من الانقلاب إلى دولة السلطان… كيف تغيرت تركيا بعد أحداث يوليو 2016

في تطور أصبح نقطة انطلاق في تاريخ البلاد الحديث قد يحدد مسارها السياسي الاجتماعي لعقود طويلة، شهدت تركيا منذ عام واحد تماما محاولة انقلاب عسكري ضد السلطات الحالية باءت بالفشل. وأطلقت مجموعة من العسكريين الأتراك، ليلة 15 إلى 16 يوليو/تموز من العام الماضي، حراكا انقلابيا مثلت العاصمة أنقرة وأكبر مدينة في البلاد اسطنبول ساحته الأساسية، وسعت خلاله إلى السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والإعلامية والإطاحة بسلطة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس وزرائه، بن علي يلدريم.

وأخرج المشاركون في هذا الانقلاب الفاشل عشرات من الدبابات إلى الشوارع، كما شنوا ضربات من مقاتلات “F-16” على كل من القصر الرئاسي ومبنى البرلمان، في أنقرة، واستولوا على مقر حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بالمدينة ذاتها، فيما سيطروا على جسر مضيق البوسفور في اسطنبول، ومطار أتاتورك الدولي فيها، ومطار إيسنبوغا الدولي في العاصمة أنقرة، وكذلك على مقرات أكبر القنوات التلفزيونية، التي أعلنوا عبرها عن توليهم زمام السلطة في البلاد.

إلا أن قوات الجيش الموالية للرئيس أردوغان، بدعم من الشرطة، وبمشاركة واسعة من قبل مواطنين عاديين خرجوا بعشرات الآلاف إلى الشوارع، تمكنت من إحباط هذا الانقلاب خلال فترة وجيزة.

وتتهم أنقرة بإصرار الداعية والمعارض التركي، فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة، بالوقوف وراء هذه المحاولة الفاشلة، لكن السلطات الأمريكية رفضت تسليمه لتركيا.

وأدت محاولة الانقلاب، حسب السلطات التركية، إلى مقتل حوالي 300 شخص، وتلاها إعلان حالة الطوارئ في البلاد وإطلاق حملة غير مسبوقة لتطهير مؤسسات الدولة من معارضي الحكومة الحالية، وإلقاء القبض على الآلاف من العسكريين والمدنيين بتهمة الضلوع في محاولة الانقلاب أو الانتماء إلى حركة المعارض فتح الله غولن.

سلطة الرئيس

ويعتبر الخبراء أجمعين تقريبا أن النتيجة السياسية الأساسية لمحاولة الإطاحة بحكم أردوغان تتمثل بالتعزيز الحاد لمواقع الرئيس التركي، الذي تمكن، من خلال بقائه في تركيا خلال الحراك الانقلابي ودعوته للمواطنين إلى المقاومة، من الحصول على دعم عام واسع. وأشار مدير مركز سان بطرسبورغ لدراسات الشرق الأوسط الحديث، عمر عيسايف، في مقابلة مع شبكة “RT” إلى أن “أردوغان يحظى بتأييد كبير في تركيا، بما في ذلك في المجتمع، ويمكنه أن يكون واثقا بنفسه خلال فترة زمنية طويلة”.

وأوضح الخبير الروسي أن هذا الدعم أصبح آلية أساسية استخدمها أردوغان لاحقا، عندما نظم الاستفتاء العام في البلاد حول الانتقال من نظام الجمهورية البرلمانية إلى نظام الجمهورية الرئاسية، الذي أدى إلى التعزيز الملموس لسلطته.

وصوت 51 بالمئة من المشاركين في عملية الاستفتاء، التي جرت يوم 16 أبريل/نيسان الماضي، لصالح توسيع صلاحيات الرئيس التركي، لكن معظم التعديلات في دستور البلاد ستدخل حيز التنفيذ فقط في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2019، أي بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.

وهناك تغييران اثنان فحسب بدأ مفعولهما فورا بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء، وهما أولا السماح للرئيس التركي أن يكون عضوا في حزب سياسي، وهذا ما استفاد منه أردوغان لاحقا من خلال توليه زعامة “حزب العدالة والتنمية”، وثانيا منح الرئيس (أردوغان) صلاحية تعيين أعضاء اللجنة الخاصة، التي تزكي القضاة وتثبتهم في مناصبهم القضائية.

وفي غضون ذلك، شدد المحلل السياسي والخبير في الدراسات الشرقية، يفغيني باخريفسكي، في حديث لـ”RT”، على أنه “مهما كانت في الحقيقة الجهة الواقفة وراء محاولة الانقلاب، فإن المستفيد الأساسي منها هو الرئيس التركي الحالي، الذي دحر معظم معارضيه وعزز مواقعه بصورة كبيرة، وفاز في الاستفتاء الدستوري في ظروف عمل حالة الطوارئ”.

ويعتبر المتابعون أن إعلان حالة الطوارئ في تركيا على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة أسهم أيضا في تنامي السلطة الشخصية للرئيس أردوغان، حيث قال عمر عيساييف في هذا السياق: “إن أردوغان، ومن خلال إعلان حالة الطوارئ، سلك طريق زعماء الشرق الأوسط، ونحن نعلم، على سبيل المثال، أن أحكام حالة الطوارئ كانت معمولا بها على مدار عقود في مصر، مما أتاح للسلطات أن تفعل كل ما كانت تشاء”.

بدوره، بين يفغيني باخريفسكي أن “تركيا، وفقا لتقديرات كثير من المحللين، تتحول بوتيرة سريعة إلى دولة شرق أوسطية عادية تتميز بااستخدام الآليات السلطوية للإدارة”، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن “الانتقال من الديمقراطية البرلمانية إلى نظام السلطة القوية للزعيم قد يعتبر أمرا طبيعيا، إذا ما علمنا أن الحروب الأهلية وبؤر عدم الاستقرار تحيط بتركيا”.

الإجراءات العقابية

عملية تعزيز السلطة الشخصية للرئيس التركي تجري بالتزامن مع حملة غير مسبوقة لتطهير مؤسسات الدولة من العناصر غير الموالين للحكومة الحالية، حيث أعلنت وزارة العدل التركية، عشية الذكرى السنوية الأولى لمحاولة الانقلاب، أن السلطات القضائية في البلاد اتخذت إجراءات قانونية بحق 169 ألفا و13 مشتبها به في إطار التحقيقات الجارية في قضية مكافحة “منظمة غولن الإرهابية”، التي تقول أنقرة إنها خططت ونفذت المحاولة الانقلابية الفاشلة.

وأضافت الوزارة أنه تم حبس 50 ألفا و510 أشخاص عقب هذه الأحداث، ومن بين المعتقلين 169 جنرالا، و7098 ضابطا، و2431 موظفا قضائيا، و24 محافظا. بدوره، ذكر عمر عيسايف أن “العدد الإجمالي للأشخاص الذين تمت إقالتهم من مناصبهم وتسريحهم وفقدوا عملهم يصل إلى حوالي مليون شخص”.

لكن عمليات المحاكمة الأولى بحق المشتبه بمشاركتهم في محاولة الانقلاب بدأت فقط في مايو/أيار من العام الحالي ، حيث تم توجيه التهم لـ221 شخصا، بينهم 26 جنرالا و26 عقيدا ومقدما و37 من ذوي الرتب الوسطى.

ومنذ شهر واحد تماما أصدرت محكمة الجنايات التركية أولى قراراتها القضائية في إطار عمليات المحاكمات هذه، وقضت بالسجن المؤبد بحق 23 شخصا، كما برأت شخصين.

وتشتبه السلطات التركية في غالبية الموقوفين، وخاصة من بين المدنيين، بالمشاركة في أنشطة مؤسسات فتح الله غولن، المتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، والذي تطالب النيابة العامة التركية بإصدار حكم بسجنه لمدة 2000 عام، بالإضافة إلى حكمين بالسجن المؤبد.

وأدت هذه الحملة، حسب ما يقوله الخبراء، إلى دحر حركة غولن في الأراضي التركية، التي كانت قوية جدا في أوائل القرن الجاري ومثلت سابقا أحد أهم حلفاء حزب الرئيس الحالي.

وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي والخبير في الدراسات الشرقية، ألكسندر سوتنيتشينكو، إن “القيادة التركية تمكنت بدرجة كبيرة من تركيز زمام السلطة في أيديها والقضاء على خصومها الإديولوجيين الأساسيين، أي حركة فتح الله غولن، التي تم تدميرها بشكل كامل”.

إضعاف الجيش

ومن بين التداعيات الأساسية لمحاولة الانقلاب الفاشلة وحملة التطهير بالنسبة لمؤسسات الدولة التركية، الإضعاف الملحوظ للجيش، وهو ما أظهرته، حسب الخبراء، عملية “درع الفرات”، التي نفذتها القوات التركية في شمال سوريا خلال الفترة بين 24/08/2016 و29/03/2017 بمشاركة القوات البرية والدبابات وسلاح المدفعية وبغطاء من سلاح الجو، وبالتعاون مع مسلحي “الجيش السوري الحر” وفصائل متحالفة معه من المعارضة السورية، من أجل تطهير كامل المنطقة الحدودية من “جميع الإرهابيين” وطردهم نحو العمق السوري، حسب ما قالته أنقرة.

وبهذا الخصوص أشار ألكسندر سوتنيتشينكو إلى أن السلطات التركية “سعت لتطهير الجيش من جميع العناصر، الذين اشتبهت بأنهم غير موالين للحكومة بدرجة كافية، في خطوة كان من شأنها نظريا تعزيز الجيش”، إلا أن هذه العملية أدت، حسب الخبير الروسي، إلى تبعات عكسية.

وأوضح سوتنيتشينكو: “أظهرت حملة درع الفرات… أن الجيش التركي ليس على مستوى إعداد كاف لتنفيذ عمليات برية واسعة النطاق، علما بأن القوات التركية احتاجت إلى وقت طويل جدا للسيطرة على مدينة الباب(السورية) الصغيرة”.

بدوره، أكد مدير مركز التقلبات السياسية، إيفان كونوفالوف، أن ” تبعات محاولة الانقلاب انعكست بصورة سلبية جدا على حالة القوات المسلحة لتركيا”، معتبرا أن الأخيرة تمكنت من السيطرة على مدينة الباب فقط بفضل الدعم من قبل سلاح الجو الروسي، الذي وجه عددا من الضربات إلى المواقع الحيوية لمسلحي “داعش” في المدينة.

وأشار الخبراء الروس في هذا السياق إلى أن المهمة الأكثر أهمية حاليا أمام الرئيس التركي هي تنمية نخبة عسكرية جديدة في البلادة لعودة فعالية الجيش بعد حملة التطهير.

نهاية الانقلابات العسكرية؟

نفذ الجيش التركي، الذي يعتبر نفسه تقليديا الجهة المسؤولة عن الحفاظ على التراث السياسي الإديولوجي لمؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، 3 انقلابات عسكرية خلال نصف القرن الماضي، الأول في عام 1960 والثاني في عام 1971 والثالث في عام 1980، وذلك بالإضافة إلى ما أطلق عليه اسم “الثورة بعد الحداثة” عام 1997، عندما أجبر مجلس الأمن التركي الحكومة الإسلامية لرئيس الوزراء الراحل، نجم الدين أربكان، على الاستقالة.

لكن أردوغان يتبع، منذ العام 2010، حينما تولى منصب رئيس الحكومة، نهجا واضحا لإضعاف المواقع السياسية للجيش في تركيا، ونظم آنذاك استفتاء أجرى من خلاله تعديلات في الدستور التركي قضت على بعض الآليات التي استخدمتها قيادة القوات المسلحة للتدخل في الحياة السياسية للبلاد.

ويشير المتابعون إلى أن محاولة الانقلاب العسكري في عام 2016 وما تلاها لاحقا من استئصال العناصر غير الموالية للحكومة التركية من الجيش، تضع نهاية لفترة الانقلابات العسكرية في البلاد.

وقال ألكسندر سوتنيتشينكو بهذا الصدد: “أعتقد أن احتمال وقوع انقلاب عسكري تم استبعاده تماما، حيث طردت السلطات كل من كان غير موالي للحكومة”.

من جانبه، أكد اللواء البحري المتقاعد في البحرية التركية، سونير بولات، في حديث لـ”RT”، أن القوى المعارضة للرئيس التركي وأنصاره في صفوف الجيش لن تتمكن في العقود القريبة القادمة من تدبير انقلاب جديد، لكنه اعتبر أن عناصر حركة غولن قد ينتقلون إلى تكتيك اغتيالات الشخصيات السياسية البارزة.

بدوره، قال إيفان كونوفالوف إنه لا يجب استبعاد إمكانية حدوث محاولة انقلابية جديدة في تركيا، إلا أنه لفت إلى أن الحراك العسكري المحتمل ستنفذه، على الأرجح، الاستخبارات التركية وليس الجيش، موضحا أنها على صلات وثيقة بالولايات المتحدة، التي تقف، برأيه، وراء أحداث يوليو/تموز عام 2016.

التوتر في العلاقات مع الغرب والتقارب مع روسيا

أما في ما يتعلق بمجال السياسية الخارجية لتركيا، فشهدت هذه الساحة أيضا تغيرات كبيرة ملحوظة أبرزها توتر العلاقات التركية مع العالم الغربي، والتقارب مع روسيا.

ويشير الخبراء إلى وجود عدد كبير من الأسباب للتوتر في العلاقات بين تركيا والغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي تتحدث تقارير وتحقيقات صحفية في تركيا بصوت عال عن تورط واشنطن في المحاولة الانقلابية الفاشلة.

وقالت صحيفة “Yeni Safak” التركية الحكومية إن دور المنسق في التحرك العسكري في يوليو/تموز عام 2016 قام به الجنرال الأمريكي، جون ف. كامبل، الذي يقود قوات الناتو في أفغانستان، فيما نقلت صحيفة “Akşam” أن المشاركين في محاولة الانقلاب نسقوا أعمالهم مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عبر غرام فولير، نائب المجلس الوطني للاستخبارات، وصب الزيت في النيران رفض السلطات الأمريكية تسليم فتح الله غولن للحكومة التركية.

كما شهدت العلاقات بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي أيضا تفاقما حادا على خلفية محاولة الانقلاب، وخاصة مع ألمانيا، التي اتهمتها تركيا مرارا بـ”دعم الإرهاب” ومرت علاقة أنقرة مع برلين بعدد من الفضائح الدبلوماسية، بحيث أجبرت السلطات الألمانية على سحب قواتها من قاعدة إنجرليك التركية.

وأكد يفغيني باخريفسكي في هذا السياق: “إن علاقات تركيا مع الغرب تدهورت بلا شك جراء محاولة الانقلاب، لأن التفسير الرسمي للأحداث، الذي يميل إليه الجزء الأكبر من المجتمع التركي، يتحدث عن الضلوع غير المباشر للولايات المتحدة ودول أخرى من حلف الناتو في الانقلاب”.

وأشار سونير بولات إلى أن تركيا تسير، في ظل هذه الظروف، باتجاه السياسة الخارجية الأورواسية الهادفة إلى الاستقلال عن الغرب، والتعاون مع روسيا، التي قام أردوغان بزيارته الخارجية الأولى إليها عقب الانقلاب الفاشل.

ولفت يفغيني باخريفسكي في هذا السياق إلى أن العلاقات بين روسيا وتركيا بدأت بالعودة إلى مسارها الطبيعي بعد المحاولة الانقلابية، مشيرا إلى أن المجتمع التركي أصبح يؤمن بفرضية تقول إن الاستخبارات الروسية أبلغت السلطات التركية بالتخطيط لمحاولة الانقلاب العسكري قبيل تنفيذها.

ومن النتائج الأساسية لزيارة أردوغان إلى سان بطرسبورغ في 9 أغسطس/أب من العام 2016 وسلسلة المفاوضات على مستويات مختلفة بين الجانبين تعزيز التعاون الروسي التركي في مجال الأمن والسياسة الخارجية، مما سمح بإطلاق عملية أستانا الخاصة بتسوية الأزمة السورية.

روسيا اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى