لا سبيل لهروب أمريكا من نيران الشرق الأوسط (فيليب ستيفنز)

 
فيليب ستيفنز


الشرق الأوسط يحترق والولايات المتحدة تخرج منه. ربما يوجد عنصر واحد من المبالغة في هذه الملاحظة، لكنه يبقى عنصرا واحدا فقط. فقد أصبحت ديناميكيات الصراع المتصاعد وفك ارتباط واشنطن بالمنطقة تعزز بعضها بعضا. إذ كلما ازدادت النيران اشتعالاً، زادت رغبة واشنطن في الهروب بعيداً عنها.
يتحدث زعيم أوروبي سابق له علاقات قوية مع العالم العربي عن "تمرد" إقليمي ضد الولايات المتحدة على وجه الخصوص والغرب بشكل عام. مثلاً كان قرار السعودية رفض عضوية مجلس الأمن موجهاً ضد الولايات المتحدة أكثر مما هو موجه للمجتمع الدولي، وهو إشارة إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل. كذلك رفضت الدول العربية دعم الفلسطينيين مالياً أثناء وساطة الولايات المتحدة من أجل عقد صفقة سلام مع إسرائيل. ووصل الإحباط من الولايات المتحدة إلى تركيا أيضا، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي، عبد الله غول، منذ عدة أيام حين قال إن غياب الحزم الأمريكي سمح لسورية بأن تكون مركزاً للجهاديين ـ بمعنى أنها تتحول إلى أفغانستان على البحر الأبيض المتوسط.
ويُعتبر هذا الجزء من العالم مركزاً لنظريات مؤامرة جامحة. مثلا، ذكرت إحدى صحف الخليج الناطقة بالإنجليزية أن هناك مؤامرة أمريكية – إيرانية لإضعاف الدول العربية عن طريق تأجيج نيران الطائفية بين السنة والشيعة. هل هذا أبعد من الخيال؟ طبعاً. لكن ذلك ليس أكثر غرابة مما علِمْتُه خلال أيام قليلة في البحرين عن الشكوك بين كثير من العرب السنة. فقد أخبرني أحد المسؤولين الكبار عن شائعة يتم تداولها على نطاق واسع تفترض وجود مؤامرة بين إسرائيل وإيران وقد صدقها كثيرون.
ويمضي الحديث كالتالي: بدأت أمريكا محادثات جديدة مع إيران حول برنامجها النووي؛ والصفقة الأمريكية مع موسكو حول التخلص من أسلحة سورية الكيماوية تركت الرئيس بشار الأسد حراً في قتل الأغلبية السنية في بلاده؛ وتم استقبال نوري المالكي، الرئيس "الشيعي" العراقي في البيت الأبيض. فهل هناك حاجة إلى برهان إضافي على أن إدارة الرئيس باراك أوباما تقف الآن إلى الجانب الشيعي في هذا الانقسام الطائفي؟ هذا هو الحديث الذي يملأ الأجواء بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن التزاماتها في المنطقة.
والواقع أن الولايات المتحدة قررت بالفعل الابتعاد عن المنطقة. فالرئيس أوباما يقول إنه انتُخب لينهي حروب أمريكا، وليس لبدء حروب جديدة. وكان التمحور حول آسيا أول إشارة إلى تغيير الاتجاه، على الرغم من الضبابية التي سببتها الثورات العربية، وكذلك الاعتراف بالهزيمة في أفغانستان. وفي أماكن أخرى تكرر فك الارتباط بعد أن قادت الولايات المتحدة من الخلف عملية إزالة معمر القذافي عن حكم ليبيا، وتعهدت بعدم التدخل في سورية بعد كثير من التردد.
وتطورت هذه القرارات لتصبح استراتيجية تحددت معالمها أثناء حديث أوباما للجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد تم إغفال هذا الحديث في خضم دوامة الأحداث في سورية وإغلاق الحكومة في واشنطن، لكن التاريخ سيسجل أن ذلك كان اللحظة التي تخلت فيها الولايات المتحدة عن نصف قرن من قيادة الشرق الأوسط.

بالطبع، لم يقل الرئيس ذلك بالضبط. لكنه قال إن الولايات المتحدة ستستخدم كل الوسائل التي في حوزتها، ومنها قوتها العسكرية، لحماية مصالحها الأساسية في المنطقة. ويتضمن ذلك حماية حلفائها من الاعتداءات الخارجية، ومواجهة الإرهابيين الذين ينوون مهاجمة الولايات المتحدة، والحفاظ على حرية تدفق الطاقة. وستبقى سياسة الولايات المتحدة الخارجية مركزة بقوة على منع إيران من الحصول على أسلحة نووية، والسعي نحو السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومع ذلك، رسم أوباما حدوداً ضيقة أثناء طرحه للأولويات. فالولايات المتحدة لها مصلحة في نشر الديمقراطية، لكن ليس بالإمكان فرضها على أحد. وستحترم الولايات المتحدة سيادة الدول، ولن تؤيد أي جانب في مصر، ولن تفرض أية تسوية في سورية. لقد فهمت أمريكا أن الصراعات الطائفية لا يمكن تسويتها بالتدخل الخارجي. وتم استبدال الحقائق القاسية بالتدخل الليبرالي وبادلت الولايات المتحدة قوتها المتفوقة في الشرق الأوسط بموازِن الأوفشور (بمعنى قوة إقليمية مقيمة للدفاع عن مصالحها في المنطقة).
ومن الممكن رؤية كيف وصل أوباما إلى هنا. فقد كشف سقوط الأنظمة الاستبدادية في العراق ومصر وسورية عن صدوع سنية – شيعية عميقة. وهناك القليل ممن يدّعون أن اجتياح الولايات المتحدة للعراق كان ناجحاً. والتدخل الخفيف في ليبيا عمل على تغذية هجرة الجهاديين ناحية الساحل. وفشلت الولايات المتحدة في تشكيل الأحداث في مصر، بينما استغلت روسيا الحرب في سورية لإعادة تأكيد قوتها في المنطقة.
ولم يكن للغرب أي سجل ليتفاخر به في الشرق الأوسط، وكان دائماً عرضة للاتهام بأنه يُمارس معايير مزدوجة. والآن نرى كيف عمل الثمن الذي دفع بالمال والدم في سنوات الحروب الأخيرة على استنزاف إرادة أمريكا للعمل على ما هو أبعد من الدفاع عن مواطنيها. وحتى الذين يؤيدون من قلوبهم التدخل ويقفون إلى جانبه، لا يستطيعون تقديم استراتيجيات لا تؤدي إلى جر الغرب نحو النيران المشتعلة في المنطقة.
ورغم كل ذلك، يغلب على ظني أن أوباما سيجد أن من الأهون عليه أن يفصح عن منهجه الجديد بدلاً من تنفيذه. فالتحركات الافتتاحية في المفاوضات النووية مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، كانت مشجعة، لكنها لم تزد على ذلك. وإذا أخفقت واشنطن وطهران في التوصل إلى اتفاق يسمح لإيران بامتلاك القوة النووية السلمية، وفي الوقت نفسه يحظر عليها امتلاك القدرة على تصنيع قنبلة، فإن جميع الرهانات في المنطقة ستلغى.
ويقع في قلب الانقسام في الشرق الأوسط ارتفاع حدة التوتر بين السعودية ودول خليجية من جهة وإيران من جهة أخرى، ومن دون اليد الأمريكية الكابحة، ربما يخرج هذا الصراع عن السيطرة. فقد بينت التجارب المستقاة أولاً من العراق وبعد ذلك من ليبيا، مخاطر أنواع مختلفة من التدخل، وكشفت سورية عن المخاطر المخيفة التي يمكن أن تصاحب عدم التدخل.
في الشهر الماضي أخبرت سوزان رايس، مستشارة أوباما لشؤون الأمن القومي، صحيفة "نيويورك تايمز" أن الدوافع الكامنة وراء تغيير سياسة الولايات المتحدة هي القناعة بأن أمريكا "لا تستطيع أن تبقى منشغلة مدة 24 ساعة لمدة سبعة أيام في الأسبوع بقضايا منطقة واحدة، حتى لو كانت هذه المنطقة مهمة". ربما يبدو هذا اقتراحاً سريعاً ومعقولاً. يغلب على ظني أنه كذلك اقتراح يعزى إلى الأمل بقدر ما يعزى إلى الواقعية في السياسة.

فاينانشال تايمز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى