نوافذ للحوار عمرو موسى: صارحت الأسد بغضب اللبنانيين ففوّضني بإعلان قراره الانسحاب من لبنان … قتل القذافي الليبيين فاقترحت تعليق مشاركة بلاده في كل أنشطة الجامعة… وهكذا كان (6)

حاوره غسان شربل

أمضى عمرو موسى عقوداً في دوائر الديبلوماسية المصرية بعد التحاقه بوزارة الخارجية في 1958. عمل سفيراً لبلاده لدى الهند ثم مندوباً دائماً لدى الأمم المتحدة قبل توليه وزارة الخارجية على مدى عقد، انتقل بعدها إلى موقع الأمين العام للجامعة العربية وعلى مدى عقد أيضاً. لعب موسى دوراً في احتواء الأزمة التي اندلعت في لبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وهنا نص الحلقة السادسة والأخيرة:

> أين كنت يوم اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005؟
– أنا كنت في مكتبي في جامعة الدول العربية أجهّز للسفر إلى عدن في اليمن لحضور أول انعقاد للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة العربية خارج مقرها والذي كان سيفتتحه الرئيس علي عبدالله صالح. وكنت أتابع قناة «الجزيرة» وقالت إنه وقع انفجار ضخم في بيروت وقد يكون أصيب فيه الرئيس رفيق الحريري. تنقلت بين المحطات الفضائية إلى أن وصلت إلى «العربية» وسمعت إعلان مصرع رفيق الحريري. اتصلت بمدير مكتبي وطلبت منه ترتيب سفري إلى لبنان فوراً واتصلت بوزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي وقلت له إنني لن أتمكن من الحضور بسبب ما حدث وإنني سأتوجه إلى لبنان. اتصل بي بعد قليل الرئيس علي عبدالله صالح مشدداً على ضرورة حضوري إلى اليمن فقلت له اعذرني يا سيادة الرئيس فالوضع في لبنان استثنائي وأنا أعتذر منك. سافرت في اليوم نفسه إلى بيروت وشاركت في العزاء وفي التشييع، والتقيت هناك عدداً من المسؤولين العرب ومنهم عبدالحليم خدام (نائب الرئيس السوري آنذاك) وبالنظر إلى الوضع الأمني المتفاقم في بيروت في هذا الوقت وضعني الصديق العزيز الرئيس نبيه بري تحت رعايته الأمنية. وتوجهت بعد العزاء في منزل الحريري إلى سورية حيث استقبلني الرئيس بشّار وكان الحديث صريحاً جداً، وما قيل عن أن بشّار كان كثير الكلام قليل العمل ليس بالضرورة صحيحاً في كل الحالات. قلت له يا سيادة الرئيس إنني جئت من لبنان والمشاعر هائجة مائجة بعد ما حدث، وإن ما حدث لرفيق الحريري لن يمر بسهولة، وإن موضوع الوجود السوري أصبح الآن مطروحاً بقوة وهناك مطالبة كبيرة جداً بانسحاب القوات السورية، وأنا أنقل إليك هذا الكلام وأرى اتهاماً واضحاً لسورية بمقتل الحريري وإن الوقت مناسب لتغيير السياسة السورية إزاء ذلك. قال لي أنا أول رئيس سوري يسحب قوات من لبنان فقد كان هناك أكثر من 60 ألف عسكري عند وصولي إلى الحكم، خفضت العدد إلى 35 ألف عسكري الآن، ومستعد أن أسحب وسأسحب قوات إضافية ولا مانع لدي أن أسحب جميع القوات لأن العلاقة السورية مع لبنان لا تعتمد على الوجود العسكري بمقدار ما تعتمد على أصول تاريخية… إلخ. فأنا لا أخشى على النفوذ السوري ولا على العلاقات اللبنانية – السورية من مجرد تحريك الجيش أو انسحابه. فسألته هل أستطيع أن أعلن أنك قررت سحب الجيش السوري من لبنان؟ فقال نعم، تستطيع إعلان ذلك فأنا قلت لك إنني سأسحب الجيش. خرجت وأعلنت أن الرئيس بشار الأسد فعلاً قرر سحب القوات السورية وأنه سيبدأ بهذا قريباً، وأظنني قلت إن ذلك سيتم في إطار وقت محدد. حضر لقائي مع الرئيس الأخ فاروق الشرع. وتناولت الغداء معه وكلما كنت أثير الموضوع لم يكن الشرع يتمادى في الحديث عن سحب القوات. كان يريد تجاهل هذا الموضوع. غادرت سورية براً إلى بيروت وعدت بالطائرة إلى القاهرة ووصلتها مساء. فتحت الراديو في السيارة وسمعت على الـ «بي بي سي»: كذَّب مسؤولون سوريون ما ذكره الأمين العام لجامعة الدول العربية عن أن الرئيس بشار الأسد تحدث إليه عن سحب القوات من لبنان. استشطت غضباً واتصلت فوراً بفاروق الشرع فسألني: ماذا تريدنا أن نفعل؟ قلت أريد تكذيباً لهذا البيان لأن ما تلقيته وأنت استمعت شخصياً إليه كان تأكيد الرئيس بشار بدء سحب القوات وعلى الطريق نحو سحبها نهائياً. قال حسناً سأعرض الموضوع على الرئيس. وبعد دقائق حدثني وزير الإعلام السوري وقال إن لديه تعليمات بأن يعود إلي لأذكر له ما أريد إذاعته وسيذيعون ما أريد. وكان واضحاً أن الرئيس أمر بإصدار تصحيح يؤكد أن الرئيس قال هذا الكلام للأمين العام، وهذا شيء مهم يدل على الصدقية، في حين أن المساعدين أو الإدارة السورية حاولت أن تضع غطاء على عملية انسحاب القوات السورية، وربما كانت ضد هذا الانسحاب، إنما الرئيس كان في صفي، وبدأ فعلاً بتخفيض القوات ولم يتراجع عما قاله في هذه المسألة.
الحقيقة أن حافظ الأسد كان يعتبر أن سورية صاحبة حق في النفوذ الأول في لبنان ويستند في ذلك إلى ما يعتبره معطيات تاريخية وجغرافية. بشار الأسد كان لديه الشعور نفسه طبعاً مع الالتفات إلى اختلاف الأشخاص والمراحل.

> عندما علمت باغتيال الحريري أين ذهب تفكيرك؟
– كان هناك اتجاهان أو افتراضان، إما ميليشيات دينية لبنانية قريبة من «حزب الله» لها بعد سوري أو القوات السورية نفسها، أي إما أنه كان موضوعاً لبنانياً بالكامل مع علم سورية وإما لبنانياً – سورياً والافتراضان لهما احتمالاتهما. لكنها كانت طبعاً جريمة ضخمة فظيعة.

> هل كان رفيق الحريري يشكو أمامك من اليد السورية في السياسة اللبنانية؟
– لم يكن يشكو منها وإنما كان يشير إليها، وهو كان يشعر بأنه قادر على التعامل معها، إنما يبدو أن السوريين كانوا أحياناً يهينونه في مستويات اللقاءات أو الرسائل وكان ذلك يضايقه كثيراً لأن يديه كانتا مكبلتين في الرد ولأنه يعرف أن الثمن سيكون غالياً ويبدو أنه دفع الثمن. الحقيقة أن رفيق الحريري كان مستقلاً برأيه إلى حد كبير ويفهم كيف تسير أمور الدنيا وليس فقط كيف تسير أمور لبنان وسورية، كان لديه فهم للعلاقات الدولية والعربية. وعندما أصبحت أميناً عاماً للجامعة العربية شكا لي بالذات من ضعف اليد المصرية التي كان يمكن أن توازن أموراً كثيرة.

> هل تحدث إليك رفيق الحريري بخصوص القرار 1559 المتعلق بلبنان؟
– لا أذكر ذلك ولكنه كان يطلب رأيي أحياناً في كيفية التعامل مع الأمم المتحدة.

> بعد اغتيال الحريري خضت مفاوضات مع الرئيس الأسد؟
– نعم، كنا نحاول لمَّ الموضوع اللبناني، بعد السيطرة البالغة التي بدت لـ «حزب الله» والضعف البالغ للأطراف الأخرى والمناورات وما أصاب الدولة، كان لا بد للجامعة العربية في غياب مصر من التدخل لعمل شيء من التوازن في هذا الأمر. وكنت أتنقل كثيراً بين لبنان وسورية في ما يتعلق بالمفاوضات بين الأطراف اللبنانية المختلفة وفي ما يتعلق بموقف سورية مما يجري. وعقدت لقاءات كثيرة على مدى أكثر من سنتين مع الرئيس بشار بهذا الخصوص، وكنت خلالها في غاية النشاط داخل لبنان وكنت ألتقي كثيراً الأطراف السورية وأطرافاً من «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله حتى انتهت تلك المرحلة باتفاق الدوحة الذي تم التوصل إليه بتأثير كبير من قطر وبنشاط واضح للآليات القطرية في لبنان وبذكاء سياسي يذكر للشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء القطري وبدور مباشر وحاسم للأمير حمد بن خليفة، ولا شك في أن الأعمال التحضيرية الضخمة التي قامت بها الجامعة العربية وآلياتها ساعدت كثيراً في التوصل إلى اتفاق الدوحة.

> كيف كان يتم اللقاء مع السيد حسن نصرالله؟
– كانت الإجراءات معقدة. عليك أن تستقل أكثر من سيارة مسدلة الستائر إلى أن تصل إليه، إضافة إلى إجراءات أخرى. ثم خفِّضت الإجراءات الأمنية في لقاءاتنا اللاحقة بعد أن أبديت ضيقي فقيل لي إن السيد حسن أمر بتسهيل الإجراءات وأختصارها ليسهل علينا اللقاء. وكانت لقاءاتنا إيجابية للحقيقة إذ كان من المفيد معرفة وجهة نظره نظراً إلى الدور الذي يلعبه شخصياً ويلعبه حزبه. بذلنا جهوداً بمشاركة الرئيس نبيه بري، وهو صديقي ولاعب من اللاعبين المهمين وهو شخصية لطيفة تربطني به صداقة جيدة. أبلغت بري نيتي في ترتيب لقاء بين العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري فسألني أين تريد عقد الاجتماع فقلت له في مبنى مجلس النواب فرحب بالفكرة، حيث جمع اللقاء سعد الحريري وميشال عون بحضوري. لقاؤهما كان على الطريقة اللبنانية في اللقاءات الاجتماعية المجامِلة ولكن عند التطرق إلى الأمور الجوهرية لم نصل إلى نتيجة وحاولنا كثيراً ولكن اللقاء بحد ذاته كان اختراقاً.

> هل كان العماد ميشال عون متعباً في التفاوض معه؟
– العماد عون شخصية من نوع خاص. سعد الحريري شاب صاعد يشق طريقه والعماد عون من جيل آخر ولديه تاريخ طويل في الملف اللبناني وصراعاته وفي مثل هذه الظروف لا بد أن تتوقع أن تتجمع حساسيات وأن تترجم مرونة أيٍّ من الطرفين بمثابة ضعف. كان الهدف أن يتم اللقاء أولاً وأن تشق كلمة مفاوضات طريقها مجدداً إلى العمل السياسي وبعد ذلك نرى ما سيكون في صلب المفاوضات. كانت الصعوبات متوقعة فالمشاكل المتراكمة لا تحل بلمسة سحرية.

> كيف وجدت سعد الحريري في تلك المرحلة؟
– سعد شخصية ذكية ويفهم أبعاد دوره ومسؤوليته في الإطار اللبناني ولا يتردد في إبداء مرونة ويظهر ثقة بشعبيته. لديه عدد من المستشارين الجيدين. لم يقاوم رغبتي في أن يجلس مع عون. عون لم يقاوم لكنه طرح بعض الأسئلة وكان هناك نوع من التلاطف المتبادل بيني وبين العماد عون وتحدثنا بصراحة. عون وضع بعض الشروط المقبولة وقلت له إن الاجتماع سيعقد في مجلس النواب وكان هذا أحد الاختراقات التي كانت لا تزال في بداياتها. نقاشاتي مع نبيه بري كانت مناقشات مطولة لا نهاية لها في هذا الموضوع وكان لديه كلام مختلف وقال إن المشكلة «س – س» أي أن الحل بتفاهم سوري – سعودي وإلا فلا حل مهما فعلنا.
كان هناك دور كبير لا يُنسى للرئيس فؤاد السنيورة لأنه على الأقل حفظ الكيان الإداري للدولة ولم يتأثر كثيراً بالأشخاص الذين كانوا يهتفون ضده ويشتمونه في الميدان خارج مبنى رئاسة الوزراء، وأنا شخصياً أرى أن ذلك يُسجَّل للسنيورة بكل أمانة لأنه حافظ بقدر الإمكان على الدولة في تلك الظروف الصعبة، وكرئيس للوزراء لديه التزامات وعليه السفر واستقبال الشخصيات الدولية وتمثيل لبنان بالخارج. مارس دوره بهدوء لافت للأعصاب. السنيورة وبري والحريري وعون ووليد جنبلاط جميعهم قاموا بدور، وكذلك التقيت سمير جعجع وتحدثت إليه وزرت الرئيس أمين الجميل وقائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي أصبح رئيساً للبنان.
والحقيقة أنني استفدت كثيراً ودائماً من جهود وسيط جيد جداً هو النائب ميشال المر الذي ساعد في شرح المواقف وأعطى تقديرات وتقويمات لموقف كل طرف من الأطراف ونصح بكيفية برمجة اللقاءات، لقاء مَنْ قبل مَنْ، وأنا أقدر جداً الدور الذي قام به. كان رجلاً صريحاً وأميناً وكان ينسق معي كثيراً وزارني في القاهرة قبل إحدى زياراتي لبنان لتقويم الأوضاع معاً، الحقيقة أنه كان سياسياً محترفاً نجيباً وأحتفظ له بالكثير من الود للمساعدة التي قدمها.

> هل نسقت مشاوراتك في لبنان مع قطر؟
– كنت أعمل باسم جامعة الدول العربية. قطر كانت على الدوام نشطة في فترة تداخلت مع فترة نشاط الجامعة، وكان هناك نقطة باقية بعد مشاوراتي لا يمكن عبورها إلا بوجود دولة مع الجامعة العربية قادرة على تسهيل الأمور، وقد حدث وتوجهنا إلى الدوحة حيث وقعنا مع الزعماء اللبنانيين وأمير قطر وأمين عام جامعة الدول العربية على وثيقة الاتفاق. نعم، لعبت قطر دوراً محورياً في إنجاز الاتفاق.

> كيف كانت علاقتك بالرئيس علي عبدالله صالح؟
– هو من أظرف الشخصيات التي التقيتها يتمتع بالذكاء اليمني «والطرافة» ولديه اندفاع، ونكاته مميزة في القمم العربية، إذ كان يستمع لخطابات كل زعيم ويزايد عليه، في مهاجمة أميركا مثلاً وإذا اقترح أحد قوة سلام عربية اقترح هو إنشاء جيش عربي، ومن أظرف اللقطات وفي إحدى القمم المصغرة في سرت (ليبيا) اقترح علي صالح إنشاء جيش عربي فقال له القذافي يا سيدى كفاية قوات حفظ سلام… ومن حسن حظ صالح أن وزير خارجيته كان أبو بكر القربي وهو ذكي جداً، (وراسي) وهادئ ويتمتع بالحكمة اليمنية واتساع الأفق. صالح كان شخصية كاريزماتية بامتياز (…).
كما تظهر شخصية علي عبدالله صالح في ما فعله أخيراً وكيف لفّ الأمور، فمبارك في السجن وبن علي في المنفى والأسد محاصر والقذافي قُتل، وهو خرج بحل وسط إذ غادر الحكم وبقي في البلد، وابنه ما زال في منصبه الرسمي قائداً للحرس الجمهوري، وكل شيء ما زال على حاله، وهو خرج بناء على رغبة الشعب وانتهى الأمر فلم يعد رئيساً لكنه يعيش حياته.
لو اقتدى بشّار الأسد بعلي عبدالله صالح في بداية الأزمة السورية لكان أنقذ البلد، أي لو توصل إلى تسوية مقبولة، أما الآن فالوقت أصبح متأخراً.

> عند دخولك إلى خيمة القذافي ما كان الشعور الذي يراودك؟
– أصبح الأمر طبيعياً وتعودنا كما كل الناس ألا نقابل العقيد إلا في خيمته.

> ماذا كان شعورك عند مقتل القذافي؟
– بعد سنوات طويلة من التعامل مع شخص لا تستطيع أن تقاوم ما ينتج من بعض العلاقات التي يمكن تسميتها إنسانية، ثم عندما ترى أحداً نزل من أعلى عليين إلى أسفل سافلين وانتهى من العرش إلى أنبوب تشعر بشفقة مؤكدة. كان القذافي ذكياً طريفاً فريد عصره ونسيجاً منفرداً… لقد أحببت طرائفه وتمتعت بلقاءات معه لغرائب منطقه وعجيب تفكيره ولكنني كنت أول من دعا إلى عقاب نظامه بعد أن قذف أهل بنغازي بالقنابل والصواريخ، لقد أحرق القذافي جميع مراكبه مع كل الناس ولم يكن ليستطيع أن يذهب إلى أي مكان ليلجأ إليه لأن أحداً لم يكن يريده، خصوصاً بعد طريقة تعامله مع الثوار الليبيين. ومن أواخر الأمور التي قمت بها قبل مغادرتي الجامعة العربية أنه لا يمكن ولا يصح للجامعة العربية أن تبقى ساكتة عن مجزرة تجري في بلد عضو في الجامعة، وإذا كانت هناك تظاهرات واحتجاجات فتُقصف بالطائرات فإن تلك مسألة غير مقبولة ولا بد أن تقف الجامعة موقفاً واضحاً من هذا. على رغم العلاقة الإنسانية، إلا أنني في الحقيقة كنت في حال غضب شديد جداً عندما سمعت وشاهدت الطائرات والصواريخ تستهدف وتقتل ألوف الناس. طلبت اجتماع مجلس الجامعة فوراً وقدمت كأمين عام للمرة الأولى في تاريخ الجامعة اقتراحاً سياسياً إزاء الوضع الخطير وقلت لا بد من معاقبة النظام الليبي وأنا أقترح تعليق مشاركته في كل أنشطة الجامعة عقاباً على خرق خطير لحقوق الإنسان، وكان هذا فتحاً جديداً بل تطويراً جذرياً في نظام الجامعة. كانت هناك سابقة مع مصر لسبب سياسي أيام كامب ديفيد، والعراق بعد الغزو (ولكنا أعدنا العراق بسرعة) إنما مع ليبيا كان الأمر بسبب سوء معاملة المواطنين وكانت تلك نقلة نوعية كبيرة جداً في عمل الجامعة العربية كما قلت، فالمسألة لم تكن سياسية أو لمواقف دول تختلف أو تتعارك، إنما لموضوع يتعلق بحقوق الإنسان ودعماً للثورات التي سميت بالربيع العربي.

> ماذا كان شعورك عند إعدام صدّام حسين؟
– لم يعجبنا مطلقاً إعدامه يوم عيد الأضحى، ولا سوء معاملته – على ما قرأنا – قبل إعدامه، ولكن من الواضح أن مَنْ قَتَل يُقتل ولو بعد حين، وهذا ينطبق على القذافي وعلى صدّام وعلى أمثالهما، فحياة الناس لم تكن مهمة بالنسبة إليهما وكان من الممكن قتل العشرات والمئات وربما أكثر في أي وقت لإرساء النظام. فمن قَتل في هذا الشكل لا بد أن تكون نهايته أن يُقتَل أيضاً.

> هل تحمل جرحاً شخصياً لأنك خضت انتخابات الرئاسة ولم توفق؟
– للأمانة أنا لا أشعر بأي جرح شخصي لأني مؤمن أساساً بأن هناك عملية ديموقراطية نريد إنجاحها في مصر، وأدركت مبكراً في الحملة الانتخابية مع استمراري فيها أن أمامي تحدياً صعباً، بسبب تنظيم «الإخوان المسلمين» وأموالهم الهائلة وتنظيم الدولة المصرية ونفوذها الهائل في القرى والمراكز والمحافظات ودور الحزب الوطني القديم الذي له نوابه وشيوخه، وأن التنظيمين سيقومان بدور متوازٍ وأنني سأحاصر بينهما. وكان التنظيمان في البداية يقدّران أنني منافس لكل منهما فجاءني الهجوم من الجهتين وبالذات من ناحية الأحزاب السياسية التابعة لـ «الإخوان المسلمين». وحصلت حملات شخصية وتشويهية لكن الكم الهائل من الأموال الذي توافر للطرفين يتجاوز بكثير ما كنت أستطيع أنا تقديمه وأدركت ذلك. وبالتالي المنافسة لم تكن شخصية بين مرشح وآخر ومَنْ هو أصلَح بمقدار ما كانت منافسة بين كيانات كبيرة، ولذلك أنا قلت إن هذه المنافسة يجب أن لا تؤدي إلى أي غضب شعبي، بالعكس يجب أن نحيي الديموقراطية ونقبل أفضل ما فيها، فقد أصبح لدينا مرشحان يتنافسان فلنرَ نتيجة التصويت. وموقفي قوبل قبولاً حسناً من كل الناس إذ شعروا بأن هناك صوتاً يطالب باستمرار العملية الانتخابية وحماية الديموقراطية ولا يُظهر أي مرارة لأنه خسر، فهناك مرشحون آخرون أظهروا مثل تلك المرارة بطريقة أغضبت كثيرين.
أنا وجدت التجربة مفيدة لي شخصياً كون التصويت تم لمصلحتي بصفة شخصية بصرف النظر، بل على رغم، الضغوط والأموال، ونلت ثقة أقل قليلاً من ثلاثة ملايين نسمة لوجه الله من دون دفع أي مليم واعتبرت ذلك قوة كبيرة جداً.

> كنت على مدى عشرين عاماً في قلب الأضواء، مؤتمرات صحافية وزيارات وميكروفونات وعلاقات واسعة بالإعلام، هل من الصعب انطفاء الأضواء عند انتهاء الدور الرسمي؟
– هذا شيء سيحصل بالضرورة فهذه طبيعة الأمور، ولا بد أن أتقبل ذلك لأنني أنا الذي قررت أن أغادر وكان أمامي أكثر من رجاء وإصرار من كل الدول العربية بما فيها مصر مبارك ومصر الثورة للبقاء في الجامعة العربية لكن، أنا لم أعد أريد البقاء في الجامعة. وأعلنت قبل ذلك أنني كنت سفيراً لمدة عشر سنوات ووزيراً للخارجية لمدة عشر سنوات وأميناً عاماً لجامعة الدول العربية لمدة عشر سنوات ومن المهم أن يعرف الشخص متى يغادر. أنا غادرت وأنا في أوج عطائي وضميري مرتاح.

> ألا تشعر بمرارة كونك عدت مواطناً عادياً وغيرك على الشاشات؟
– أبداً، وهذا شيء غريب، حتى أنا مندهش من حالتي المستريحة وأشعر بالسعادة، لأنني أقوم بدوري السياسي في مصر وألتقي كثيرين وأنا أسعد بموقعي كمواطن مصري عادي.

> مَنْ الشخصية التي أعجبتَ بها يافعاً؟
– أنا أعجبت في صباي بمصطفى النحاس وبعد ذلك أعجبت بجمال عبدالناصر وبعد ذلك أصبحت قريباً من مراكز السلطة والناس ووجدت مَنْ يقلل من دور الرئيس السادات على رغم أنه كان شخصية فريدة بذاتها، التقيت به كشاب صغير في الديبلوماسية المصرية ولكنني لم أعرفه عن قرب. لكنني آمنت بزعامتين مصريتين هما مصطفى النحاس وجمال عبدالناصر.

> مَنْ الكاتب الذي يحظى بإعجابك وهل تقرأ الشعر؟
– طبعاً، أقرأ الشعر وأقرأ لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وتعلمنا في المدرسة شعر أبو فراس الحمداني. وأعتبر المتنبي الشاعر الأول في تاريخ العرب بشعره الجميل الفخم المتماسك، وشوقي بشعره الأنيق الجميل العميق وحافظ إبراهيم كشاعر مصري وطني عظيم، وهناك شعراء آخرون أيضاً مثل علي محمود طه وأحمد فتحي كتبوا أغاني لا يزال الناس يذكرونها مثل «الكرنك» التي غناها محمد عبدالوهاب.

> في الغناء مَنْ يطربك؟
– عبدالوهاب، وما زلت أسمع أغانيه التي تطربني خصوصاً أغانيه القديمة التي وفِّق فيها توفيقاً كبيراً مثل «يا جارة الوادي» و «عندما يأتي المساء» و «الهوى والشباب» و «الصبا والجمال»، التي كتبها له الشيخ بشارة الخوري، لحنها بديع أيضاً، وهذا ما دفعنا جميعاً لترديدها في مصر ولبنان وسورية والعالم العربي والمغرب العربي لأنها أغاني جملية معنى ومبنى ولحناً… هذه كانت القوة اللينة لمصر.

> هل لديك ممثل مفضل في السينما المصرية القديمة؟
– أنا أحب الممثلين الطريفين مثل نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وستيفان رُستي وعبدالسلام النابلسي وحسن فايق وعبدالفتاح القصري وماري منيب، وكانوا شخصيات ظريفة جسَّدت غرابة بعض المخلوقات. وكان المصري والعربي عموماً يرى نفسه فيهم وكانوا يظهرون السلوك بطريقة مضحكة لنتجنبه. ويحضرني أحد الأصدقاء اللبنانيين سمير مبارك، وكان سفير لبنان لدى الأمم المتحدة وفي إسبانيا، الذي كان يخبرني كم كانوا يسعون وراء الأفلام المصرية تلك ويغادرون صالات السينما مسرورين يغنون أغانيهم ويرددون نكاتهم. وأظن أن شمعون بيريز، إن لم يكن أحد المسؤولين الإسرائيليين الآخرين، كان أخبرني أن زوجته أو والدته كانت تخصص بعد ظهر يوم الجمعة لمتابعة الفيلم العربي المصري الذي يبثه التفلزيون الإسرائيلي أو تتابع التلفزيون المصري عندما يبث في وقت معين الأفلام المصرية القديمة، وأن سيدات كثيرات من الجيل القديم من الإسرائيليات المهاجرات في العالم العربي ينتظرن تلك الأفلام ويتفاعلن معها، ما يظهر تأثير هذه الثقافة المصرية التي للأسف لم تعد موجودة لأن أولئك الأشخاص لم يعودوا موجودين. فلم يعد هناك رجل كبير محترم ووقور يضحكنا ولم تعد هناك القصص من مستوى «دعاء الحق» لطه حسين وقصص نجيب محفوظ. للأسف لم يعد هناك هذا الطرح الثقافي إلا نادراً، لنقل رواية قوية متينة تعالج أمراض المجتمع وتتابع آفات المجتمع أو تكشف المجتمع أمام نفسه لعرضها في فيلم ممتع.

> هل تخاف على المدينة التي أنجبت طه حسين ونجيب محفوظ؟
– طبعاً، أخشى جداً على الثقافة المصرية أن تتلاشى، الثقافة والأدب والشعر والفن والموسيقى والطرب هذا أمور شكَّلت العالم العربي، وليس خبرة هذا الزعيم أو ذلك، المساهمة كانت أغنية لأم كلثوم أو فيلم ليوسف وهبي أو شعر لشوقي أو البارودي أو غيرهم أو لحن لعبدالوهاب.

> هل تخاف أن تتغير مصر؟
– طبعاً، أخشى جداً من أن تتغير مصر في غياب الـsoft power والوعي والقرار الحاسم. يجب أن يُعاد النظر في أولويات السياسية المصرية وأن نضع التعليم والبحث العلمي أولاً قبل أي شيء آخر، لأن هناك أشياء كثيرة ضاعت من الناس أضاعها سوء إدارة الحكم.

 

صحيفة الحياة اللندنية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى