نظرة مقارنة: هل تغيرت أوضاع حقوق الإنسان في المنطقة العربية بعد الثورات؟ (د. عبدالعال الديربي)

 

د. عبدالعال الديربي*

رغم أن انتهاكات حقوق الإنسان مثلت أحد مغذيات الحراك الثوري الذي أسقط الأنظمة الاستبدادية في مصر وتونس وليبيا، فإن الأنظمة الجديدة في دول الربيع العربي لم تُقدم على إجراءات تخفض من حدة هذه الانتهاكات التي ارتبطت بالمواطن العربي لعقود طويلة، سواء أكانت تطال حرية التعبير، أو الحق في الحياة، أو الحق في الكرامة الإنسانية، أو الحق في الصحة، أو الحق في التعليم.. إلخ، وهي الحقوق التي ضمنتها مواثيق حقوق الإنسان العالمية، وفي صدارتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
وفي الوقت الذي دأبت فيه الأنظمة الاستبدادية في المنطقة قبل الربيع العربي على انتهاج إجراءات استثنائية عصفت بحقوق المواطنين، وزورت إراداتهم السياسية، فإن الأنظمة الجديدة بدا أنها تتمسك ببعض من تلك الإجراءات، مغفلة درس الثورات، وأن تردي حقوق الإنسان قد يشكل مع تراكماته مغذيا للاحتجاجات الشعبية. وثمة مؤشرات على أن حالة حقوق الإنسان بعد الثورات لا تزال تمثل ظاهرة مؤرقة للمواطنين. ومن أبرز هذه المؤشرات ما يلى:

– اتجاهات التطور على المستويين التشريعي والمؤسسي

ظلت الأنظمة الاستبدادية العربية قبل الثورات متشبثةً بحزمة واسعة من القوانين القمعية التي تصادر الحريات الأساسية، وتمسكت باستمرار فرض حالة الطوارئ على شعوبها، حيث دخلت عامها الثامن والثلاثين في سوريا، وعامها الثلاثين في مصر. وأعلنت السلطات اليمنية حالة الطوارئ في إقليم صعدة عام 2009، إيذانًا ببدء الجولة السادسة من الحرب على من تصفهم بالمتمردين الحوثيين. وفي تونس، مهد النظام الحاكم هناك للانتخابات الرئاسية عام 2009 من خلال التلاعب في الدستور عام 2008، من أجل إقصاء منافسين محتملين -آنذاك- من المشهد الانتخابي، حتى تخلو الساحة لزين العابدين، كما تم تعديل قانون انتخابات البرلمان التونسي لضمان فوز مرشحي النظام.وفيما يتعلق بمصر، لم تتخذ السلطات المصرية أي تدابير تشريعية لإعادة النظر في القيود الدستورية على حق الترشح لمنصب الرئيس الذي تم تقييده لصالح الحزبيين على حساب المستقلين.
وواقع الأمر، فإن ما حدث في دول الربيع العربي بعد الثورات كشف عن لجوء الأنظمة الجديدة لذات التشريعات المقيدة للحريات. ففي مصر مثلا، أعلن الرئيس المصري، محمد مرسى، فرض حالة الطوارئ في مدن القناة الثلاث ( بورسعيد- السويس- الإسماعيلية) بعد الاضطرابات الأخيرة ، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض الشديد من جانب شعوب هذه المدن، ومن جانب قوى سياسية متعددة، في مقدمتها جبهة الإنقاذ الوطني.
ولعل الشيء الإيجابي لثورات الربيع العربي تمثل في خوض غمار تجارب انتخابية شُهد لها بالنزاهة والحيدة والشفافية، بغض النظر عن النتائج. ويرجع ذلك إلى خفض حدة الشروط الخاصة بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية، من خلال الإعلان الدستوري الصادر في مارس 2011 في مصر مثلا، أو من خلال انتخاب المؤتمر الوطني العام في ليبيا.

– تنامي الانتهاكات ضد المدافعين عن حقوق الإنسان ودعاة الإصلاح

لقد ظل المدافعون عن حقوق الإنسان، والمطالبون بالإصلاحات الديمقراطية هدفًا لصنوف شتى من التهديد والقمع قبل الثورات. فمن جانبها، واصلت سلطات تونس ممارساتها الممنهجة بحق المدافعين عن حقوق الإنسان، سواء من خلال الحصار الأمني لمقار المؤسسات الحقوقية، أو المراقبة اللصيقة لأعضائها، أو فرض حصار أمني على منازلهم.وغني عن البيان أن الحكومة المصرية اتجهت إلى فرض مزيد من الوصاية على المنظمات غير الحكومية من خلال إحكام قبضة ثلاث هيئات عليها، هي وزارتا الداخلية، والتضامن الاجتماعي، إلى جانب الاتحاد العام للجمعيات الأهلية.
وعلى الرغم من ارتفاع سقف الحرية في دول الربيع العربي، مقارنة بالماضي، فإن ذلك لم يحل دون وقوع انتهاكات خطيرة بعد الثورات في حق المدافعين عن حقوق الإنسان ودعاة الإصلاح، كما حدث مع العديد من الناشطين والسياسيين في مصر خلال التظاهرات الاحتجاجية، وكذا ما حدث من تصفية سياسية للناشط السياسي المعارض، شكري بلعيد، في تونس.

– وقوع اعتداءات هائلة على حرية التعبير

شهدت دول الربيع العربي قبل الثورات طفرة هائلة في الهجوم على حرية التعبير، ومن ذلك تعطيل صدور الصحف، أو منع توزيعها، وهذا ما شهدته اليمن، حيث وقع اعتداء سافر من جانب السلطات اليمنية على الصحافة المستقلة، منعها من الصدور والتوزيع، كما استحدثت اليمن محكمة خاصة بالمطبوعات لملاحقة عدد من الصحفيين بأحكامها، وهي أحكام تتراوح بين السجن والمنع المؤقت أو النهائي من ممارسة المهنة. وقامت أجهزة الأمن باقتحام مؤسسات صحفية، وحرق ومصادرة شاحنات لتوزيع الصحف. وامتدت ممارسات الاختطاف والاختفاء القسري لتطال رموزًا في العمل الصحفي والسياسي، فضلا عن مواصلة حجب العشرات من المواقع الإلكترونية.
وعلى الرغم من أن مصر شهدت تراجعًا ملحوظًا في تطبيق العقوبات السالبة للحرية على الصحفيين، فإن اتجاه بعض الأحكام القضائية إلى التوسع في الغرامات الموقعة على الصحفيين ظل سيفًا مسلطًا على رقاب بعض أعضاء الجماعة الصحفية.
ولم تستغرق السياسات سالفة الذكر والمتراكمة، عبر سنين طويلة، سوى بضعة شهور لتظهر على السطح من جديد، حيث اتبعت الأنظمة الجديدة بعد الثورات أساليب لا تختلف كثيرا عن الأنظمة الاستبدادية السابقة من قبيل مصادرة الصحف، وغلق القنوات التليفزيونية كقناة الفراعين، وقناة دريم فى مصر، كما ضيقت الحكومة التونسية الجديدة كثيرا على الصحفيين وأصحاب الرأى الرافضين لسياسات حزب النهضة الإسلامى.

– الحق في التجمع والاجتماع السلمي

لا أحد ينكر أن دول الربيع العربي، ما قبل الثورات، قد مارست أشكالا متنوعة لقمع مظاهر الاحتجاج السياسي، أو الحراك الاجتماعي. فمثلا، ظلت أشكال الاحتجاج الجماعي السلمي محلا لقمع الجهاز الأمني في مصر في مناسبات شتى، والحال كذلك في سوريا وتونس. فلقد وظفت السلطات المصرية محاكم أمن الدولة طوارئ الاستثنائية في معاقبة وسجن العشرات ممن شاركوا في احتجاجات شهدتها مدينة المحلة الكبرى.
وشهدت تونس مزيدًا من عمليات التنكيل بعشرات النقابيين المشاركين في الاحتجاجات التي تنطلق من وقت لآخر، حسبما تبعث على ذلك الظروف، كما حدث في احتجاجات منطقة الحوض المنجمي، حيث تعرض المحتجون لمحاكمات جائرة انتهت إلى سجنهم، حيث تم حرمانهم من الحد الأدنى من معايير العدالة.
ورغم انتفاض الشعوب ضد سياسة تكميم الأفواه، فإن الأنظمة الجديدة في مصر وتونس وليبيا لم يرضها إلا وضع المزيد من القيود على الحق في التجمع السلمي من خلال مطاردة الأمن لهذه الأعمال، والشروع في سن قوانين مجحفة بهذا الحق، وتنظيمه على نحو يفرغه من مضمونه.


– التعذيب والقتل خارج دائرة القانون قبل وبعد الثورات

حظيت الانتهاكات المرتكبة من جانب أجهزة الأمن قبل الثورات بقدر كبير من التحصين ضد المساءلة والعقاب، وظلت الشكوى من ممارسات التعذيب قائمة. ولقد ظلت مصر على رأس قائمة البلدان التي يُمارس فيها التعذيب بشكل منهجي، ليس فقط في حق متهمين في قضايا ذات صبغة سياسية مثل قضايا الإرهاب، بل أيضًا بحق معتنقي بعض المذاهب مثل الشيعة، وبحق متهمين في مختلف القضايا الجنائية العادية، فضلا عما يجري بحق كل من تسوقه الأقدار إلى دخول أقسام الشرطة، سواء للإدلاء بأقواله، أو تقديم شكوى، أو بسبب استدعاء أحد الضباط لتأديبه، أو الضغط عليه لصالح بعض ذوي النفوذ.
وبالنظر إلى الحالة التونسية قبل الثورة ، ستجدها تدور في نفس فلك سوريا ومصر من حيث استمرار مسلسل التعذيب، والمعاملة القاسية وغير الإنسانية، وبخاصة تجاه المتهمين في قضايا الإرهاب، ويخضع المتهمون للحبس الانفرادي لعدة أسابيع، وتُمنع عنهم الزيارات، وتأخذ المحاكم التونسية بالمعلومات والأقوال المنتزعة نتيجة التعذيب.
بيد أن الثورات لم تنه هذه الممارسات إذ ظلت هناك سياسات قتل وتعذيب خارج دائرة القانون وهو أمر تكرر في تونس ثم مصر إبان أحداث قصر الاتحادية الأولى من أعمال تعذيب منهجى، واعتقال للمعارضين دون أي غطاء قانوني.

– الطريق المغلق أمام المشاركة السياسية قبل الثورات

في واقع الأمر، لم تكن هناك فرصة حقيقية، سواء في مصر، أو تونس، أو اليمن، أو حتى ليبيا قبل الثورات لإمكانية التداول السلمي للسلطة عبر الاحتكام لصناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة وشفافة، توفر فرصًا متكافئة للمتنافسين. فمثلا وعلى الرغم من توافق الحزب الحاكم في اليمن وأحزاب المعارضة على تأجيل الانتخابات البرلمانية لمدة عامين، على خلفية تهديد المعارضة بالمقاطعة، حال عدم توافر إصلاحات دستورية وقانونية، فإن ذلك لم يمنع نظام عبد الله صالح من استخدام الحلول الأمنية في إقصاء خصومه، وتأمين استقراره وبقائه في السلطة.
ومن مظاهر الإخلال بالحقوق السياسية للمواطن ما أجرته السلطات التونسية من تعديلات دستورية هدفت إلى تأبيد حكم زين العابدين بن علي، وإقصاء المنافسين المحتملين له، وحرمانهم من الترشح لتبدو الانتخابات الرئاسية، حال حدوثها، أقرب إلى الاستفتاء. فضلا عن ذلك، فقد تمت تهيئة الأجواء لكي يكون الحزب الدستوري الحاكم مستحوذًا على أغلبية المقاعد بنسبة 75% من المقاعد البرلمانية، بينما تنحصر المنافسة الفعلية على بقية المقاعد.
وفيما يتعلق بمصر، فقد احتدم فيها الجدل حول سيناريوهات محتملة لتوريث الحكم، في ظل اقتراب انتهاء الولاية الخامسة للرئيس السابق مبارك في عام 2011، وإجراء انتخابات مجلسي الشعب والشورى عام 2010، حيث اكتفت السلطات -آنذاك- بإدخال تعديلات قانونية عديمة القيمة بتخصيص 64 مقعدًا للنساء في الانتخابات البرلمانية، في الوقت الذي واصلت فيه لجنة شئون الأحزاب السياسية، التابعة للحزب الوطني، أداءها الرافض منح تراخيص لأحزاب جديدة، فضلا عن استمرار الضربات الأمنية الموجعة التي اعتاد النظام توجيهها لجماعة الإخوان المسلمين.
وعلى الرغم من أن الأنظمة القديمة حرصت على غلق منافذ المشاركة السياسية، فإن واقع ما بعد الثورات خلق أجواء لإعمال وتفعيل المشاركة السياسية الحقيقية، كما حدث في مصر، وتونس، وليبيا، واليمن باعتبارها التجارب الربيعية التي أسفرت عن مؤسسات منتخبة من الشعب ما بين رؤساء دول ومجالس نيابية منتخبة.

 – مشهد سياسي مترهل دفع إلى ثورات

لم تكن المؤشرات سالفة الذكر إلا جانبًا بسيطًا من جوانب الإخلال بحقوق الإنسان، وتعمد انتهاكها، والنيل من الحريات الأساسية اللصيقة بالإنسان، باعتباره إنسانا. فعدم تكافؤ الفرص على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية دفع بشعوب دول الربيع العربي للانتفاض ضد أنظمتها الحاكمة. واستطاعت هذه الحشود الجماهيرية أن تسقط عروشًا كاملة كما حدث في مصر، وتونس، واليمن، وليبيا، أو خلخلة عروش أخرى، بما أجبر حكامها على الاستجابة لمطالبهم كما حدث في المغرب، والبحرين.
غير أن التساؤل المهم الذي يطرح نفسه، خاصة في ضوء المؤشرات التي تناولناها آنفًا عن حالة حقوق الإنسان والانتهاكات التي وقعت عليها، في ظل أنظمة قمعية، هو: هل تغيرت النظرة إلى حقوق الإنسان كالحق في التعبير عن الرأي، والحق في الحياة، وغيرهما من الحقوق الإنسانية، في ظل أنظمة الحكم التي جاءت بعد ثورات الربيع العربي؟.
في واقع الأمر، لا بد من تأكيد ارتفاع معدل احترام حقوق الإنسان في دول الربيع العربي عما كان في الأنظمة الاستبدادية السابقة، حيث إن الأنظمة التي سقطت بفعل ثورات هذا الربيع ما كان لها أن تسقط لولا أنها تعاملت مع شعوبها بغباء سياسي غير محدود، وتجاهلت أن علاقة الحاكم بالمحكوم إنما هي علاقة عقدية تقوم على العقد الاجتماعي بين هذا وذاك. فالأول مكلف بحماية الثاني، وتوفير العيش الكريم له، وإشراكه في صناعة مستقبل بلده، والثاني هو الآخر مكلف بطاعة الأول، وإنفاذ أوامره من أجل تحقيق نهضة الدولة، وبما لا يخل بشروط العقد، والعقد هنا يتجسد في عملية الانتخاب الحر المباشر، وفق قواعد تضمن الشفافية والنزاهة.
غاية هذا التحليل أن هناك تغيرا محدودا بالفعل طرأ على ملف حقوق الإنسان داخل دول الربيع العربي، كشفت عنه الممارسة على الأرض، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بوجود عدد من الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، باتت الأنظمة الجديدة مدعوة لها بدعوى الثورات المضادة تارة، والطرف الثالث تارة أخرى، وإن كان الواقع يؤكد أن رغبة هذه الأنظمة الجديدة بعد الثورات فى التمكين هي السبب وراء تنامي الانتهاكات، رغم الحالة الثورية التى تعيشها الشعوب. وقد تعلق أغلب الانتهاكات بالحق في التعبير عن الرأي، والحق في مباشرة الحقوق السياسية، واستكمال أهداف الثورة فى مواجهة الرغبة في الاستحواذ على السلطة، وقنص مقاعدها، سواء في الرئاسة، أو في البرلمان، أو أية مؤسسة أخرى.

*مستشار فى الشئون السياسية والقانون الدولى

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى