تحليلات سياسية

وِجهة ليبيا غير المؤكدة ما بعد الانتخابات

  باراك بارفي

 

يُنظر  إلى الأداء الانتخابي المبهر للأحزاب الليبرالية اسمياً في ليبيا على نحو واسع باعتباره إخفاق للزخم الإسلامي السياسي في شمال إفريقيا، لكن الواقع أكثر تعقيداً مما يبدو عليه في الظاهر.

فبعد أول انتخابات برلمانية حرة تجري في ليبيا منذ عام 1965، ما يزال لزاماً على 60 بالمائة من الأعضاء الذين فازوا بمقاعد مخصصة للأفراد وليس الأحزاب أن يكشفوا عن انتماءاتهم الحزبية في المجلس التشريعي. ففي دولة ممزقة تاريخياً بانقسامات جغرافية صوَّت الليبيون لصالح أحزاب ومرشحين إقليميين معروفين لهم، بدلاً من دعم فصائل وطنية غير معروفة ذات برامج تم فهمها على عجل. واستجابة لذلك وصفت واشنطن الانتخابات بأنها “خطوة مهمة” في “الانتقال الديمقراطي” لليبيا، لكن هذا التفاؤل ربما يكون سابقاً لأوانه.

 

الخلفية

 

 يتألف “المؤتمر الوطني العام” الجديد في ليبيا من 200 مقعداً، 80 تم انتخابهم من خلال الاقتراع على القوائم الحزبية و 120 مقعداً خصصت للمرشحين الأفراد. وخلال الانتخابات التي جرت في 7 تموز/يوليو – التي شارك فيها 62 في المائة من الناخبين المسجلين – تنافس 374 حزباً على 80 مقعداً تم تخصيصها للقوائم الحزبية، بينما تنافس 2639 مرشحاً على المقاعد الفردية. وقد ظفر “قوى التحالف الوطني”، وهو ائتلاف يضم نحو 60 حزباً، بتسعة وثلاثين مقعداً بينما حل “حزب العدالة والبناء” التابع لـ جماعة «الإخوان المسلمين» وبفارق كبير في المركز الثاني بسبعة عشر مقعداً. كما حصلت “الجبهة الوطنية” بقيادة حزب المعارضة الليبي الرئيسي في المنفى على ثلاثة مقاعد ونال “الاتحاد من أجل الوطن” – وهو فصيل إقليمي مقره في مصراتة، ثالث أكبر مدينة في ليبيا، على مقعدين.

 

تحالف القوى الوطنية

 

يقود “تحالف القوى الوطنية” الأستاذ الجامعي السابق في بيتسبرغ محمود جبريل الذي كان يدير “المجلس الوطني للتنمية الاقتصادية”، وهو مركز بحثي كان يرعاه سيف الإسلام القذافي – نجل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي. وكونه قد انشق في مرحلة مبكرة فقد تم اختياره لاحقاً ليكون رئيس وزراء المعارضة ومسؤولاً عن حشد الدعم الأجنبي. ورغم حصوله على الثناء في الخارج إلا أنه حاز على القليل من المديح في داخل البلاد. وليس فقط أنه كان ممانعاً لزيارة عاصمة المتمردين – بنغازي – بسبب المخاوف من قيام عمليات انتقامية من قبل الموالين، بل إنه أظهر أيضاً عجزاً عن العمل بروح الفريق وتعرض للانتقاد بسبب كونه غير حازم. وقد سخر منه زميل سابق في “المجلس الوطني للتنمية الاقتصادية” بقوله “لقد كان رئيس مجلس إدارة جيداً لكنه ليس مديراً تنفيذياً جيداً.”

 وفي البداية كانت إخفاقات جبريل فريسة سهلة لخصومه. فبعد سقوط طرابلس دخل جبريل في ملاسنات مع متمردين من مصراتة مما أجبره على الاستقالة. وزادت التوترات بين جبريل ومصراتة إلى ما هو أبعد من السياسة حيث أخذت منحى قبلياً. وتعود تلك الانقسامات الحادة إلى عام 1920 عندما قتلت قبيلة “ورفلة” التي ينتمي إليها جبريل – والتي كانت متحالفة مع القوات الإيطالية المحتلة لليبيا آنذاك – شيخاً مصراتياً كان يقود المقاومة. ومنذ ذلك الحين و”ورفلة” وقبائل مصراتة الأخرى هم أعداء ألداء. وبعد انقلاب فاشل في عام 1975 قاده ضباط من مصراتة قام القذافي بفصل القادة العسكريين في المدينة واستبدلهم بورفليين أصبحوا أعمدةً لنظامه.

ورغم إخفاقات جبريل إلا أنه ساعد “تحالف القوى الوطنية” على تحقيق الهيمنة والانتصار. ونظراً لِلَمَعان اسمه (بفضل مشاركته المكثفة في برامج القنوات الفضائية العربية) وحملته الدعائية البارعة (حيث عقد اتفاقات لضم زعماء محليين إلى قوائم حزبه) ورسالته السياسية الماهرة فإنه قد أسدى النجاح إلى الائتلاف.

 

إلى أين يتجه الإسلاميون؟

 

حصل «الإخوان المسلمون» على حوالي ربع الأصوات التي حصل عليها “تحالف القوى الوطنية”، وعزا العديد من المعلقين الغربيين أداءهم الضعيف إلى قمع القذافي للإسلاميين. بيد كان لـ جماعة «الإخوان» وجود دائم في ليبيا. وقد رحب النظام الملكي – الذي كان قائماً قبل فترة القذافي – بقادة «الإخوان» الذين طردوا من مصر، كما أن الكثير من معلمي ليبيا بعد الاستقلال كانوا مصريين. وحتى وقت قريب كان هناك ما بين 750,000 و 1,000,000 من العمالة المصرية المغتربة في ليبيا قبل اندلاع الثورة في العام الماضي، وهؤلاء العمال الضيوف كانوا ينشرون فكر «الإخوان». كما أن العديد من الليبيين من الطبقة المتوسطة قد انفتحوا إلى أفكار المنظمة أثناء دراستهم في الجامعات المصرية. وفي الوقت الذي كان فيه المسجد هو البديل الوحيد لنظريات “كتاب القذافي الأخضر” كان «الإخوان المسلمون» يمثلون قوة معارضة فعالة. لكن اليوم وحيث يوجد أمام الليبيين مئات الأحزاب يختارون منها ما يشاؤون، يصبح برنامج «الإخوان» أقل جاذبية.

وبالإضافة إلى ذلك، ليس لدى «الإخوان» المبرر الاجتماعي والاقتصادي في ليبيا الذي كان سبباً لجاذبية الإسلاميين الكبيرة في مصر وتونس. ففي دولة غنية بالنفط تقدم فيها الحكومة خدمات من المهد إلى اللحد، لا يحتاج الليبيون إلى الكثير من ذلك النوع من شبكات الرعاية الاجتماعية التي يوفرها «الإخوان» لفقراء مصريين. فعائدات النفط الكثيرة تضمن عمالة حكومية بما يقرب من 60 بالمائة من قوة العمل. وبالمثل، فإنه حتى السيارات مدعومة بقوة من الحكومة لدرجة أن تكلفتها في طرابلس أقل من سعرها في أماكن أصحاب التوكيلات في مجموعات خطوط التجميع في ديترويت حيث يتم تصنيع السيارات.

والرسالة الاجتماعية لـ «الإخوان» هي أيضاً بعيدة عن تلبية تطلعات الليبيين. ففي مصر يتحدث المرشحون الإسلاميون عن إقامة سياحة حلال مؤكدين على الأعراف الإسلامية. بيد، لا توجد شواطئ في ليبيا يستطيع فيها سياح غربيون – بلباس البكيني – استهلاك زجاجات الخمر. وفي الواقع فإن ليبيا هي أكثر دولة عربية محافظة خارج منطقة الخليج الفارسي.

ونظراً لهذه التحديات اختار «الإخوان» الليبيون انتهاج رسالة أكثر اعتدالاً من أقرانهم في مصر، بتفضيلهم قيام دولة مدنية تمنح للمرأة حقوق واسعة النطاق. وفي آذار/مارس قال زعيم الحزب محمد صوان لكاتب هذه السطور “نؤمن بالتعددية السياسية والاجتماعية التي يكون فيها الجميع متساوون.” ولإثبات فكرته ذكر أن «الجماعة» قد رفضت إقامة ائتلاف مع جهاديين يُعاد تأهيلهم من بين أولئك الذين كانت لديهم خبرة في أفغانستان وطالبوا بتطبيق أكثر صرامة للشريعة الإسلامية.

 

الأطراف الإقليمية

 

يبدو أن الأحزاب الإقليمية هي الفائزة الأكبر في الانتخابات، حيث حصلت على حوالي عشرين من مقاعد البرلمان المخصصة، وهي على وشك أن تكسب المزيد بعد أن يعلن أصحاب المقاعد الفردية عن انتماءاتهم. على أن نجاح الفصائل الإقليمية ذات الامتداد الوطني الضعيف كان متوقعاً نظراً للقيود التي واجهت الأحزاب الأكبر. فقبل سقوط طرابلس في آب/أغسطس 2011، تم تشكيل أقل من خمسة أحزاب. وبعد إعلان التحرير في تشرين الأول/أكتوبر، تدافع الواعدون السياسيون إلى تنظيم أحزاب سياسية وكتابة برامج تفي بقائمة حملتهم المختصرة.

وقد تبين أن هذه التحديات تشكل عقبة كأداء في بلد قليل الخبرة في السياسات الانتخابية. فقد تم حظر الأحزاب عام 1952، وحل البرلمان عام 1965، وبعد عام 1972 كان يعتبر أي نشاط سياسي مناف لمبادئ القذافي الثورية بمثابة خيانة عاقبتها الإعدام. ومنذ وفاة القذافي ليس لدى الأحزاب الوقت والخبرة السياسية اللازمة لتنظيم حملات معلوماتية، كما أن عدم قيام تجمعات كان مؤشراً على هذه المشكلة. ففي بلد تتفوق فيها العصبية العشائرية والولاءات المحلية تقليدياً على الولاء للدولة أصبح الناس أكثر ميلاً للتصويت للمرشحين والأحزاب المحلية المعروفين لهم. وقد عكست نتائج “حزب الاتحاد من أجل الوطن” هذا الاتجاه حيث تم الإدلاء بما يقرب من 47 بالمائة من أصوات الحزب في موطنه في مصراتة.

 

التحديات المستقبلية

 

رغم فوز “تحالف القوى الوطنية” بأكثرية المقاعد إلا أن إعلانات الفوز كانت سابقة لأوانها. وحيث حدَّد التصويت الفردي 60 بالمائة من المقاعد الجديدة يواجه جبريل مهمة صعبة في تشكيل ائتلاف واسع قادر على السيطرة على البرلمان. فبالإضافة إلى التودد إلى الكثير من أعضاء المجلس التشريعي الغير منتمين لأحزاب معينة سيضطر جبريل إلى الاستمرار في مراقبة الجماعات المتنافرة التي تشكل جوهر “تحالف القوى الوطنية”. كما أنه يواجه تحدياً آخر من مصراتة التي ما يزال مسلحوها هم الأقوى في البلاد. وقد كان أداء “تحالف القوى الوطنية” ضعيفاً بين ناخبي المدينة حيث فاز فقط بنسبة 8.7 بالمائة من الأصوات. وعلاوة على ذلك، فإن زعيم “حزب الاتحاد من أجل الوطن” قد أعلن بالفعل أنه لن يعمل مع جبريل، كما من المرجح أن يرفض قادة مصراتة العسكريين قرارات “تحالف القوى الوطنية”. وبالنسبة لدولة يشكل فيها تسريح المسلحين ودمجهم في أجهزة الأمن التحدي الأكثر إلحاحاً في البلاد فإن تهديدات “حزب الاتحاد من أجل الوطن” تعتبر نذير شؤم.

وعلى الرغم من أن البرلمان سيختار رئيس الوزراء الذي سيشكل بدوره الوزارة ويختار الوزراء، إلا أنه قد تم تجريده من أهم مهمة له، ألا وهي اختيار لجنة لكتابة الدستور الجديد. وبدلاً من ذلك قرر “المجلس الوطني الانتقالي” بأنه سيتم اختيار اللجنة المكونة من ستين رجلاً عن طريق الانتخاب المباشر. ونتيجة لذلك فمن المرجح أن يكون المجلس التشريعي الحالي مجرد حكومة تسيير أعمال إلى أن يتم اجراء انتخابات لاختيار برلمان لفترة أطول في العام القادم. وإذا سار الأمر على هذا النحو، فستفتقر الحكومة على الأرجح إلى الوقت اللازم لحل مأزق الميليشيات، تاركة الليبيين محبطين مثلما كان حالهم مع حكومة انتقالية تم تعيينها بعد الإطاحة بالنظام السابق وكانت قد رفضت اتخاذ قرارات حاسمة في ذلك الشأن. وفي الواقع لم يكن “المجلس الوطني الانتقالي” حاسماً في التعامل مع مشاكل البلاد الكثيرة، كما أن السرية التي تحيط باجتماعاته وقراراته قد أدت إلى شعور الليبيين بالسأم ومطالبتهم بالمزيد من الشفافية بعد أربعة عقود من حكم الرجل الواحد.

 

معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى