التنظير لإعادة تقسيم البلدان العربية من برنارد لويس إلى روبرت رايت (عامر راشد)

 

عامر راشد


مشاريع تقسيم الدول العربية عادت بقوة إلى ساحة الجدل، بعد مقالة حديثة للكاتب روبرت رايت، أرفقها بما وصفه خريطة جديدة لخمس من دول المنطقة أعيد تقسيمها إلى أربع عشرة دولة، على أساس طائفي وإثني، عبر مشروع "سايكس- بيكو" جديد- قديم، يتحقق من خلال إنهاك دول وشعوب المنطقة بصراعات طائفية وإثنية، فيغدو تحقيقه أمراً ممكناً، خلافاً لإرادة الشعوب وحقائق التاريخ والجغرافيا.
نشر الكاتب مقالة، في صحيفة (نيويورك تايمز) الأحد الماضي، تحت عنوان "كيف يمكن لخمس دول أن تصبح 14 دولة"، وذلك وفق ما يزعم أنه في سياق إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، في تكرار لتنظيرات سبق أن أطلقها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عراب المحافظين الجدد برنارد لويس، وأعاد إطلاقها بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، ورددها وطورها صموئيل هنتينغتون، لتصبح بمثابة عقيدة سياسية لـ"المحافظين الجدد" فيما يخص السياسات الأميركية في البلدان العربية، لاسيما المشرقية منها.
ويستند الكاتب رايت في مقالته، والخريطة المرفقة بها، إلى قراءة الشكل الظاهري للصراع في العراق وسوريا، حيث يُقدَّم الصراع من قبل رايت، شأنه في ذلك شأن العديد من الكتاب الغربيين، كصراع طائفي إثني له جذوره التاريخية، ويسير ضمن صيرورة تاريخية تفرض نفسها لـ(تصحيح أخطاء وقعت في الماضي)، حسبما ادعى سابقاً برنارد لويس، وروّج له على امتداد عشرات السنيين.
بالطبع لا يمكن لمقالة رايت أن تأخذ الصدى الكبير، الذي حظيت به، لولا أنها تجتر ما نظَّر به لويس وطوره هنتينغتون، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من عقيدة "المحافظين الجدد"، وجزءاً من الخطط الاستراتيجية بعيدة المدى لمراكز صنع القرار الأميركي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وسنأتي على هذه النقطة لاحقاً.
يدعي رايت في مقالته والخريطة المرفقة بها، أن الصراعات الناشبة حالياً، أو التي من المؤكد أنها ستنشب مستقبلاً، ستفضي إلى تقسيم خمس بلدان عربية لتصبح أربعة عشر كياناً طائفياً واثنياً. وبالتفصيل على حد زعم رايت، ستقسم سوريا إلى ثلاث دويلات: دويلة كردية (كردستان الغربية) في منطقة القامشلي، وبعض مناطق شمال سوريا، ومصيرها مستقبلاً الانضمام إلى كردستان العراق. ودويلة علوية تمتد من اللاذقية شمالاً ومناطق من حمص في الوسط ودمشق ودرعا والسويداء في أقصى الجنوب. ودويلة سنية تشمل باقي المناطق السورية، ويمكن أن تتحد مستقبلاً مع المناطق السنية العراقية.
بينما سيقسم العراق، بإدعاء رايت، إلى ثلاث دويلات: دويلة كردية في الشمال، ودويلة سنية في الوسط والغرب، ودويلة شيعية في الجنوب. أما السعودية فستقسم إلى خمس دويلات، وليبيا إلى ثلاث دويلات، واليمن إلى دويلتين. في حين غاب عن خريطة رايت مشاريع تقسيم السودان إلى دويلات أيضاً على أساس عرقي وجهوي، ولعل ذلك سقط سهواً، أو اعتبره الكاتب بحكم المحقق على أرض الواقع.

اللافت في مقالة رايت والخريطة المرفقة بها، أنها بادئ ذي بدء تخالف حقائق التاريخ والجغرافيا، لكنها تلتف على هذا بادعاء أنها تقدِّم قراءة واقعية لمجريات الصراعات في العراق وسوريا واليمن، وما سينتج عنها وفق قراءته الخاصة. واحتمال اندلاع صراع في المملكة العربية السعودية، بناء على مؤشرات يرى البعض أنها قائمة بالفعل، وقد تنطلق شرارتها في أي وقت، على ضوء عدم استجابة حكومة المملكة للإصلاحات المطلوبة في مواجهة رياح ثورات "الربيع العربي"، ومراهنتها على أنها تستطيع إبعاد الرياح عنها بمزيد من الإنفاق، بدل إدخال تعديلات جوهرية في بنية النظام السياسي السعودي.
وللوهلة الأولى؛ ربما يخيل للبعض، وهم كثر، أن رايت ينطلق من قراءة واقعية لواقع حال يعلن عن نفسه بقوة، إلا أن قليلاً من التدقيق في الخريطة التي يقدمها، وقد أشار عدد من الزملاء الصحفيين إلى ذلك، تنم عن جهل بالواقع الديمغرافي، والخريطة الطائفية والإثنية لدول المنطقة. لكن لندع ذلك جانباً رغم أهميته، خدمة للتركيز على حقيقة تاريخية أغفلها أولا يعرفها رايت، وهي أن شعوب بلدان المشرق العربي استطاعت في سياق رفضها ومقاومتها لمشروع "سايكس بيكو" إجبار الحكومتين البريطانية والفرنسية آنذاك، على تعديل المشروع لصالح كيانات وطنية عابرة للطوائف والمذاهب، التي لم تكن في يوم من الأيام تشكِّل أساساً لتقسيم جغرافي-سياسي في المنطقة.
ما يعني أن قيام كيانات سياسية في المشرق العربي، كبيرة نسبياً بالقياس إلى التقسيم الأول، الذي اعتمد في مشروع "سايكس بيكو"، لم يكن خطأ (تاريخيا) يجب أن يصوب بخريطة جديدة تعيد رسم جغرافيا المنطقة، إنما منجز كفاحي انتزعته الشعوب العربية في نضالها ضد الاستعمار الغربي في النصف الأول من القرن الماضي. فضلاً عن أن فرض كيانات  طائفية ومذهبية وإثنية يخالف ما تؤمن به الأغلبية الساحقة من شعوب المنطقة وميراثها الحضاري والثقافي والديني.
غير أن ما جاء في مقالة رايت، والمجتر نقلاً عن تنظير لويس وهنتينغتون، يستمد تبريراته من قراءة واقع سياسي مريض ينخر الأنظمة السياسية لدول المشرق العربي، تعشش فيه الطائفية السياسية في شكل أو آخر، منها ما هو علني ومشَّرع، كما هو الحال في لبنان والعراق. وهذا في حقيقة الأمر يمثِّل خطراً كبيراً وداهماً على مستقبل شعوب المنطقة ودولها، وإذا لم يصوب بلجم الطائفية السياسية سيجعل من ترهات رايت، وتنظير  لويس وهنتينغتون، احتمالاً مأساوياً غير مستبعد.
لاسيما عندما تتبنى أطراف رئيسة في المعارضة المسلحة، شعارات طائفية معادية لمبدأ دولة مدنية. فهذه القوى هي حصان طروادة لمشاريع تقسيم المنطقة، وتتشارك معها الطائفية السياسية التي تخنق أي كيانات سياسية وحزبية عابرة للطوائف والمذاهب.
ولنتذكر مقولة لبرنارد لويس، أطلقها في أيار/مايو 2005 جاء فيها: "الحل السليم للتعامل مع العرب هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أميركا بهذا الدور، فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة، لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داع لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم..".
اللافت أن لويس مهَّد لمقولته بتوقع قيام حركات شعبية عربية وإسلامية معارضة، أسماها على طريقته بـ(موجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات..). وفي خلفية كل ما سبق مشروعه لتفتيت المشرق العربي ودول شمل أفريقيا، وموافقة الكونغرس الأميركي عام 1983 على هذا المشروع، وإدراجه في الخطط الإستراتيجية للولايات المتحدة على المدى الطويل. واليوم بات البعض من أمثال روبرت رايت يرون أنه صار ممكن التحقيق.


وكالة أنباء موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى