العربية الفصحى.. مرة أخرى وليست أخيرة! (أحمد فرحات)

 

أحمد فرحات

قديماً كانت العرب تسمي اللهجات لغات فقالوا لغة قريش ولغة ربيعة ولغة تميم ولغة هذيل ولغة حِميَر وهوازن إلخ… على أساس أن هذه اللهجات جميعها هي فروع من اللغة الأصلية، وتتميز كل لهجة عن نظيراتها ببعض الخصائص الصوتية أو النحوية أو الدلالية عن اللغة الجذر التي تفرعت عنها.
ومن الأهمية أن ندرس اللهجات القديمة والجديدة انطلاقاً من تقريبها من أصلها الفصحوي، لنعضد بذلك لغتنا العربية الجميلة والصامدة، على رغم كل المشروعات الخبيثة التي حيكت وتحاك ضدها.
وقد أدرك "الآخرون"، في الماضي والحاضر، أهمية ما للعربية الفصحى (لغة القرآن الكريم والنصوص الإسلامية التليدة الأخرى) من التصاق بالشخصية التي تتكلمها؛ فهي هنا أكثر من لغة وأكثر من شخصية وأكثر من حضارة وأكثر من روح ومعنى مفتوح على القيم كلها. إنها تمثل رمز المقَّدس نفسه. لذلك يصعب على المنادين بفرعنة مصر، وفينقة لبنان، وعبرنة فلسطين، وبربرة الشمال الإفريقي كسر تلكم اللغة التي تكفّل الله تعالى حفظها من خلال كتابه العزيز: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"(صدق الله العظيم).
لكن الدعاة، وعلى الرغم من فشل كل تلك الحروب المشنونة على اللغة العربية الفصحى، ما انفكوا يجددون الدعوات للانقضاض عليها والنيل منها.. تارة بأنها لا تتسع للعلوم والآداب والفنون، وطوراً باسم الإزدواجية والإنفصام، ويقصدون هنا وجود "لغتين"، إحداهما العامية الدارجة والأخرى الفصحى المقصورة على القلم والكتاب، الأمر الذي يربك الناشئة العرب ويحدّ من منطلقات إبداعه (بحسب زعمهم طبعاً). وكان آخر من زعم بذلك أستاذ الإسلاميات والآداب الشرقية القديمة في الجامعات الفرنسية كلود ديمونيه حين قال بالحرف الواحد "لن يتقدم أهل اللغة العربية، ولو بوصة واحدة، في العصر وعلوم العصر، ما لم يتخلوا عن هذه الثنائية الضارَّة التي تحدثها فيهم وفي أجيالهم الراهنة واللاحقة لغتهم العربية الفصحى".
والحقيقة التي لا جدال حولها أن هؤلاء المشككين وغيرهم، ممن سبق ولحق، ومنهم الأخير كلود ديمونيه، إنما يستهدفون تحطيم اللغة العربية والحرف العربي وإحلال العامية محلها بالحرف اللاتيني. ولأجل ذلك عمدت الدول الإستعمارية على مختلف تمرحلات وجودها ونفوذها الثقافي القوي في وطننا العربي إلى تأسيس المعاهد والمدارس الخاصة بتدريس
اللهجات المحلية، وفي أغلبها بحروف لاتينية، فقامت المعاهد في فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا والمجر وإنجلترا؛ وكان من نتائج هذا التمأسس المشبوه، تأليف العديد من الكتب التي تخدم غرض النيل من الفصحى العربية؛ ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب "لهجة بغداد العامية" للمستشرق ماتسون. كتاب "لغة بيروت العامية" للمستشرق أمانويل ماتسين. كتاب "عامية دمشق" للمستشرق براغستراس. كتاب "قواعد العامية المشرقية والمغربية" للمستشرق كوسان دويرسغال. "قواعد العربية العامية في مصر" للمستشرق الألماني ولهلم بيتا.

الجهات المناوئة في لبنان ومصر

وعلى النغَم المضادِّ عينه لضرب لغتنا الجميلة الجامعة، كان انبرى نفر من الشعراء والكتاب العرب يؤازرون الحركات المعادية للعربية الفصحى، بابتكارهم أساليب تجريبية بالعامية بواسطة الحروف اللاتينية، كمشروع سعيد عقل في لبنان، والذي أنشأ أول مطبعة لكتابة المحكية اللبنانية بالحروف اللاتينية، مع إضافة بعض الحروف الجديدة إليها. وفي هذه الطبعة بالذات قام سعيد عقل بطبع مجموعة من كتبه ودواوينه الشعرية؛ كما أصدر صحيفة يومية باللغة عينها. كما ألّف أيضاً اللبناني رفائيل نخلة كتاباً باللهجة العامية سمّاه: "قواعد اللهجة اللبنانية- السورية".
أما على مستوى مصر، فقد كان منبر مجلة "السياسة" من أبرز المنابر التي انحرفت في اتجاه القوقعة الإقليمية، "لغة" وتصورات.. وبرز الكاتب محمد زكي عبد القادر داعية مًن دعاة هذا الإتجاه الضيِّق في المجلة، فكتب في العام 1930 مقالاً جاء فيه: "الأدب المصري هو أدب محلي يصوِّر الحياة المصرية والقومية المصرية وحدهما". وفي تصريح آخر له قال "إن لمصر لغتها وعليها بلورتها وإظهارها لتكون بديلاً من اللغة العربية التي اجتاحتنا من الخارج".
وكان قد دعا إلى اتخاذ العامية في مصر لغة كتابة وعلم وأدب قبل ذلك، سلامة موسى الكاتب المعروف. فقد حدث أن أصدر مثلاً وليم ولكوكس، وهو مستعرب إنجليزي، ترجمةً للإنجيل بالعامية المصرية، رحب بها بحرارة سلامة موسى قائلاً: "والسير ولكوكس يدعو إلى هجر الفصحى هجراً تاماً واصطناع العامية، وقد ترجم هو نفسه الإنجيل إلى اللغة العامية المصرية، فوُفِّق فيه إلى ترجمة حيَّة يقرؤها المصري فيلذّ له الأسلوب، ويرى فيه جواً مألوفاً يشم منه النكهة البلدية، وهو في اعتقادي أوقع في النفس من الإنجيل المترجم إلى اللغة العربية الفصحى".
كما برزت في مصر أسماء أخرى لامعة نَحَتْ هذا المنحى الخطَر مثل د. لويس عوض الذي كتب ديواناً شعرياً بالعامية المصرية، وأمين الخولي في كتابه "الأدب المصري"، "ومصر في تاريخ البلاغة".. ولطفي السيد وحتى توفيق الحكيم وغيرهم.. وغيرهم.
وجملة القول، إن هؤلاء الدعاة سواء كانوا في لبنان أم في مصر، أخفقوا جميعاً في معركة التشويش أو النيل من اللغة العربية الفصحى؛ وكان أحد أكبر البراهين الدامغة على إخفاقهم هذا، أنهم كتبوا مقالاتهم وبحوثهم وألّفوا كتبهم المناوئة للفصحى بالفصحى ذاتها.. وبذلك يكونون قد قدَّموا الدليل بأنفسهم على بطلان دعواهم التي لم يأخذوا بها.

أطرف مناقشة لدعاة العامية

يقال إن أطرف وأوضح مناقشة لدعاة العامية في لبنان ومصر هي تلك التي جاءت في كتاب أحمد عبد الغفور عطار: "قضايا ومشكلات لغوية". يقول في معرض تسليمه بوجود "لغتين متغايرتين": "قبلنا دعواكم يا سادة، وسمعنا أن لدى العرب من دون الناس "لغتين": عامية وفصحى، فماذا ترون؟.."، ويُردِف مجيباً:"إنهم يرون أن ندفع الفصحى لأن الشعب لا يُحْسنها، ونأخذ العامية ونتخذها لغة العلم والكتابة، وبذلك نقضي على ما يسمونه "الإزدواجية". والآن وقد رأوا التمسك بالعامية على زعمهم لغة الشعب ولغة الحياة، نسألهم: أي عامية نختار؟
يجيب سعيد عقل: عامية زحلة (مدينة في لبنان)، وليس ما نسبناه إليه هنا قولة لم يَـقُـلْها، بل هو كتب منذ زمن مقدمة ديوان شعر بعامية زحلية.
وإذا رضينا بأن تجعل كل شعوب الأمة العربية، عامية زحلة، لغة الأدب والعلم والكتابة والفلسفة والفن فهل يفهمونها؟.. إن ابن مدينة "شتورة" المجاورة لزحلة لن يفهم عامية زحلة، فكيف بابن تطوان، أو ابن القيروان أو ابن نزوى أو ابن تعز؟
من جهته كذلك لن يرضى سلامة موسى بعامية زحلة، بل هو سيختار عامية شارع الدواوين قرب ميدان "لاظ أوغلي"، لأنه كان يسكن فيه سنة 1936 وما بعدها، وهي تختلف عن عامية شبرا وباب الحديد وهكذا…
ويتساءل أحمد عبد الغفور عطار بعد: "أصحيح ما زعمه الزاعمون من أعداء الفصحى وما ردده مصدقوهم المخدوعون بشأن هذه الإزدواجية التي تفرَّدت بها لغة العرب من دون سائر اللغات؟… ويجيب: إن سلامة موسى ولويس عوض يحسنان الإنجليزية، وتعلَّما في بريطانيا ويعرفان حق المعرفة أن للإنجليز لغتين: عامية وفصحى، مثلهم مثل العرب، وكل لغات العالم (دونما استثناء) مثل العربية".
حقيق بالاعتبار إذن القول بأن اللغة العربية الفصحى، بوصفها نظاماً من الرموز الصوتية، أدَّت وتؤدي باقتدار هائل وظيفتَها في المجتمع والأدب والحياة. وهذا شأنٌ تؤكده لحظوياً آليات الحياة العربية نفسها بتطورها علماً وأدباً وثقافة وأدوات معرفة متواصلة، في الحاضر كما في المستقبل… وأن كل ما جرى من محاولات لضرب اللغة العربية الفصحى والقول بعدم أهلّيتها وأهلّية حامليها، لم يثبت فشله وحسب، وإنما أثبت أن هذه اللغة هي لغة حيّة باستمرار، تُجدِّد نفسها بنفسها.. ولن تُهزم أبداً.

مؤسسة الفكر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى