هل تدخل الصين الحرب في سوريا؟

انطلاقا من المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي تتبناها الصين منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي أطلقها الزعيم الصيني الراحل شو أن لاي، أحد أقطاب «مؤتمر باندونغ» في العام 1956، فقد ظلت الصين حذِرة تجاه أي انخراط فعلي في أي مواجهة عسكرية على المستوى الدولي.

وتسعى الدولة الأكبر من حيث عدد السكان في العالم وصاحبة أعلى نسبة نمو اقتصادي خلال السنوات الأخيرة، إلى تجنب أي حل للمشاكل الدولية على أساس العنف، وقد ظلت تنادي لسنوات طويلة بحُسن الجوار والعلاقات الإيجابية بين الدول، وحل الخلافات الحدودية بالطرق السلمية.

هكذا رأينا حضورا ديبلوماسيا وسياسيا صينيا مترددا، تجاه الملفات الساخنة على الساحة الدولية لما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، وبما لا يتناسب مع الثقل الذي تمثله الصين. وظل هذا الحضور ينكفئ نحو الداخل، ليركز على تنظيم وضع الدولة وبُناها الحزبية والاقتصادية، ومتبنياً حيادا فاترا و «رماديا» في المحافل والمؤسسات الدولية.

وما من شك أن هذا الموقف الصيني يستبطن تقييماً موضوعياً للمرحلة التي تعيشها الصين مع تطبيق حقبة «الإصلاح والانفتاح»، التي افتتحتها القيادة الحاكمة الجديدة أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، مع الأخذ بالاعتبار المصالح الحيوية المتعاظمة للبلاد، ومستفيدة من الإرث الأخلاقي الكبير للفيلسوف كونفوشيوس، في رسم معالم السياسة الخارجية الصينية التي تتبنى أبعادا أخلاقية ذات علاقة بالأب والإله والعائلة المتماسكة… الخ، وتركز في بنيانها الفكري على حُسن الجوار وحل المشاكل والقضايا العالقة بأسلوب سلمي عقلاني.

وعليه، فقد ظلت الصين لسنوات طويلة، تمتنع عن المشاركة في أي قوات خارجية ترسلها إلى خارج حدود الأرض الصينية، حتى لو كان ذلك تحت عباءة الأمم المتحدة وبعنوان حفظ الأمن والسلم الدوليين.

وقد ظلت الديبلوماسية الصينية، طوال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، متمسكة بمبدأ أيديولوجي حاسم قوامه «الحياد السلمي». وأكد قادتها الكبار، وعلى رأسهم دنغ شياو بنغ وجيانغ زيمين وهوجينتاو، ضرورة أن يكــــون الحوار بين أمم الأرض، وإقامة العلاقات الإيجابية مع الخــــارج، هما السبيل الوحيد للحفاظ على مصالح الصـــين الحيوية وتحقيق رؤيتها بأمن عالمي مستدام.

اليوم، وفي ظل الحرب الدائرة رحاها في سوريا، ومع الدخول الروسي العسكري المباشر على خط الميدان، وقيام الطائرات الروسية بشن عشرات الغارات ضد معاقل «داعش» والقوى المتحالفة معها في الميدان السوري، ثمة أسئلة موضوعية تُطرح: ما هو الموقف الصيني تجاه مجريات الأحداث؟ وهل ستبقى الصين على حيادها، لا سيما بعدما بدأت آفاق الوضع في المنطقة تتكشف معالمها في سباق محموم بين الميدان والسياسة في أخطر رهان عسكري وجيوستراتيجي؟ وهل يفيد الحياد في ميدان مفتوح، تشتبك فيه خيول السباق بين أميركي وسعودي وقطري وتركي و «داعشي» و «قاعدي»، وبين معسكر تدعمه روسيا وإيران والعراق و «حزب الله» اللبناني؟ وإلى متى يمكن أن تبقى بكين في موقف المتفرج، حيث تحتدم الاختلافات والخطط والتكتيكات المتبادلة، والمنطقة تشتعل في «بازل» مركب من التعقيدات والتداخلات والجزئيات الميدانية والسياسية والأمنية؟

إن الصين التي تدرس مصالحها الحيوية جيدا كأولوية في أي موقف تتخذه على المسرح الدولي، تراقب الوضع في سوريا عن كثب بكل تفاصيله ووقائعه الميدانية. فهل حزمت بكين أمرها في تموضع تاريخي إلى جانب روسيا وإيران، بحيث تستطيع من خلال تموضعها الجديد – المفترض حتى الساعة ـ تأكيد حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي في منطقة مهمة وإستراتيجية، تعتبر جزءا أساسيا من «طريق الحرير» البرية والبحرية، التي دائما ما تغنَّت بها الصين على مدى قرون من الزمن؟

من منطلق دراسة السياق الموضوعي للأحداث وفهم المنطلقات والهواجس الصينية، لا تستبعد بعض المصادر المراقبة فكرة أن تدخل الصين في الحرب الدائرة على الإرهاب في سوريا، عبر شن غارات جوية إلى جانب الطيران الروسي، ما يعني توسع التحالف الذي تقوده روسيا، وتعزيزه بقوات دولية دائمة العضوية في مجلس الأمن ذات قدرات عسكرية ومالية غير محدودة تقريبا.

وفي حال شاركت الصين في العمليات العسكرية في سوريا، فإنها ستكون هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصين الشــعبية، التي يشارك فيها الجيش الصيني في عمــــليات عسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وهي المرة الأولى أيضا التي تعمل فيها حاملة الطائرات الصـــينية المذكــــورة ضمن شروط وظروف الحرب الحقيقية.

المصادر الصينية ما زالت متحفظة حيال ما أوردته بعض المصادر الاستخبارية، عن إقلاع الطائرات الصينية وهي من طراز J-15 من على متن حاملة الطائرات الصينية «Liaoning-CV-16» التي وصلت إلى شواطئ سوريا في الأسبوعين الأخيرين من الشهر الماضي.

إلا أنه كان من اللافت الأقوال التي أدلى بها وزير الخارجية الصيني فانغ تشي، في الأول من الشهر الجاري خلال اجتماع مجلس الأمن حيث قال: «لا يمكن للعالم أن يسمح لنفسه بأن يبقى متفرجاً ومكتوف الأيدي تجاه ما يجري في سوريا، ويجب عليه ألا يتصرف بطريقة غير منطقية تجاه ما يجري من أحداث تضرب الإنسانية في الصميم».

وتشير هذه التصريحات إلى وصول الصين إلى النقطة التي تتوجب تدخلها المباشر بما يجري في سوريا حماية لمصالحها الإستراتيجية، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار المخاوف الصينية المتزايدة من أنشطة الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي بدأت تظهر في الصين، كمهدد لسلمها الداخلي من خلال جماعات الإيغور وسنكيانغ الانفصالية، فضلاً عن جماعات جهادية سرّية تنشط في بعض المدن الصينية. وترى بعض التحليلات إمكانية التدخل الصيني في سوريا، وفي تأكيد تحالفها مع روسيا في المنطقة لجملة أسباب منها:

أولا: في ظل تباعد صيني ـ أميركي على خلفية ملفات عالقة عدة، وفشل التقارب بين الدولتَين، يبدو أن الخيار الصيني يتجه نحو روسيا، في تأكيد تحالف سابق متجدد في أكثر من مجموعة إقليمية ودولية بأبعاد سياسية واقتصادية. وهذا ما يؤكد خيار الصين تجاه الروس وحلفائها الآسيويين، وهي تقترب من التقدير الروسي والإيراني في مقاربة الملفات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، والتي يأتي في مقدمتها الملف السوري واليمني بأبعادهما المختلفة.

ثانيا: في ظل تزايد أعداد «الجهاديين الصينيين» الوافدين إلى سوريا، والمخاوف الصينية من نمو نسبة التطرف في المناطق الصينية المسلمة، وارتفاع الأصوات الانفصالية في عدد من الأقاليم الصينية، شهدت الآونة الأخيرة تقارير عن تحرك صيني عسكري فعلي بشأن سوريا، وأنباء عن ترتيبات تقوم بها بكين، تزامنا مع التدخل الروسي العسكري المتزايد، وهو التحرك الذي قدرت بعض التقارير أنه «ليس هامشياً، وأن ملامحه ستتضح في الفترة القريبة القادمة».

ثالثا: هناك تقاري رـ لم تنفـِها بكين ولم تؤكدها ـ عن لقاءات تنسيقية روسية – صينية تشي بعزم القوات الجوية الصينية على الانضمام لنظيرتها الروسية، في الهجمات التي تشنها ضد أهداف تابعة لتنظيم «داعش» ولحليفاته من قوى المعارضة السورية المدعومة أميركياً. وهنا تبرز معلومات ـ غير مؤكدة – تتمثل في استعداد جارٍ على قدم وساق لانضمام المقاتلات الصينية من طراز (j-15) للهجمات التي تستهدف القوى المعارضة.

ختاماً، لا بد من القول إن الميدان السوري مثقل بالتطورات اليومية التي تستفيد من الواقع الدولي الذي ينعكس على الساحة السورية المنهكة. هذه الساحة التي يُتَوَقَّع أن تضج بتطورات ميدانية مدويـّة خلال الأشهر القادمة، لا سيما من خلال وصول القوى المتصادمة فيها إلى مفاصــل حاسمة في حركة الصراع على الأرض، بما يفتح المجال لمعارك طاحنة وتسوية قادمة لا محالة، ولكن من خلال تحالفــات جديدة، ومناطق نفوذ قد تغير المنطقة من الناحية الجيـــوسياسية، وترسم معالم تحالفات دولية جديدة وتموضـــعات بارزة لدول كانت غائبة لفترة طويلة عن مجريات المسرح الدولي وملفاته الساخنة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى