هل تحقّق تركيا أطماعها التاريخية

أن يُطلق على عملية اجتياح عسكري دام لدولة ذات سيادة إسم “غصن الزيتون” لا يُعيدنا إلاّ إلى عبد الرحمن الكواكبي مُطلاً من حلب على الحدود الشمالية لسوريا، ليكتب من جديد عن “المفاهيم المقلوبة” ، تماماً كما كتب عنها مقاوماً الاستعمار العثماني قبل الحرب العالمية الثانية. يومها لوحّت تركيا لفرنسا باحتمال إحياء التحالف الألماني –العثماني ، فوافقت وريثة الرجل المريض في سلخ لواء الإسكندرون عن سوريا الأم وإلحاقه بتركيا. من دون أن يمنع ذلك أنقرة، بعد اندلاع الحرب، من الرقص على الإيقاع النازي مستغلّة حاجة هملر إلى طرقات آمنة للوصول إلى مناطق الانتداب الفرنسي في سوريا خصوصاً عندما سيطرت قوات “فيشي” الفرنسية الموالية لألمانيا على سوريا ولبنان.

اليوم تعود تركيا العثمانية الجديدة إلى الإمساك بالعصا من الوسط؟ إلى اللعب على الحبلين في الملف السوري. ولكن بين الروس والأميركيين هذه المرة، والهدف هو نفسه، حلم العثمنة سواء حمله علمانيون أم إسلاميون. حلم لم تبدأ محاولة تحقيقه من الحرب على الأكراد في عفرين أو ما قبلها من مناطق شمالي سوريا، وإنما بدأ من التورّط الأصلي في المؤامرة على سوريا سواء عبر تشكيل المجموعات الإرهابية المُدمّرة أو عبر تمرير التمويل والتسليح لها، أو عبر تهريب النفط الذي سيطرت عليه هذه الجماعات بما فيها داعش، وأخيراً عبر أمر لا يقلّ خطورة هو استجلاب الأعداد الضخمة من اللاجئين إما بالإغراء وإما بالإرهاب وإما بهما معاً. الأخطر هو ما يتكشّف ساعة بساعة عن تواطؤ تركي – روسي – أميركي في العملية العسكرية التي تحمل بوقاحة غير عادية إسم “غصن الزيتون”.

قبل أسبوع أعاد أحد الزملاء نشر وثيقتين خطيرتين من الوثائق الألمانية لعام 1941 وردتا في كتاب صادر عام 2006 عن دار الورّاق في لندن بعنوان: “العالم العربي في وثائق سرّية ألمانية 1937 ـ 1941″، ترجمة رزق الله بطرس.

الوثيقتان تثبتان محاولات تركيا الدؤوبة لإقامة موطئ قدم لها في الشمال السوري بالتفاهم مع النازيين.

حيث جاء في تقرير وضعته الإدارة السياسية في وزارة الخارجية الألمانية في برلين بتاريخ 7 آذار 1941: “لقد تحدّث السفير فون بابن مراراً مؤيّداً إجراء مناقشات مع الأتراك حول القضايا العربية. ومن أجل الأهداف العملية هذه يعني أنه ـ من بين أشياء أخرى ـ يمكن إعطاء الوعد لتركيا بقسم من سوريا بشروط معينة”.

وفي تقرير أعدّه السفير الألماني في أنقرة بتاريخ 4 تموز 1941: “… وبالإضافة إلى ذلك ناقشني السيّد سراج أوغلو (وزير الخارجية التركي) بوضوح كبير كيف يكون من الممكن تلبية المطالب التركية المعروفة لدينا (جعل سكة حديد بغداد آمنة) من دون إيذاء المصالح الفرنسية. وذكر أن الفرنسيين إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بمركزهم في سوريا، كما كان متوقّعاً، فقد يجدون من الملائم أن يجعلوا الأتراك أوصياء على سوريا. وفي مثل هذه الحال ستكون تركيا مستعّدة فوراً لاحتلال سوريا، وأن تؤمّن للجيش الفرنسي خروجاً مشرّفاً، وبعد نهاية الحرب أن تعيد سوريا إلى فرنسا، ما عدا الجزء الشمالي”.

ثم أرسل السفير الألماني تقريراً آخر بتاريخ 9 تموز 1941 قال فيه: “… وطلب (وزير خارجية تركيا) دراسة ما إذا كانت ألمانيا قد لا تعطي الموافقة على الاحتلال التركي لشمال سوريا (تقريباً حتى خط أنابيب بوكمال ـ طرابلس) طبعاً كحل مؤقت حتى إقرار السلام”.

فهل هو التاريخ يُعيد نفسه باستبدال فرنسا وألمانيا بأميركا وروسيا؟ وهل ستعيد تركيا ما تحتله ما عدا الجزء الشمالي، كما ورد في الوثيقة؟ أم أن الأمر سيختصر بحيث يقتصر على احتلال الجزء الشمالي طالما أن المضيّ أبعد من ذلك غير ممكن؟

المسرحيات التراجيكوميدية التي شهدناها منذ بدء التحضيرات لعملية عفرين سواء على الصعيد الروسي أو الأميركي أو الأوروبي المُتأمرك تثير الكثير من الشك والتخوّف. فمن لافروف يتّهم الأكراد بالانفصاليين إلى الإدارة الأميركية، يلتقي وزير خارجيتها مع وزير الخارجية التركي في إطار عملية مشتركة للضغط على سوريا وتركيا في مؤتمر باريس حول الأسلحة الكيماوية، ومن ثم يأتي وفد رفيع المستوى إلى أنقرة للاجتماع بالمشرفين على العملية العسكرية، وصولاً إلى مكالمات هاتفية بين ترامب وأردوغان وتصريح باهت من ماتيس وزير الدفاع الأميركي لا يتجاوز رفع العتب.

مؤتمر باريس يأخذنا إلى فصل آخر بطله الرئيس الذي تدرّب على اللعب المسرحي وهو طالب صغير على يد مَن أصبحت زوجته. إيمانويل ماكرون، يوماً يقرّ ببقاء الأسد ويوماً يعود إلى التصعيد طالما لم يأخذ حصّته في إعادة الإعمار وحصة توتال في الطاقة، ويمضي برعاية أميركية إلى إحياء فزّاعة الأسلحة الكيماوية مهدداً سوريا وروسيا معاً. عبر مجموعة كان قد وعد بتشكيلها مع الأميركي خلفاً لجماعة “أصدقاء سوريا” المرحومة. فيما تسعفه نيكي هايلي من هنا وريكس تيريلسون من هناك. والكل يتطلّع إلى إرغام سوريا على الالتفات غرباً بعد أن صرّح رئيسها بأنها تريد الالتفات فقط إلى الشرق.

بهذا نفهم كل هؤلاء خاصة إذا ما أضفنا إسرائيل ولوبيهاتها المنتشرة في دولهم إلى دوائر صنع القرار والتوجّهات لديهم.

ولكننا لا نفهم روسيا وإيران، كيف تسكتان على عملية الشمال السوري؟ وكيف تثقان بحليف كأردوغان؟ وكيف تتجاهلان أطماعه التاريخية في سوريا؟ وقدرته على نقل البندقية إلى الكتف الأميركية بعد أن ينفّذ مشروعه؟

الطرف الثاني الذي لا يفهم عناده هو الأكراد. هؤلاء لم يستمعوا إلى العرض الروسي – السوري بتجنيب عفرين المعركة الدامية وتجنيب سوريا بالتالي معاناة دحر الاحتلال التركي. هم مسكونون بما زرعه في رؤوسهم برنار هنري ليفي وريث دانيال ميتران، وصديق إسرائيل التي لم تنفع الصلاة على علمها أمثالهم في شمالي العراق. وبالتالي لن ينفعهم فيلم عن فتياتهم المقاتلات ينتجه ليفي حتى لو حصل على أوسكار في مهرجان كان، فقبله كان فيلم “قسم طبرق” عن ليبيا وحصل بدوره على الأوسكار، بل أنه ولأول مرة في تاريخ المهرجان عقد له مؤتمر صحفي لم يكن إلا تسويق ما أسماه “الثورة السورية” بحضور رندة قسيس وملثمين وصلوا إلى هذا الغرض من سوريا. قائلاً إن حمص هي بنغازي ومصراته هي حلب. فإلى أين أخذ هذا الصهيوني كلاً من الأربع. هل يريد الأكراد أن يأخذهم إلى المصير ذاته؟ هل سيظلون عاجزين عن الالتفات إلى أن مفهوم الديمقراطية لا يحتمل مفهوم العرقية – العنصرية، وأن تطوير الرؤية الوطنية يمضي باتجاه حقوق التنوّع ولكن ضمن الوحدة، فمواطنو الألزاس وبريتاني في فرنسا لهم لغتان خاصتان ولكن الدولة لا تتعامل في ثقافتها ومعاملاتها وتعليمها، إلا بالفرنسية. وهم لا يحتجّون على ثنائيّتهم؟

الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى