واشنطن واغتيالات الإرهابيين: بيع الوهم لمن؟

حمل اغتيال زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن رمزيةً مكثّفة الدلالات، لاسيما أنه جاء في توقيت بالغ الحساسية كانت المنطقة قد بدأت بالانزلاق نحو عصر «الربيع العربي». وتستطيع واشنطن أن تفاخر أنها خلّصت البشرية من العقل المدبّر لأخطر شبكات الإرهاب في العالم، وهذا من حقّها، فلا أحد يناقش في خطورة الرجل ومستوى إجرام تنظيمه.

وكان يمكن لاغتيال بن لادن أن يمر مرور الكرام من دون أن تُطرح تساؤلات حوله، لولا أن المنطقة شهدت من بعده عدداً كبيراً من عمليات الاغتيال التي طالت قادة كبار في تنظيم «القاعدة». وكان لقادتها في سوريا واليمن تحديداً نصيب الأسد من هذه الاغتيالات الممنهجة بدقة عالية، والتي كان معظمها يجري عبر طائرات من دون طيار. كما أن وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر أكد، قبل أيام عدة، أن القوات الأميركية قتلت عدداً من قادة داعش، بينهم حجي إيمان (أبو علي الأنباري)، وكانت قبل ذلك تحدثت عن مقتل عمر الشيشاني، واعتبر كارتر أن ذلك سيؤدي إلى إضعاف التنظيم. وقد تحدثت تسريبات إعلامية أن مقتل قادة «داعش» يؤكد وجود اختراق استخباري أميركي لقيادات الصف الأول منه.

ولاشك في أن الموضوع الذي نحن بصدده دقيق للغاية، وتحيط به ملابسات معقّدة تجعل من المقبول تبنّي الرواية، والرواية المناقضة في الوقت ذاته، من دون أن يخلق ذلك إحساساً بالتناقض أو يشكل دافعاً للبحث العميق حول ملابسات هذه الاغتيالات وتأثيراتها على بعض الأحداث في المنطقة.

وما يزيد من صعوبة المهمة أنها أشبه ما تكون بالسباحة عكس التيار، خصوصاً أن اغتيال قادة «الإرهاب» يحظى بشرعية عالمية من قبل الحكومات والشعوب، وغالباً ما يتم الاكتفاء بالترحيب بأي عملية اغتيال باعتبارها نصراً للسلم العالمي، من دون النظر إلى انعكاساتها المختلفة.

وليست الغاية، هنا، توزيع اتهامات لهذه الدولة أو تلك، أو محاولة تأييد وجهة نظر هذا المحور أو ذاك. لأن ظاهرة الإرهاب، بما أصبحت تمثله من خطر عالمي، لم تعد تحتمل مثل هذا الترف. ولكن في الوقت ذاته ليس علينا أن نسير مغمضي الأعين وراء أية دولة، لمجرد أنها تحمل راية محاربة الإرهاب، خصوصاً إذا كانت تجاربنا مع هذه الدولة تؤكد أن جهودها ومخططاتها على مدى عقدين أو أكثر، لم ينتج عنها إلا انتشار ظاهرة الإرهاب واتساع رقعة خطره، حتى شملت العالم برمته.

انطلاقاً من ذلك، فإن وضع سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات «القاعدة» و «داعش» تحت المجهر من شأنها أن تؤدي إلى نتائج معاكسة تماماً للنتائج المعلنة المتعلقة بمحاربة الإرهاب، لاسيما أن ظاهر الحال عالمياً يؤكد أن الإرهاب مازال يتمدد ويتصاعد، برغم الاغتيالات التي طالت قياداته.

وحقيقةً سيكون من المبالغة في حسن الظن أن نفكر أن الاستخبارات الأميركية لم تدرك بعد أن إستراتيجيتها في محاربة الإرهاب لم تحقق أي نتائج فعلية، بل ربما ساعدت في زيادة الإرهاب وتوسيع انتشاره. والمشكلة الجوهرية هي أن معظم دول العالم تسير وراء الولايات المتحدة في هذه الإستراتيجية من دون أن نسمع أية أصوات معترضة أو أية تساؤلات عن الجدوى، أو حتى مجرد مطالبة بضرورة إعادة النظر، وذلك على الرغم من أن الوقائع أصبحت أوضح من أن تحتاج للإشارة إليها.

فهل قضت الولايات المتحدة على تنظيم «القاعدة» بعد حرب أفغانستان؟ ألم تضطر إلى التفاوض مع حركة «طالبان»؟ ماذا فعلت في العراق؟ ألم يتحول إلى أكبر مرتع للإرهاب منذ أن وطأته قدماها في آذار في العام 2003؟ ثم ماذا كان تأثير مقتل قادة «دولة العراق الإسلامية» في العام 2010، وهما أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر، ألم يأت من بعدهما من هو أكثر تطرفاً منهما؟ وبالتالي ما هي النتيجة التي نتوقعها في حال مقتل قادة الصف الأول من «داعش» حالياً، سواء أبو بكر البغدادي أو عمر الشيشاني أو غيرهما؟ وطالما أن التجارب السابقة أكدت عدم وجود علاقة بين مقتل قادة التنظيم وبين إضعافه، فلماذا لا تكف واشنطن عن بيع هذا الوهم؟ صحيح أن التخلص من رموز الإرهاب أمر جيد، ولكن ألا ينبغي أن يكون لدى واشنطن قليلاً من التواضع بخصوص تأثيراته على ظاهرة الإرهاب ككل؟.

وما يزيد من خطورة التساؤلات السابقة أن هناك العديد من الملاحظات على بعض عمليات الاغتيال، وأنها قد تكون أدّت بشكل مقصود أو غير مقصود إلى التأثير في الصراع بين تيارين ضمن منظومة الإرهاب، وأنها قد تكون لعبت دوراً في حسم الصراع لمصلحة التيار الأكثر تشدداً وتطرفاً. علاوة على أن نجاح واشنطن في اغتيال بعض قادة «داعش» لا يشكل هذا النجاح الاستخباري والأمني الكبير الذي يتم الترويج له.

نعود هنا إلى مقتل أسامة بن لادن في أيار في العام 2011 أي في بداية «الربيع العربي»، والذي تبعه بأشهر عدة مقتل عطية الله الليبي الذي شغل منصب المسؤول العام لتنظيم «القاعدة» خلفاً لمصطفى أبي اليزيد، الذي اغتيل قبل بن لادن بحوالي عام تقريباً. فقد سرّبت الاستخبارات الأميركية مجموعة من الوثائق التي عثرت عليها في مخبئه في آبوت آباد في باكستان. وكان من اللافت أن بعض هذه الوثائق كشفت عن وجود مآخذ لدى بن لادن على سلوك تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، أما عطية الله الليبي فقد كان من أبرز المطالبين بضرورة إيقاف التنظيم عند حده، بعد أن كثرت تجاوزاته، وكذلك الأمر بالنسبة للمتحدث الرسمي باسم «القاعدة» آدم غدن (عزام الأميركي) الذي اغتيل في نيسان من العام الماضي، حيث كان من أشد المناهضين لـ «داعش»، حتى أنه اصدر في آذار من العام 2014 تسجيلاً صوتياً هاجم فيه التنظيم إثر اتهامه بقتل أبي خالد السوري.

بالطبع فإن مقتل هؤلاء أمر جيد بالنسبة للعالم المهدد بوحشية الإرهاب. ولكن قد لا يكون هذا الحكم دقيقاً، لأنه ينظر إلى صورة غير مكتملة. فإلى جانب مقتل هؤلاء حصلت أمور أخرى من شأنها أن تثير الاستغراب وتطرح تساؤلات. فقد تمكن عدد من كبار قادة «القاعدة» من الانتقال من أفغانستان إلى سوريا بعد أن قرروا الانشقاق والانضمام إلى «داعش»، ونحن أمام أسماء خطيرة وبحقها ملاحقات قانونية على مستوى العالم، ومن هؤلاء أبو عبيدة اللبناني (رئيس اللجنة العسكرية في «القاعدة» ومسؤول معسكرات التدريب) وأبو مالك التميمي (سميت معركة تدمر العام الماضي باسمه) وحامد البرقاوي وأبو هريرة الشمالي وغيرهم. فهل نحن هنا أمام فشل استخباري في منع انتقال هؤلاء مقابل النجاح في قتل أولئك، أم قد يكون الأمر أبعد من ذلك وأكثر خطورة؟.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى