التربية العربيّة في عصر ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة مثلها مثل الحداثة، حالة أو مرحلة دخلت إليها البشرية في سعيها لتأسيس عالم جديد ذي شروط معرفيّة جديدة تختلف عمّا كان سائداً من قبل. ومثلما قامت الحداثة على نقد المراحل السابقة عليها، لتؤسِّس عالماً جديداً وفق قواعد العقلانيّة الفنّية التي بسطت قواعدها على شتّى مناحي الحياة، ومنها التربية، قامت ما بعد الحداثة بالمثل على نقد الحداثة، وتحطيم القواعد التي ارتكزت عليها. فباتت التربية في عصر ما بعد الحداثة مُطالَبة بأن تُعيد تعريف علاقاتها بالأشكال الحداثيّة للثقافة، والمعرفة.

ظهر مفهوم ما بعد الحداثة بشكل واضح في سبعينيّات القرن العشرين، في كتاب الفيلسوف الفرنسي فرنسوا ليوتار، ’’الوضع ما بعد الحداثي‘‘، وعنى بها التعدّدية الثقافية وتعدّد أنماط الحياة.

ويُرجِع كثير من الباحثين أصول هذا المذهب إلى الفيلسوف الألماني نيتشه الذي أنكر أن تكون هناك طريقة للوصول إلى الحقيقة أصلاً. فهو لا يشكّك بما لدينا من وسائل للمعرفة، بل ينكر أن يكون هناك إمكانية للوصول إلى حقائق الأمور أصلاً. وقد سار على خطى نيتشه، متأثّراً به، الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي يُعتبر من أعمق المفكّرين المعاصرين أثراً في الفكر ما بعد الحداثي، والذي نادى بموت الإنسان، متّخذاً موقفاً معادياً للحداثة، ساعياً إلى بناء منظور جديد للمجتمع والمعرفة والخطاب والسلطة والعلاقة بينها، ما جعله مصدراً أساسياً للفكر ما بعد الحداثي. فقد بحث فوكو العلاقة بين السلطة والحقيقة والمعرفة، وقال بأنّ المعرفة هي أثر من آثار السلطة وأنّها تتكوّن بتفاعل اللغة والسلطة والمعنى.

ويذكر باحثون كثر سببَيْن لظهور هذا التيار:

– السبب الأوّل تطوّر العلم؛ حيث يرى أنصار ما بعد الحداثة أنّ العلم محدود وأنّه تسبّب في شقاء البشرية وأن ’’العلمية‘‘ وظَّفت الإيديولوجيا لكي تسيطر الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى. فالعلم في سياق العقلانية التقنية الحداثية تؤثّر فيه حسابات السياسة، أي إرادة السلطة بالمفهوم النيتشوي. فهابرماس مثلاً ينفي وجود حياد أو صفاء علمي. وقاد فقدان الثقة بالعلم إلى ردّة فعل تجاه الفلسفة التي كانت قائمة عليه.

– السبب الثاني فقدان الثقة بقضيّة التقدّم؛ حيث مرّ الغرب في القرن العشرين بأزمات وحروب بيّنت بطلان ما كانت تبشّر به الحداثة من مستقبل زاهر وتقدّم موعود. وعلى النقيض من نظرة الحداثة المتفائلة بمستقبل البشرية، تنظر ما بعد الحداثة بكثير من التشاؤم إلى المستقبل الذي تسير إليه البشرية في ظل النظرة الحداثية، وذلك من منطلق أنّ الحداثة جرّت على البشرية ويلات أكثر ممّا أفادتها.

ما بعد الحداثة والتربية

على الرغم من النقد الكثير الذي وجّهته التيارات ما بعد الحداثية للحداثة في مجال التعليم، إلّا أنّها لم تطرح فلسفة تربوية شاملة إلى الآن. فأثر ما بعد الحداثة على التعليم كبير وإن كان غير واضح المعالم. فقد انتقدت ما بعد الحداثة مبالغة الحداثة في تقدير العقل وتمجيده. كما انتقدت التركيز على العلم والمواد العلمية والمنهج العلمي. وهذه النظرة إلى الحقيقة انعكست على النظر إلى المعرفة، فالمعرفة في المنظور الما بعد حداثي تُبنى في سياق ثقافي، ومهمّة التدريس النقدي Critical Pedagogy هي أن تجعل الطلّاب يتفحّصون القيم والفرضيات والإيديولوجيات والمصالح المنعكسة في المعرفة، ليقوموا بإنتاج المعرفة بدلاً من بقائهم مستقبلين غير ناقدين. وهذا يتمّ عبر ما يسمّيه الخبير البرازيلي في شؤون التربية والتعليم باولو فريري بتربية إثارة الأسئلة، مقابل ما أسماه تربية الإيداع Banking Education، التي تعتمد على ترحيل المعلومات.

وقد أثّرت النظرة ما بعد الحداثية على عناصر العملية التربوية كافة، وفي ما يلي أبرز ملامح المشهد التربوي في مرحلة ما بعد الحداثة:

1- بالنسبة إلى أهداف التربية: تتمثّل أهداف التربية في مجتمع ما بعد الحداثة، كما حدّدها ليوتار في كتابه ’’الوضع ما بعد الحداثي‘‘، في كون هدف التعليم – باعتباره منظومة فرعية في المنظومة المجتمعية- هو خلق المهارات التي لاغنى عنها لتلك المنظومة، وهذه المهارات على نوعين: مهارات النوع الأول، وتتمثّل في المهارات التي تستهدف بشكل نوعي التعامل مع المنافسة العالمية، وتتنوّع بحسب التخصّصات التي تستطيع الدولة أو المؤسّسات التعليمية الكبرى بيعها في السوق العالمية. أمّا مهارات النوع الثاني، فتتعلّق بالمهارات التي تلبّي احتياجات المجتمع نفسه، ولن يكون ذلك بربط التعليم بمثل عليا وغايات إنسانية، بل ستكون أهداف التعليم وظيفيّة نفعيّة عمليّة، من خلال السعي إلى إمداد النظام الاقتصادي بالقوى العاملة القادرة على القيام بأدوارها بشكل مقبول في مواقع العمل بالمؤسّسات.

2- المعلّم: ما بعد الحداثة ترى أنّ مهمّة المعلّم ليست – بل وليس من حقّه- أن يقوم بنقل الحقائق كما يراها هو إلى ذهن الطالب، بل إنّ مهمّته هي مساعدة الطالب على بناء حقائقه الخاصّة التي يشكّلها مجتمعه وثقافته.

3- الطالب: ما بعد الحداثة تؤكّد أنّ الطالب يجب أن يتعلّم ألّا يعتمد على الموضوعية التي تزعمها الحداثة. وقد كان لما بعد الحداثة أثرها على طبيعة العلاقة بين الطالب والمعلّم. فلم يعد يُنظَر إلى المعلّم على أنه الخبير الذي يزوّد الطالب بالمعلومات، وبات ثمّة تركيز على التفاعل الفردي بين الطالب والمعلّم والاستكشاف المشترك.

4- المنهج: ثمّة ابتعاد عن النظرة الحداثية إلى المنهج، يتمثّل في الانتقال من المنحى التراكمي في تقديم المحتوى إلى المنهج التحويلي، الذي يسعى إلى إحداث تحويل في فهم الطالب لما حوله، ومن ثمّ فهمه لنفسه. ولا يحتوي المنهج على حقائق يُراد نقلها إلى الطالب، بل على ما يثير اهتماماته وعلى التطبيقات العمليّة.

5- طُرق التدريس: التصوّر ما بعد الحداثي للتعلّم مبني على الاعتقاد بأنّ كلّ فرد يصنع المعنى من مصادر مختلفة، بدلاً من استقباله جاهزاً من خبير. ولذلك فهناك تركيز تام في طرق التدريس على الحوار والاستكشاف، مع التقليل من دور المعلّم بوصفه مصدراً للمعلومات؛ إذ إنّ ما بعد الحداثة تنتهج أسلوب الاستكشاف لا لاكتشاف الحقيقة بل كجواب مؤقّت إلى حين اكتشاف غيره.

6- نظرية التعلّم: تتّسق الرؤى ما بعد الحداثية للتعلّم مع النظرة البنائية التي ترى أن المتعلّم يبني المعرفة في ذهنه. وتبنّت ما بعد الحداثة – بشيء من التطرّف أحياناً- النظرة البنائية الاجتماعية للتعلّم social constructivism)) التي تقول إنّ الطالب يقوم ببناء المعرفة داخل ذهنه، وإنّ هذا البناء يتمّ في سياق اجتماعي ليس له صفة الإطلاق.

وعلى الرغم من تبنّي ما بعد الحداثة النظرية البنائية الاجتماعية والتأكيد على جانبها الفلسفي، فإنّ بعض الباحثين يؤكّد على أنّ هذه النظرية إنما هي نظرية تعلّم وليست نظرية في التدريس، ما قاد إلى اختلاف كبير – وربما سوء فهم – في تطبيقات تلك النظرية في الصفّ الدراسي.

في ضوء ما تمّ عرضه من أفكار عن حركة ما بعد الحداثة وفكرها، يتّضح لنا الآتي:

1- أنّ ما بعد الحداثة هي اتّجاه فكري، نشأ في الأصل، وفي كثير من جوانبه، كردة فعل على ’’الحداثة‘‘، وأنّه يضمّ خليطاً من التيّارات، يجمعها رفض الأسس التي قامت عليها الحداثة أو على الأقلّ التشكيك بها.

2- أنّ حركة ما بعد الحداثة قد لا تعنينا كثيراً في الوطن العربي على اعتبار أنّنا لم ننخرط بعد في عمق الحداثة.

3- أنّ فكر ما بعد الحداثة، الذي يتمّ الترويج له اليوم في الساحة العربية، لا يمثّل اتجاهاً فكرياً رصيناً ومنسجماً، ولا يخرج في غالب الأحيان عن ترجمة مقولات واصطلاحات ونظريات مُتداوَلة منذ عقود في الثقافة الغربية السائدة، وخصوصاً الفرنسية منها، واستنساخها.

4- الانبهار اللامعقول للعقل العربي بالثقافة والحضارة الغربيّتين، والترديد الببّغائي لبعض الأفكار والفلسفات التي تختلف، بل وتتعارض مع ثوابث ثقافتنا العربية والإسلامية. وقد يصل الأمر أحياناً إلى نبذ الهويّة القومية، والمطالبة بإصلاحات سياسية تناسب المشروعات الشرق أوسطية المشتركة، وتهميش القيم الخلقية والسلوكية وغيرها، وهو طرح كثير من الليبراليين الجدد.

5- لم تقدّم حركة ما بعد الحداثة فلسفة واضحة ومترابطة عن التربية، وإنما هي أفكار متناثرة لا يوجد بينها وحدة عضوية تتّسق فيها نظرتها إلى الأهداف التربوية مع نظرتها إلى الطبيعة الإنسانية، ومع تصوّراتها عن طرق تعليم التدريس والممارسات التعليمية.

6- أنّ كثيراً من الأفكار التي طرحها مفكّرو تيّار ما بعد الحداثة عن التربية والمعلّم ليست جديدة، بل هي أفكار تمّ طرحها مسبقاً من خلال بعض الفلاسفة والمربّين في عصور سابقة، وإن كان عرض هذه الأفكار قد تمّ بصورة متناثرة.

*مدرّس أصول التربية
كلّية التربية – جامعة الإسكندرية

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى