هبة ساخنة تحيي الحرب الباردة (تاج الدين عبد الحق)

 

تاج الدين عبد الحق

سقى الله على أيام الحرب الباردة. كانت القراءة السياسية أسهل، والتصنيف أيسر. يسار ويمين، أو شرق وغرب بغض النظر عن التاريخ والجغرافيا.

حتى الحياد كان قابلا للتصنيف ، والفرز ، فهناك ضمن المجموعة التي إختارت عدم الانحياز ، من كان حياده أقرب لليمين ، وهناك من كان محايدا، وعينه على اليسار .

زمان ، قبل انهيار الشيوعية ، كانت الأيدولوجيا من أوضح معايير التصنيف، حتى لو أخفت وراءها المصالح . واليوم أصبحت حسابات المصالح هي الأولى بالرعاية والأكثر أهمية، حتى لو توارت خلف الأيدولوجيا.

في الماضي لم تكن هناك حاجة لخبراء ومحللين لرسم خريطة التحالفات وتشكيل لوحة المصالح ، أما اليوم حيث يختلط الحابل بالنابل ، فلا نكاد نحلل طلاسم أزمة حتى نفاجأ بأزمة أخرى أشد غموضا، وأكثر تعقيدا من سابقاتها ..

اوكرانيا وسوريا من إرث الحرب الباردة . ظنتا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أنهما خرجتا من الجلباب الروسي ،فاتجهت اوكرانيا إلى الغرب لتعويض السنوات العجاف التي عاشتها في ظل العلم الأحمر ، ولحقتها سوريا عندما قدمت أوراق اعتمادها للأطلسي، كشريكة في حربه على العراق .

لم تفطن اوكرانيا أن خلاصها من الارث السوفياتي ، لن يخلصها من التشوهات القومية التي ورثتها من الحقبة السوفياتية ، والتي تهددها بالتقسيم كلما حاولت التبرؤ من تاريخها الشيوعي ، أو حاولت الخروج عن الطاعة الروسية

سوريا بدورها لم تفطن أن ما هو مطلوب منها للحصول على الرضى الغربي يتجاوز تلك المشاركة الرمزية لها في حرب الخليج ، فحاولت، بالتقرب والتزلف تارة ، و بالابتزاز تارة أخرى ، انتزاع دور لها في المنطقة ،يعادل الحظوة التي نالها منافسوها في الاقليم، أو يعطيها شيئا من الندية في التفاوض مع النادي الغربي .

لم تثمر المحاولة السورية ، فخرجت من مولد حرب الخليج الأولى بلا حمص ، لتحاول انتزاع دور لها في حرب الخليج الثانية من خلال التخلي عن التحالفات الطارئة التي نسجتها بعد تحرير الكويت والعودة لتحالفاتها القديمة التي ربطتها بايران . وبهذه العودة عادت لتقف في الضفة الأخرى تحت عنوان ممانعة لم تحميها، من رياح الربيع العربي، فبات النظام مهددا والكيان مقسما .

بين اوكرانيا وسوريا قواسم مشتركة لكنها قد لا تؤدي لحلول متماثلة . فروسيا مستعدة للوصول إلى تسويات بشأن مصالحها في سوريا لكنها مستعدة للدخول في حرب من أجل مصالحها في اوكرانيا . في أوكرانيا تبدو المعركة محسومة عسكريا حتى وإن نشطت الدبلوماسية ، أما في سوريا فالحسم الممكن فيها حسم سياسي حتى لو طالت المعركة العسكرية .

ليس صدفة أن يقارن الجميع بين الوضع السوري والوضع الأوكراني. ذلك أن الوصول إلى حلول مرضية للازمة في اوكرانيا قد يمهد لدفع الجهود من أجل تسوية في سوريا ، أما إذا أخذت الازمة في القرم طابع المواجهة بين الشرق بكل ما يحمله من رغبة في استعادة دوره ومكانته ، وبين الغرب الذي يتطلع لحسم صراعه التاريخي مع الدب الروسي ، فإن فرص الحل في سوريا ستبتعد أكثر فأكثر ، حيث سيكون حسم الصراع فيها أعقد من أن تحسمه الحسابات الاقليمية والتوازنات الداخلية ، ذلك أن الصراع حول القرم سيدخل المنطقة من جديد في اتون الصراعات الدولية التي قد يتطلب حسمها سنوات من المساومة السياسية بين قوى تتجه مرة أخرى إلى نوع من التعددية القطبية وشكل آخر من أشكال الحرب الباردة .

من يظن أن الأزمة في اوكرانيا ستصرف نظر الروس عما يحدث في سوريا يكون واهما ، فموسكو التي تجد في التدخل الغربي في اوكرانيا تجاوزا للخطوط الروسية الحمراء ، ترى في سوريا فرصة سانحة للرد على التحدي الغربي حتى لو كلفها ذلك مزيدا من الانغماس في ازمة كل ما فيها يشي بالخطر ويهدد بانفجارات تتجاوز حدود الاقليم . ما نراه اليوم قد يكون بداية حرب باردة جديدة، تتخللها هبات إقليمية ساخنة يغذيها الكبار ويدفع ثمنها الصغار .

موقع إرم الإخباري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى