هل يتدخل الجيش المصري؟ وكيف؟! (بشير عبد الفتاح)

 


بشير عبد الفتاح

رغم انسحاب الجيش المصري من المشهد السياسي إثر قرارات الرئيس مرسي في أغسطس/آب الماضي علاوة على خبرته المريرة في إدارة البلاد بعد تنحي مبارك، تجدد الجدل حول عودة الجيش من عدمها، خصوصا مع تردي أحوال البلاد على مختلف الصعد، وتنامي الغضب الشعبي على أداء الرئيس والحكومة، بالتزامن مع تآكل ثقة الجماهير في القوى المدنية المعارضة، إلى حد دفع بالبعض لمطالبة الجيش بالنزول وإدارة البلاد.

أنماط التدخل

لنزول الجيوش في الحياة المدنية مستويات وأغراض متنوعة منها: دواع أمنية بوليسية، حيث ينزل بناء على طلب رسمي من رئيس الدولة، الذي هو بحكم الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة، بغية الاضطلاع بمهام أمنية بوليسية محددة المكان والزمان لضبط الأمن على خلفية اضطرابات شعبية، بعد أن تعجز الأجهزة الأمنية عن التعامل معها، وذلك على غرار أحداث 18 و19 يناير/كانون الثاني عام 1977، عندما استدعى الرئيس السادات الجيش لضبط الأمن في الشارع المنفلت بعد قرارات رفع أسعار بعض السلع الأساسية، ثم في 26 فبراير/شباط من عام 1986، على خلفية تمرد جنود الأمن المركزي في القاهرة وبعض المحافظات احتجاجاً على سوء أوضاعهم وتسرب شائعات عن مد سنوات تجنيدهم من ثلاث إلى خمس سنوات.
وفي سياق مشابه، جاءت دعوة الرئيس مرسي الاضطرارية الجيش للنزول في نهاية يناير/كانون الثاني 2013 في مدن القناة الثلاث، السويس والإسماعيلية وبورسعيد، تحت وطأة الغضب الشعبي والانفلات الأمني اللذين هددا الملاحة في قناة السويس.
وقد يتدخل الجيش أيضا بغية حماية شرعية النظام، سواء من غضب شعبي يتحول إلى اضطرابات سياسية تعجز الأجهزة الأمنية عن التعاطي معها، أو من أية مؤامرات تستهدف الرئيس الشرعي للبلاد، مثلما جرى في أزمة مايو/أيار عام 1971، حينما رفض رئيس أركان الجيش الفريق محمد صادق وقائد الحرس الجمهوري اللواء الليثي ناصف وقتها التواطؤ مع قيادة الجيش ومراكز القوى للإطاحة بالرئيس السادات وأيداه في مواجهة المتآمرين عليه.
وأحيانا ينزل الجيش لإدارة البلاد وملء الفراغ السياسي على شاكلة ما جرى بعد تنحي مبارك في 11 فبراير/شباط 2011. كما قد تتدخل الجيوش أيضا لحماية مكتسباتها والحفاظ على مكانتها ووحدتها وتماسكها.

الأسئلة الصعبة

بقدر ما قد يطويه نزول الجيش إلى الشارع من دلالات إيجابية ورسائل طمأنة للمواطن العادي الباحث عن الأمن والاستقرار في ظل أوضاع قلقة عجزت خلالها أجهزة الأمن عن توفيرهما، كما للمعارضة المدنية الهشة الساعية للاستقواء بالجيش في مواجهة الصعود المدوي لتيارات الإسلام السياسي، يبقى مجرد التلويح بتدخل الجيش في الحياة المدنية مصدر إزعاج حقيقي للرئيس المنتخب، الذي بات تعاظم ثقة الجماهير في القوات المسلحة يشكل اقتطاعا من رصيده لدى الشارع في بلاد ساد فيها الحكم العسكري لعقود، ولا يزال للقوات المسلحة دور محوري، ولا يمكن تجاهله، في بناء الدولة وإدارتها.
فأيا كان نمطه أو شاكلته، يبقى نزول الجيش للشارع نذير شؤم ودلالة على ضعف السلطة المدنية الحاكمة، لاسيما وأنه لا يخلو من إشارات بإمكانية استيلائه على الحكم. ومن هنا، يمكن تفهم عدم ترحيب الرئيس مرسي بنزول الجيش، الذي يرى فيه انتقاصا من هيبته ونيلا من شرعيته في ظل تفاقم السخط الشعبي على أدائه واستقواء المعارضة المدنية العاجزة عن الإطاحة به عبر صناديق الاقتراع بالقوات المسلحة، التي ظهرت بعض المطالبات الشعبية بعودتها فيما لم يمر على تسليمها السلطة وعودتها لثكناتها سوى أشهر معدودات.
تبقى الإشارة إلى أن الأمر لا ينقضي عند نزول الجيش، فحينئذ برأسها تطل أسئلة مهمة وصعبة للغاية في هذا المضمار تتصل بمصير عملية التحول الديمقراطي ومدنية الدولة واحتراف الجيش وشكل العلاقات المدنية العسكرية والسلام الاجتماعي.
ومن أبرز هكذا تساؤلات: هل يتدخل الجيش لإقصاء الرئيس المنتخب والإمساك بالسلطة بدلا منه، أم سيقرر إجراء انتخابات رئاسية مبكرة تحت إشرافه؟ وهل سيدير الجيش البلاد وحده، إن لفترة مؤقتة أو إلى أجل غير مسمى، أم سيستعين برموز سياسية مدنية؟ وإلى أي تيارات سينتمي أولئك السياسيون؟ وماذا سيكون رد فعل التيارات الإسلامية إذا ما تم إقصاؤها أو الإطاحة برئيس محسوب عليها، وما يطويه ذلك من تأثير متوقع على السلم المجتمعي؟ وما هي فرص نجاح الجيش في إدارة البلاد بعد تجربته القاسية عقب تنحي مبارك؟ وهل سيتمكن من إدارة البلاد بما يتماشى وتطلعات الجماهير جراء الثورة الشعبية وما صاحبها من ثورة توقعات على كافة الصعد؟ وما هي ردود الفعل الشعبية المتوقعة في حالة تعثر الإدارة العسكرية أو فشلها؟ وما هو تأثير عودة الجيش إلى السياسة على مهنية واحتراف القوات المسلحة وجهود تطويرها وتحديثها، علاوة على وحدتها وتماسكها فضلا عن التوافق والانسجام بين أفرعها ومكوناتها، إضافة إلى علاقاتها مع الجماهير؟

الإنتلجنسيا العسكرية

على خلاف تجارب تدخلية لجيوش عديدة حول العالم، كانت تدخلات الجيش المصري في الشأن العام تتم في إطار ثورات أو حركات شعبية وطنية وبقيادة زعامات عسكرية تتمتع بثقافة سياسية عميقة جعلتها أقرب إلى ما يمكن أن نصفه مجازا بـ"الإنتلجنسيا العسكرية" أو "التكنوقراط العسكريين" أي نخبة عسكرية مثقفة لديها وعي سياسي كبير ولدى العديد منهم خبرات ودرجات علمية عليا في الهندسة والقانون والعلوم السياسة والإدارة والإعلام وغيرها من صنوف المعرفة المدنية.
ففيما كان الأميرلاي أحمد عرابي زعيما وطنيا مسيسا ومستنيرا ملما بأصول العلاقة بين الحاكم والرعية، تربى الضباط الأحرار في أحضان حركة التحرر الوطني المصرية، كما انخرط غالبيتهم، ولو فكريا وأيديولوجيا على الأقل، في تيارات سياسية راوحت بين اليسار واليمين والليبرالية والإخوان المسلمين، كما عرف بعضهم بملكات فنية وأدبية علاوة على مواهب إبداعية جعلت فكرة الحرية تحتل مكانة مركزية في تصوراته لمستقبل وطنه.
وفي ذات السياق، اندمجت قيادات عسكرية عديدة من قادة حركات التدخل والتغيير، في النظام السياسي لاحقا، حتى أضحت جزءًا منه بعد أن خلعت بزاتها العسكرية وطفقت تنهل من علوم الإدارة والاقتصاد والإعلام والعلوم السياسية والهندسة ليتحولوا إلى مديرين وسفراء ووزراء متحالفين في ذلك مع العناصر التكنوقراطية التي وقفت مع العسكر لمسايرة الثورة.
فقد برزت السمات الشخصية للرئيس عبد الناصر، صاحب المشروع التحرري النهضوي الوحدوي البراق، ومن بعده السادات، الذي انقطع عن العمل بالجيش قبل الثورة بسبب نشاطه السياسي، ثم انتهت علاقته بالجيش عند رتبة (رائد) عندما قامت الثورة وترك الخدمة لينخرط في العمل السياسي، حيث تنقل على مدى ثمانية عشر عاماً بين مواقع ومناصب مدنية عدة من بينها رئاسة تحرير جريدة الجمهورية ورئاسة مجلس الأمة، ناهيك عن عمله في الاتحاد الاشتراكي ثم كنائب للرئيس عبد الناصر قبل وفاته بعام واحد.
أما اليوم، فيصعب الجزم بتوفر إنتلجنسيا عسكرية بين صفوف القوات المسلحة تمتلك من التسييس ما يخولها إدارة البلاد بنجاح في هذه المرحلة العصيبة، خصوصا بعد أن عكفت منذ هزيمة عام 1967على العمل الحرفي والمهني العسكري، فعندئذ قرر الرئيس الأسبق عبد الناصر تحجيم الدور السياسي للجيش وتقليص تدخله في الحياة المدنية وقصر نشاطاته على العمل الاحترافي العسكري استعدادا لمعركة تحرير الأرض ورد الاعتبار. ومن بعده حرص كل من السادات ومبارك على إبقاء الجيش بعيدا عن السياسة قدر المستطاع، وبشتى الطرق، حفاظا على استقرار الحكم.

النزول المتوقع

ما بين التجربة المريرة التي تجرعتها القوات المسلحة أثناء إدارتها للبلاد منذ تنحي مبارك في 11 فبراير/شباط 2011 وحتى نهاية يونيو/حزيران 2012، وتنامي الطلب الشعبي لها بالنزول لإنقاذ البلاد، ورغم تأكيد قياداتها التزام الحياد والبعد عن معترك السياسة والتفرغ للمهام الاحترافية والوطنية، أبقت بعض قيادات القوات المسلحة الباب مواربا أمام استعداد وتحسب دائمين للتدخل السياسي أو النزول إلى الشارع، إذا ما اضطرتها الظروف إلى ذلك، حماية للبلاد والعباد وليس حبا في فرض الهيمنة أو توسلا للسلطة.
وخلال لقاء جمعهما مؤخرا، ناقش الرئيس مرسي والفريق أول عبد الفتاح السيسي سبل تفعيل الضبطية القضائية للقوات المسلحة، وفرص تعاون الشرطة العسكرية مع نظيرتها المدنية للحد من انتشار السلاح واستعادة الأمن، وأبدى السيسي تحفظه على نزول قوات تابعة للجيش حالياً إلى الشارع، كما أكد أن الجيش بعيد تماما عن السياسة.
وفي محاضرة ألقاها في العاشر من الشهر الجاري بعنوان "مصر المكان والمكانة" بحضور وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق صدقي صبحى، أعطى العقيد أركان حرب أسامة الجمال إشارات واضحة بعدم تعجل الجيش في النزول، إذ أنحى باللائمة على الشعب في تدهور أوضاع البلاد قائلا "إن صلاح الحاكم يأتي من صلاح المحكوم، مما يلقي بالكرة في ملعب الشعب ليغير من نفسه وينصلح حاله ليحقق له الله صلاح الحاكم".
وأضاف "إذا كنا قمنا بثورة وغيرنا الأنظمة فإننا لم نغير أنفسنا" واستنكر الجمال الدعوات التي تطالب الجيش بالانقلاب على الرئيس، لافتا إلى أن الفارق شاسع بين الوضع الراهن وقيام عبد الناصر بانقلاب ضد المستعمر الأجنبي بدعم شعبي كامل قبل ما يربو على ستة عقود.
ورغم إلمام القوات المسلحة بمؤامرات تحاك من أجل استفزازها والنيل من وحدتها واستدراجها للمعترك السياسي، اكتفت قياداتها بمطالبة الرئيس التصدي لتلك المؤامرات، وإجهاض مساعي جماعات إسلامية جهادية لإنشاء مليشيات مسلحة. وبعدما أبدى غضبه من تسريب متعمد لتقرير يزعم تورط الجيش في انتهاكات لحقوق الإنسان إلى صحيفة "غارديان" البريطانية، طالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة الرئاسة بتحقيق فوري وجاد في الواقعة.
وفي رد حذر على بعض التصريحات والمواقف المثيرة للجدل من قبل الرئيس مرسي، قام المجلس بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي خلال الاجتماع الذى عقد بينهما في الحادي عشر من الشهر الجاري، بتحذير الرئيس مرسي من التفكير في فرض الأحكام العرفية، أو التفريط في ثروات البلاد وأصولها وأراضيها بالبيع أو الإيجار أو حق الانتفاع، كقناة السويس أو سيناء أو مثلث حلايب وشلاتين، وطالبه بسن قانون ملزم في هذا الخصوص، وناشده بضرورة الحوار والتفاهم مع كافة القوى السياسية، وأن يحول دون أي تدخل في شؤون القوات المسلحة.
وبينما لا ينوي الرئيس مرسي استدعاء الجيش للنزول، لا يبدو التدخل واردا في مخيلة الجيش، الذي يعي أن أي انقلاب لن يكون مرحبا به من لدن الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي. هذا في حين يصعب الزعم أن التأزم بين الرئاسة والجيش قد بلغ مبلغا يحض الأخير على التدخل، فحين سرت شائعة إقالة الفريق عبد الفتاح السيسي، صدر بيان فوري للرئاسة بالنفي والتأكيد على التفاهم بينها وبين قيادة القوات المسلحة، وما برح الرئيس مرسي يطمئن وزير دفاعه وقيادات الجيش بشأن عدم وجود نوايا للتدخل في شؤون الجيش أو الإساءة إليه بأية صورة.
وبناء عليه، يجوز القول إن الجيش لا ينوي التدخل المباشر في الشأن العام وفقا لأي من أنماط التدخل التقليدية المتعارف عليها،لأن الدوافع والمبررات لغالبية هذه الأنماط لا تبدو متوفرة بما يكفي. غير أن الجيش قد يكتفي بممارسة الضغوط على الفاعلين السياسيين الأساسيين في هذه المرحلة كالرئيس مرسي وجبهة الإنقاذ لكبح جماح الاستقطاب والصراع السياسيين فيما بينهما، دون انغماس عميق في المستنقع السياسي.
أما إذا ما اضطرته الظروف الأمنية للتدخل، فربما ينزل الجيش جزئيا ومرحليا عبر الدفع بقوات من الشرطة العسكرية لإقرار الأمن وإجهاض أية مؤامرات ضد الدولة أو قواتها المسلحة.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى