دراسة| أزمة المؤسسات: إشكاليات بناء الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد (مجموعة خبراء)

 

مجموعة خبراء

عرض: سماح عبد الصبور*

تواجه الثورة السورية منذ قيامها عوائق كثيرة تعوق نجاح أهدافها، يأتي في مقدمتها استمرار النظام الحاكم، واستمرار الصراع المسلح بين أنصار النظام والثوار، الأمر الذي ينذر بحرب أهلية واسعة النطاق، مما يهدد مستقبل الدولة وليس فقط الثورة.في هذا السياق، تأتي أهمية الدراسة التي نشرتها مؤسسة كارنيجى للسلام الدولي من إعداد مجموعة من الباحثين تحت عنوان " بناء الدولة السورية في زمن الحرب الأهلية". تلقي الدراسة الضوء على الوضع السوري وتعقيداته، وأبعاد الحرب الأهلية في سوريا، وموانع استمرارها، في حال إسقاط النظام الحاكم.
تبدأ الدراسة بالحديث عن أن الحل للخروج من الأزمة السورية هو بناء الدولة ومؤسساتها الوطنية، وهو الأمر الذي يهدده الصراع والحرب الأهلية. ويتطلب بناء الدولة ضرورة الوحدة من الداخل، والدعم من الخارج، واستبعاد الحل العسكري, ودعم المجتمع الدولي للثوار وإمدادهم بالمساعدات اللازمة، ولكن في إطار بناء مؤسسات الدولة، وتمويل إعلام مستقل لمنع الحرب الأهلية.

من احتجاجات الشارع إلى بناء الدولة

بدأت الاحتجاجات في سوريا سلمية في بدايتها منذ مارس 2011 ، ولكن رد فعل النظام السوري أدى بالثوار إلى تسليح أنفسهم، والاتجاه نحو العنف، وأصبحت مشكلة النظام في سوريا ليست فقط الحفاظ على بقائه، بل أيضا استعادة المناطق التي سيطر عليها الثوار.ويلزم لبناء الدولة في سوريا أن يركز الثوار على بناء المؤسسات في الأماكن التي تمت السيطرة عليها لتكون نموذجا لبناء الدولة على المستوى الكلى. وبناء تلك المؤسسات يلزمه الدعم الخارجي، وبناء جيش وطني لتجميع الكيانات المسلحة القادرة على قيادة حرب أهلية واسعة المدى، خاصة أن المعارضة السورية- ممثلة في الجيش السوري الحر والمجلس الوطني الانتقالي- ليس لديها الموارد التي تؤكد سلطاتها على تلك الكيانات المسلحة. وبجانب ذلك، يقف أمام بناء المؤسسات الوطنية في سوريا عائقان، هما :

الأول: يتمثل في انخراط المعارضة المسلحة في بناء الدولة، خاصة الإدارة المدنية، ولا يزال الجيش الوطني لم يؤسس بعد .
الثاني: ينصب على وجود الولاءات التحتية لبعض الحركات، مثل جبهة النصرة، وحزب العمال الكردستاني التى تعكف على بناء مؤسسات متوازية تبعا لاختلاف أيديولوجيتها ورؤيتها للدولة، مما ينذر بحرب أهلية قد تصل لبلدان مجاورة مثل لبنان.

فصل المدني عن العسكري

مع ظهور مؤشرات إنهيار النظام، وإحكام قبضة الثوار على حلب، كان عليهم القيام بأعمال مدنية غير عسكرية مثل أعمال الشرطة، والأعمال القضائية، وتوزيع السلع العامة من الخبز، والغاز، وجمع القمامة , وكان لا بد من إيجاد نظام قضائي بديل، لذلك ظهرت مؤسسات مدنية تدار بواسطة الجيش الحر، وتلك المؤسسات المدنية هي : المجالس المدنية، والمحاكم القضائية، والشرطة المدنية، وهم ليسوا منفصلين عن الجماعات المسلحة، وينقصهم التمويل الكافي. لكن تلك المؤسسات تتعارض مع المؤسسات القائمة بالفعل من مصانع، ومدارس، وبلديات. كما أن النظام القائم، وبطريقة غير مباشرة، يدعم تلك المؤسسات باستمراره في دفع رواتب الموظفين في المؤسسات القديمة.
إن إنشاء مؤسسات تحت سيطرة المعارضة المسلحة من شأنه أن يعقد عملية إدماجها في النظام القانوني, ومن تلك المؤسسات التي تواجه ذلك:
– محاكم العدالة: تم إنشاؤها بواسطة المعارضة المسلحة، في إطار اتحاد المحاكم الذي تم بناء على اتفاق بين المحامين والقضاة والشيوخ. ولكن من أجل وجود نظام قضائي في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، فلابد من إعادة توظيف الموظفين القضائيين المختصين بدلا من الشيوخ، ووضع قواعد قضائية مشتركة، وإدماج المحاكم المحلية في الهيكل الهرمي لتلك المحاكم. ولكن هناك تنازعا بين جهات مختلفة حول وضع قواعد قانونية مثل مجلس القضاة الحر، وتجمع المحامين الأحرار، وحركة المحامين الأحرار.
– المجالس المدنية: وهى ليست بعيدة عن سيطرة العسكريين، سواء في تمويلها، أو طريقة اختيار أعضائها التي تتأثر باختيارات القادة العسكريين، وليس الانتخاب, وهى مختصة بالشئون الصحية، والتعليمية، والشرطة. وقد لعب المجلس الوطني الانتقالي في حلب العديد من الأدوار كمجلس مدني لمدينة حلب، وكمجلس انتقالي بسلطة تعلو سلطة المؤسسات المدنية الأخرى، وكذلك الأمر في دير الزور.
– لعبت المساعدات الخارجية دورا في بناء الهياكل المحلية ولجان التنسيق بين المحافظات، وأصبح هناك نظام هيراركي في بعض أحياء مدينة حلب، مثل منطقة الشيخ نجار، حيث المجلس الثوري الانتقالي، والشرطة المدنية والعسكرية، والمحكمة المتحدة للمجالس القضائية، وسوف يلحقها المجلس العسكري قريبا. ويقوم التحالف الوطني بتمويل المجلس الانتقالي في حلب بمليون دولار الذي يعيد توزيعها بدوره على المجالس المحلية، مما يسهم في إدماج الخدمات المختلفة، وفى استقلال المجلس الانتقالي عن العسكريين .

مسألة بناء جيش وطني

مع زيادة أعداد المقاتلين، كان لا بد من تكوين ما يسميه الثوار "اللواءات " لإدماج المقاتلين فيها، ولدى الجيش الحر آلياته في ذلك. إلا أنه يقف أمامه بعض العوائق، هي :
– إنشاء نظام هيراركي قائم على التنسيق بين الوحدات المختلفة، وقد لعبت المساعدات الخارجية دورا في تسليح الثوار وتدريبهم على المستوى المحلى والوطني، من خلال المجالس العسكرية، ولكنهم بحاجة إلى التنسيق بين تلك المجالس واللواءات, لذلك جاءت عملية توحيد الجهود باجتماع أكثر من كتيبة في يوليو 2012 ، وتم تكوين لواء التوحيد، وحذت حذوهم الكتائب الأخرى، وأصبح كل لواء له ملابسه الرسمية، أو شارات مميزة، ولكل لواء قائد عسكري، وقائد سياسي.
ولكن إنشاء اللواءات لم يسهم كثيرا في وجود تنسيق استراتيجي أو تدريبات مشتركة لتوحيد العمليات العسكرية. لذلك بعد اجتماع عدد من الضباط السابقين، وقادة الجيش السوري الحر، قرروا إنشاء المجالس العسكرية للجمع بين ممثلي اللواءات المختلفة، وذلك في كل محافظة. كما أنشأت القيادات العسكرية والسياسية فى أغسطس 2012 "مكتب أمين الثورة "، وتم الاتفاق مع اللواءات المختلفة على سلطات واسعة للمكتب، وتم إنشاء وحدة عسكرية لتلك المؤسسة الناشئة، تتكون من مقاتلين تابعين للواءات مختلفة، ولهذا المكتب دور في ضبط ميزان القوى بين الجماعات المسلحة المختلفة، وأصبح أداة لتحقيق الانضباط في يد الجيش السوري الحر، وله مهام متعددة.
– عدم التواصل بين اللواءات ذوى الشرعية الثورية، كما أن القيادات في المستويات العليا فنيون، ولا يمتلكون ترتيب أجور للمقاتلين, حيث يهيمن على المجالس العسكرية الضباط الوظيفيون، بينما اللواءات يقودها المدنيون الذين انضموا للثورة. وبسبب نقص التمويل، والموارد المتاحة، وجد الضباط أنفسهم في موقف ضعف في علاقاتهم باللواءات، ونقص سلطاتهم في السيطرة عليهم، وقد تمت عملية اقتحام حلب بموافقة قيادات اللواءات وليس الضباط.

عوائق بناء الدولة

من شأن الولاءات غير المرتبطة بالدولة، والأيديولوجيات، والمصالح المتصارعة التأثير في بناء الدولة السورية. فبعض الحركات مثل جبهة النصرة، وحزب العمال الكردستاني، لهما هياكل عسكرية وسياسية لتحقيق مشاريع ثورية خاصة بعيدة عن المشهد السوري تماما. فجبهة النصرة تخدم مشروع الجهاد العالمي، وتسعى لتطبيق الشريعة، ولا تعترف بالمختلف معها، خاصة العلويين. أما حزب العمال الكردستاني، فله أهداف قومية كردية، ويقف موقفا محايدا بين النظام والثوار, وكلاهما له شبكات عابرة للقوميات، وأهداف استراتيجية في سوريا بعيدة عن مشروع بناء الدولة السورية، ومن شأنهما إضعاف مشروع بناء الدولة، وذلك كالتالي:

أولا-جبهة النصرة وإضعاف مشروع بناء الدولة القومية:

نشأت جبهة النصرة من أجل إسقاط النظام، وتطبيق الشريعة بأسس إسلامية في إطار "تطبيق الحدود " , وتعارض جبهة النصرة مشروع بناء الدولة، ولديها محكمة للاختصاص بالشئون العسكرية والمدنية، انطلاقا من رؤيتها، ولديها سجن في حلب، وتدعم جبهة النصرة المحاكم المحلية، وتقاوم الاندماج في اتحاد المحاكم، ورفضت الانضمام إلى الجيش السوري الحر، وتتمتع بنوع من الاستقلال، ولها مصادرها من الدعم الخارجي .
وتُحكم جبهة النصرة قبضتها على مجنديها، وتضع فترة تجنيد تجريبية، ويعتمد الانتماء إليها على حلف اليمين، امتثالا لقواعد عقيدية صارمة, وتلاقى جبهة النصرة شعبية واسعة، خاصة بين المسلمين السنة، وتسهم في خدمات مجتمعية مثل توزيع المساعدات، وعلاج الجرحى، وتوزيع السلع الأساسية، وتأمين احتياجات السكان من الخبز، وضمان عدم رفع أسعاره. وقد حققت الجبهة انتصارات سياسية وشعبية كبيرة بسبب تلك الأعمال, وتقوم الجبهة بالتنسيق مع حركات تتشابه معها في الأفكار مثل لواء تحرير الشام، ولواء حركة فجر الإسلام، ولواء صقور الشام .

ثانيا- أكراد سوريا والاستقلال الذاتي:

تعاون حزب العمال الكردستاني مع النظام بعد مغادرته تركيا, وأعطت الحرب الأهلية الدائرة في سوريا الحزب الفرصة لإعادة إنشاء نفسه مرة أخرى. ومع اندلاع الثورة في سوريا 2011 ، تفاوض الحزب مع النظام للرجوع إلى الأقاليم الكردية مقابل تحييده في الصراع القائم. وجاءت موافقة الحكومة السورية منعا للانقسامات الطائفية، وتأجيج الصراع القائم. ومع ذلك، لا تزال قوات الأسد تتدخل في المناطق الكردية الثلاث، حتى سيطرة الجيش السوري الحر على معظم الشمال، فانسحبت القوات النظامية، كي لا تعطى الجيش الحر ذريعة للتدخل، وهنا حل حزب العمال الكردستاني محل القوات النظامية دون عنف في الأحياء الكردية.
وتم إنشاء الحزب مرة أخرى بخبرة عسكرية، وهياكل انتقالية، واستطاع السيطرة على المناطق الكردية، وطرد العناصر الأخرى الأقل هشاشة وتنظيما, وأصبح لحزب العمال الكردستاني شراكة استراتيجية مع الحركة الاجتماعية الديمقراطية، والاتحاد الديمقراطي للإسهام في إدارة الأقاليم الكردية. ويسيطر حزب العمال الكردستانى على تلك الحركات، ويفرض خطابها السياسي، وعملية تجنيد أعضائها وتدريبهم من قبل كوادر الحزب. وأنشأ الحزب وحدات دفاع شعبية بقيادة مقاتلي الحزب، وأصبح يطبق نظام التجنيد لحراسة الحدود. ويقابل حزب العمال الكردستانى عائقان أمام تحقيق أهدافه، هما :
– إن الأكراد يعيشون في ثلاث مناطق متفرقة يصعب توحيدها، ويعيش نصفهم في حلب ودمشق.
– إن المناطق الكردية تعتمد على المناطق العربية لإمدادها بالسلع الأساسية.

زيادة الانشقاقات المجتمعية

تمثل النماذج السابقة أمثلة للانشقاقات المجتمعية التي- في حال استمرارها أو زيادتها- سوف تؤدى إلى حرب أهلية، كما حدث في لبنان 1970 ، وأفغانستان 1990. وفى هذه الحالة، لن يؤدى سقوط نظام بشار الأسد إلى انتهاء الصراعات والحرب الأهلية. وهنا، يأتي الصراع بين بناء الدولة، أو الانقسام السياسي. ولذلك، يعد بناء أحزاب سياسية أمرا مهما في سوريا لإدارة التنوع والاختلاف بشكل سلمى ديمقراطي، ولكن هناك مخاطرة، هي أن يؤدى ذلك إلى تكوين فواعل عسكرية سياسية قد تمنع اندماج المقاتلين في جيش وطني.
والتوترات الطائفية في سوريا من شأنها تأجيج الحرب الأهلية، سواء بين العرب والأكراد، أو بين السنة والشيعة. كما أن التمويل الخارجي قد يسهم في ذلك الانقسام السياسي، في حال اتجه للمقاتلين أكثر منه للمؤسسات الوطنية الناشئة، مما قد يعزز من اللامركزية. كما أن المساعدات الإنسانية على المستوى المحلى تعطى الجماعات المسلحة أداة لتحقيق الاستقلال، مما يضعف من محاولات المعارضة لبناء هياكل وطنية، ويجعلها أكثر هشاشة .

دور المساعدات الدولية

تلعب المساعدات الخارجية دورا في بناء الدولة والمؤسسات , ويجب على المساعدات الخارجية أن تتجنب الانقسامات الداخلية، خاصة في ظل احتمالية الصراع بين الجيش السوري الحر والمؤسسات الناشئة. كما تلاقى فكرة حظر الطيران فوق المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام دعما دوليا، ومن الممكن أن يسهم ذلك في بناء المؤسسات، خاصة في ظل إمكانية سقوط النظام الحاكم قبل اكتمال سيطرة الثوار على حكم البلاد، مما يجعل من الضروري على المجتمع الدولي الإسهام في بناء تلك المؤسسات. ومجرد إصلاحات بسيطة في الجيش السوري الحر قد يكون من شأنها إحداث نتائج مذهلة.
والأهمية الآن ليست لتسليح الجماعات، بل لإنشاء الجيش الوطني، ودفع رواتب مستمرة، وتدريبات تسهم فى الانتقال إلى الجيش الوطني. ومن أجل ضمان عدم التجزئة، يجب أن يعمل الائتلاف الوطني كحكومة مؤقتة مسئولة عن التنسيق، وإعادة توزيع الموارد. كما أن ضعف التنظيم المؤسسي، وضعف مؤسسات المجتمع المدني يؤكدان الحاجة إلى تمويل منتظم .
كما أن الدعم لا بد أن يوجه إلى الإعلام المستقل، ومصادر المعلومات المستقلة عن الوحدات العسكرية. ومن شأن ذلك أن ينشئ صحافة، وتليفزيونا، وراديو مستقلة تتابع المطالب الشعبية السورية، وتعد نافذة للمناقشة والتعبير عن الرأي، وتقلل من العنف الطائفي بين السوريين. كما أن الناشطين الشباب يمكن أن يشكلوا ثقلا موازيا للقوات المسلحة.

*معيدة بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى