة، وتشكل نموذجاً لديناميكية سياسية تؤثر في صوغ شكل العلاقات في العالم. فعدا تاريخها العريق كإمبراطورية، فهي الآن تحت أنظار العالم كونها دولة ذات حدود مع سورية التي تمزقها حروب الآخرين، والعراق الذي تهدده الحرب الطائفية والنزاع الإثني والقومي، وإيران التي لا حدود لمغامراتها الإقليمية. كما أن تركيا، وهذا هو الأهم، تبقى ساحة اختبار للتعايش بين الديموقراطية والإسلام السياسي وبين الليبرالية الغربية والسلطوية القومية ذات النمط الروسي. ولا شك في أن أردوغان قاد بلاده نحو تجربة ناجحة في التنمية الاقتصادية في السنوات الأولى من عهده الذي انطلق في 2003، إلا أن تركيا شهدت انحداراً خطراً في السنوات الأخيرة. أما السؤال الذي يبقى فعن مدى التراجع الذي سيقود أردوغان بلاده اليه بعد الاستفتاء الأخير.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى