استعادة معين بسيسو

بين عام النكبة 1948 وعام التغيير العاصف في مصر 1952 درس الشاعر الراحل معين بسيسو الإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة. عام تخرجه من الجامعة هو أيضاً عام صدور ديوانه الشعري الأول «المعركة» وهو عنوان بالغ الدلالة على المنحى الذي أخذته قصائد الشاعر الأولى هو الذي بدأ النشر قبل ذلك في مجلة «الحرية» التي كانت تصدر في يافا، وبدأ مع الشعر نشاطه السياسي الذي سيرافقه بعد ذلك طيلة حياته.

ولد معين بسيسو في مدينة غزة عام 1927، في عائلة ميسورة تهتم بالعلم وبتعليم أبنائها من الجنسين، وتهتم في الوقت ذاته في الشأن الوطني العام، الذي كان في تلك الأيام يحتدم ويغلي بحركة كفاحية تتهيأ لمواجهة النكبة الكبرى التي رآها الشاعر الشاب في سيل اللاجئين الذي تدفق على مدينته، خصوصاً من مدن وبلدات وقرى الساحل الجنوبي، و «استقر» في خيام لم تستطع الثبات في وجه العواصف والمطر:

«لم يترك السيلُ غير الحبلِ والوتدِ/ من ذلك الشعب أو من ذلك البلدِ».

سيرى الشاعر الفتى، إلى جانب صور النكبة ومشاهد المنكوبين، صور استبداد النظام الملكي المصري بحق كل من وقف يقاوم تلك النكبة:

«من لم تودع بنيها بابتسامتها/ إلى الزنازين لم تحبل ولم تلدِ»

هو صوت الفاجعة في برية الشعر والمعارك السياسية معاً، وسنجد أن مناخاً كهذا لم يكن مستغرباً أن يدفع الشاعر نحو قصيدة كلاسيكية ذات رنين صاخب، لكنها ستتجه بعد سنوات قليلة نحو قصيدة التفعيلة فتتخف إلى حدٍ بعيد من حماستها ورنينها، وتتوغل أكثر في شقوق الألم. هو توجه سنراه بوضوح في مجموعتيه الشعريتين الهامتين «فلسطين في القلب» و «الأشجار تموت واقفة»، خصوصاً وأن الشاعر عاش خلال تلك الفترة محنة السجن مع اليساريين المصريين في سجن الواحات. تلك التجربة القاسية ستكون بعد سنوات طويلة مادة كتابه النثري الآسر «دفاتر فلسطينية»، الذي صدر في بيروت أواخر سبعينات القرن الماضي وحمل شهادته على مراحل سياسية عصيبة وبالغة الأهمية، أبرزها انتفاضة فلسطينيي قطاع غزة ضد مشروع توطينهم في شبه جزيرة سيناء عام 1954. تلك التجربة المصرية القاسية في حياة معين بسيسو تجاورت مع تجربة التعايش مع الثقافة والمثقفين في مصر في مراحل متعددة كانت سمتها الأبرز جدية المثقفين في الوفاء لقضايا الناس ومعاناتهم اليومية.

حياة معين بسيسو شهدت تناقضات كبرى بين المعاناة في الوطن وبين المنافي الكثيرة من غزة إلى القاهرة ودمشق وبيروت وموسكو وبغداد. مدن وعواصم رحل إليها في ظروف متباينة، كان خلالها كاتباً في أكثر من صحيفة عربية، منها الثورة السورية والأهرام المصرية وبعض المجلات الأسبوعية اللبنانية. معين بسيسو أبدع في كتابة المقال الأسبوعي خلال وجوده في بيروت التي نشر فيها مجموعاته الشعرية كلها، إضافة إلى كتبه النثرية ومنها الأعمال المسرحية وكتابه عن «الأدب الصهيوني» وكتاب يومياته عن سجن الواحات «دفاتر فلسطينية».

في الشعر ذهب معين بسيسو إلى «الالتزام» بمفاهيم وأدوات يسارية مباشرة تعتمد الخطاب الشعري غير المركب، والذي يخاطب المجموع وتكاد تغيب منه أنا الشاعر الفردية سوى في قصائد متباعدة كانت تحمل شيئاً من روحه:

«الصمت موت

والقول ليس ما يقوله السلطان والأمير

وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير

للمهرج الصغير

وأنت إن نطقت مت

وأنت إن سكت مت

قلها ومت»

هي لغة تحدي الشعر للواقع أتت في سياق غاية التغيير وتوظيف الشعر من أجل تحقيق تلك الغاية ورفعها إلى مقام عال يجعل الاحتفال بالقيم النبيلة والشعارات الكبرى جوهر الشعر ومبرر وجوده.

اللافت في شعر معين بسيسو كان حضور الأيديولوجيا في صورة تحمل الكثير من الرغبة في توظيف الشعر في مقام التحريض، وهي مسألة لم تلبث أن أخذت بعد ذلك في الخفوت لصالح قصيدة تحتفي بالحياة وتمجد الإنسان أكثر. هنا بالذات نعثر على ولع معين بسيسو بالقصيدة «اللقطة» والقصيدة «المشهد»، ولعل هذا كان يضمر ولعاً آخر بالمسرح الذي بدأ الشاعر يكتب له أواخر الستينات.

أول مسرحيات معين بسيسو كانت «مأساة جيفا» عام 1969 ثم «ثورة الزنج» التي كتبها عام 1970 وقدمها المسرح القومي المصري بتوقيع المخرج الراحل نبيل الألفي وتمثيل عبدالله غيث ومحسنة توفيق، ومن ذكريات تلك الأيام أن بسيسو وقف على خشبة المسرح ولعب دور «عبد الله» قائد زنج البصرة الذي كان يؤديه غيث حين مرض الأخير خلال بعض أيام العرض. بعد «ثورة الزنج» كتب بسيسو مسرحياته الأخرى «جيفارا»، «العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع»، «شمشون ودليلة»، «الصخرة» و «محاكمة كتاب كليلة ودمنة». كتب بسيسو مسرحياته وفق أسلوب المسرح الشعري ببنائية أساسها المشهد الواحد المستقل، والذي يؤسس مع المشاهد الأخرى رؤية أقرب إلى الومضات، فيما يلعب الحوار الشعري الدور الأهم من خلال التكثيف والابتعاد عن الإسهاب والإطالة.

عاش معين بسيسو في قلب الحياة محتشداً بشغف المواجهة مع نكبة وطنه ومأساة شعبه، وواجه كل أشكال الغربة بوعي العلاقة الوجودية بين الإبداع وبين قوة الأمل، فكتب تجربته بروح يقظة أخلصت لقناعاته وأفكاره. انتقل بين البلاد والعواصم وعاش حصار بيروت عام 1982 وخرج منه بأجمل وأهم قصائده «القصيدة».

معين بسيسو شاعر متمرد مرَ بزماننا وترك علامات تدلنا عليه قبل أن يداهمه الموت في غرفة في لندن عام 1984.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى