الحرب العالمية الأولى في ذكراها المئوية: لماذا غاب عنها الروائيون العرب؟

 

تحتفل الدول الأوروبية على اختلاف هوياتها، والدولة التركية، بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى التي اندلعت في عام 1914 وانتهت في 1918 بعدما عاثت خراباً عالمياً لم ينج منه العالم العربي. في أوروبا صدرت في المناسبة كتب كثيرة تتناول هذه الحرب الرهيبة التي حصدت ملايين الضحايا، وفي فرنسا وحدها تخطت الكتب الصادرة الخمسمئة، وهي متنوعة الحقول والمناهج، سياسياً وتاريخياً وسوسيولوجياً وانتروبولوجياً، عطفاً على الكتب الأدبية والروايات التي دارت حول هذه الحرب. في الذكرى المئوية هذه تنشر «الحياة» هذا الملف حول العلاقة بين الرواية العربية والحرب العالمية الأولى.

نبيل سليمان

تزامنت الحرب العالمية الأولى مع الولادة الطويلة للرواية العربية، والتي ترامت ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. ولعل ذلك وحده يفسر ندرة الأصداء الروائية العربية لتلك الحرب، كما أن تنائي الزمن عن تلك الحرب، والحرب العالمية الثانية وما أعقبها، يفسر استمرار ندرة الأصداء وخفوتها.
أما الصدى الأول والأكبر فجاء في الرواية القصيرة (النوفيللا) «أنا الغريق» التي كتبها المصري أحمد ضيف (1880 – 1945) ونشرها في مجلة الثقافة القاهرية عام 1935، ولم تظهر في كتاب إلا على يد سامي أحمد سليمان عام 2008. وقد بين سليمان أن أحمد ضيف حمل الدكتوراه في الأدب العربي من السوربون، وكتب بالاشتراك مع الفرنسي ف. ج بونجان، وبالفرنسية، روايتين.
تبدأ «أنا الغريق» بصورة «مدينة النور المشرقة: باريس الزاهية» في واحدة من ليالي الحرب في كانون الأول (ديسمبر) 1917، حيث يمضي الراوي – الذي يدل بقوة على سيرة الكاتب – وصديقه جميل إلى بيت صديقهما سيمون وزوجته مارسيل. وفي البيت كما في سائر أمكنة الرواية وأحداثها سيحضر بامتياز الحوار المسرحي الرشيق والدقيق، ليجلو دخائل الشخصيات. وأول ذلك هو شكوى سيمون من أهوال الحرب طوال ثلاث سنين مضت.
في العودة من بيت سيمون تحضر الحرب بغارة الطائرات الألمانية على باريس، فيلجأ الراوي إلى الملجأ، حيث يفكر كل بنفسه، والمشهد كأنه من يوم الحشر، ما جعل الراوي يمضي إلى قوس النصر أملاً بملجأ أفضل، حيث يخيل له أن باريس قد غشيتها غاشية من بؤس وتعاسة وقلق، وارتياب في الظفر، وخوف من غلبة الأعداء، ما أفضى إلى اليأس والدعوة إلى طلب السلم بأي ثمن. تتوافر لهذه الرواية المجهولة سمات فنية بديعة جمة، من ثراء الشخصية النكرة – وما أكثرها – وهو ما حوّلها إلى شخصية أساسية، إلى ما ذكرت عن الحوار، إلى مشهديات الحرب، وعدا عما يعزز ريادة هذه الرواية، مما يتعلق بوعي الذات والآخر الفرنسي.
ومن الصدى الروائي المصري للحرب العالمية الأولى ينبغي الرجوع إلى ثلاثية نجيب محفوظ في جزئها الأول (بين القصرين – 1956)، حيث رهان فهمي الطالب الجامعي على انتصار الألمان، كي تسترد الخلافة عزتها. وإذا كان ياسين يائساً، ففهمي يرى هجوم هندنبرغ فيصلاً في الحرب. وبينما يتشكك ياسين في أن يكون الألمان كالإنكليز، لا يهم فهمي إلا أن ينتهي الكابوس الإنكليزي. أما خديجة فتسأل أخويها عن حبهما للألمان الذين يرسلون مناطيد (زبلن) لتلقي القنابل على مصر. وقد جاء من صدى الحرب في مونولوغ لياسين وهو يصبو إلى زبيدة العالمة، قوله «فردة ثدي من صدرك تكفي لخراب مالطة». وسيرى فهمي في عرس خديجة (بركة) طال انتظار الأرض لها، وهي نهاية الحرب. لكن فهمي بائس، إذ هزم الألمان، بينما أعلن الإنكليز الحماية، واعتقلوا سعد زغلول ورفاقه ونفوهم إلى مالطة، فاندلعت التظاهرات، واختتم استشهاد فهمي الرواية.

الثورة العربية الكبرى

في الأردن تركّز صدى الحرب في ما يتعلق بما عرف بالثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين، ووصلت بابنه فيصل في ركاب الإنكليز إلى دمشق، بينما كان الأتراك يختتمون الحرب بهزيمتهم كالألمان. وقد شغل ذلك زياد قاسم (1945 – 2007) في سداسية «الزوبعة» التي بدأت بالصدور عام 1996، وغطى الجزءان الأول والثاني الحرب العالمية الأولى من لبنان (معركة ضهور الشوير) إلى حرق الناصرة إلى… كما شغلت الحرب رواية «سفر برلك ودروب الفقر» (2010) لسليمان القوابعة، وجاء الاشتغال في مفصل أكبر من مفاصل الحرب، هو سنوات الجوع والسَّوق العثماني رجالاً إلى الحرب، ما عرف بـ «السفر برلك»، وصولاً إلى ثورة الشريف حسين. ومن الأردن أيضاً شغلت الحرب سميحة خريس في روايتها «شجرة الفهود – تقاسيم الحياة» (1995) والتي أثبتت على المفاصل التاريخية بالبرقيات الإخبارية. وقد عادت الكاتبة إلى الأمر نفسه في روايتها «القرمية» (2000). وعلى هذا النحو جاءت الإلماعات إلى الحرب العالمية الأولى في روايات العراقي عبدالخالق الركابي (الراووق – سابع أيام الخلق)، وأخيراً في رواية واسيني الأعرج «رماد الشرق» بحيث تنبش سنوات الحرب التي تلامعت فيها أسماء الأمير الفيصل وجمال باشا ولورنس والجنرال اللنبي كما تلامعت المشانق في بيروت ودمشق.
أما في سورية، فكان للحرب العالمية الأولى الصدى الروائي الأكبر عربياً. وآية ذلك الأولى هي رواية «العصاة» (1964) لصدقي إسماعيل (1924 – 1974) التي جعلها رهاناً على التوليد السردي من حكاية إلى حكاية، تلتبس بالقصص الشتيتة. وتتركز ريادة «العصاة» في الحفر الروائي في التاريخ، حيث عادت إلى زمن العثمانيين، ومنه سنوات الحرب العالمية الأولى، وما عاشته مدينة حلب وريفها خصوصاً.
إثر «العصاة» جاءت رواية «لن تسقط المدينة» (1969) لفارس زرزور (1929 – 2003)، ويتولى البطولة فيها شفيق الصافي الذي درس الصيدلة في الآستانة، وشارك هناك في الجمعيات السرية المناوئة للدولة، ثم هرب إلى باريس، وتابع فيها نشاطه إلى أن اندلعت الحرب، فعاد إلى بيروت فالشام. وبمقدار ما تركز الرواية على بطلها تركز أيضاً على الناس، فيما صورت خطوط المقاتلين المشوهين الممتدة من قناة السويس إلى جبال طوروس.
يتعزز الحفر الروائي في التاريخ عبر مفصل الحرب العالمية الأولى في رواية خيري الذهبي «ملكوت البسطاء» (1974) التي توزعت سرديتها على شخصياتها الرئيسية الأربع، وتولت إحداها (يونس) أمر الحرب التي عاشها عند قناة السويس. أما رواية «الوباء» (1981) لهاني الراهب (1939 – 2000) فقد عبرت بزمن الحرب وهي تؤصّل لبطلتيها أسرتي السنديان والعز. وإذا كان ما عرف بـ «السفر برلك» عنون الحرب العالمية الأولى في بلاد الشام، فقد عنون القسم الأخير من رواية (الوباء) والذي بلغ زمنياً السبعينات السورية من القرن العشرين، ولا تخفى الدلالة الكارثية في عطف هذه النهاية على تلك البداية. وتفردت رواية «مفترق المطر» ليوسف المحمود الذي رحل للتو عن ثمانين عاماً، بالمضيّ في زمن الحرب من ريف صافيتا إلى عرسال اللبنانية.
يحدث الأب في الرواية أبناءه عن سليم الزبطي الذي كان في الحرب العالمية الأولى «يكبس» الضيعة ليل نهار، ويغرّم من يقع في براثنه ليرة عثمانية. وقد أغضبه الأب الذي ساومه على تخفيض الغرامة فساقه إلى بعلبك. ويتحدث الأب عن ثورة قاسم ملحم، حين أفاقت بعلبك على ثلاثين رجلاً من عرسال يتأرجحون بحبال المشانق، مقابل ثلاثين خيالاً كانوا قد قتلوا في تلك القرية، من بين ستين خيالاً أرسلتها السلطات التركية فلم يعد منهم إلا ثلاثون، يركب أحدهم حصانه ويجر حصان رفيقه المقتول. ومما ترسم رواية «مفترق المطر» من أهوال الحرب، فيما يروي الأب، أنه لبث سنتين يعاني الجوع وعضّ القمل، على رغم جلد النفر أمام الطابور ست جلدات على القملة الواحدة إذا ضبطت في ثيابه المهترئة، وللمرة الأولى. أما في المرة الثانية فالعقوبة هي اثنتا عشرة جلدة. وفي هاتين السنتين تقلّب الأب في مناصب عدة، من نفر يصادر البغال والخيل والحمير لنقل الحطب وقوداً إلى القطار، إلى مراقب على عليق الخيل والبغال، كيلا يسرقه العسكر من العليقة…
يقدم نهاد سيريس عن الحرب روايته «رياح الشمال» بجزءيها «سوق الصغير» (1989) و «1917» الذي صدر عام 1995. وفي الجزءين يتوسل الكاتب الوثيقة، وينهج بخاصة النهج المحفوظي في حفريته الروائية، ويترامى الفضاء الروائي بين جبهة سالونيك وجبهة كوت العمارة، لكنه يتركز في حلب. ويصطخب في هذا الفضاء التآمر والجاسوسية والتجويع والتجنيد والجنس والعهر والعشق والخنادق والبطولة والخيانة والإعدام ومدحت باشا وجمال باشا والجنرالات وشيوخ العشائر… وتضيء الرواية من العتمات: مجازر الأمن، والبذور البلشفية في حلب. وبمثل هذه الغزارة تأتي رواية «أعدائي» لممدوح عدوان (1941 – 2004) وإن تكن لعبة الجاسوسية قد زادتها تشويقاً. كما تركز الفضاء الروائي في القدس، بعد بيروت ودمشق، وشُغِلت الروايةُ بالبدايات الصهيونية في فلسطين.
ويحضر «السفر برلك» بقوة في بعض المدونة الروائية السورية، تحضر المجازر الأرمنية أيضاً، في روايات سيريس وإبراهيم الخليل وعبدالكريم ناصيف، وفي الجزء الأول (الأشرعة – 1990) من رباعية «مدارات الشرق» لكاتب هذه السطور، وقد كان للحرب العالمية الأولى صداها المدويّ في ذلك الجزء.

عبده وازن

تكاد تكون رواية «الرغيف» التي اصدرها الروائي اللبناني الرائد توفيق يوسف عواد عام 1939 هي الرواية العربية اليتيمة التي دارت أحداثها كلها حول الحرب العالمية الاولى التي انطلقت شرارتها عام 1914. الحرب هذه، تشكل فضاء الرواية ومحور أحداثها ومرجع أبطالها أو شخصياتها. وفيها تحضر الحرب بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، اللبنانية والعربية، عطفاً على خلفيتها الدولية بصفتها حرباً عالمية. كان عواد سباقاً فعلاً في استعادته هذه الحرب روائياً بعدما شغلت هموم الشعراء النهضويين وشعراء المهجر، وهم كتبوا فيها قصائد ذات بعدين، بعد مأسوي وآخر بطولي، لا سيما بعدما اندحرت جيوش الدولة العثمانية التي سيطرت على العالم العربي أكثر من اربعة قرون، كانت الأشد ظلاماً في التاريخ العربي. كتب شعراء النهضة وأدباؤها قصائد ونصوصاً عن المآسي التي شهدها العالم العربي خلال اعوام الحرب، بؤساً وجوعاً ونزوحاً، ولما سقطت الهيمنة العثمانية راح الشعراء يمتدحون الثورة العربية الكبرى وأبطالها. غير ان ما كُتب، من نثر وشعر، كان سليل اللحظة التاريخية ورد فعل، عميق في احيان، إزاء الحرب ونهايتها التي خلعت النير العثماني الذي كان ثقيلاً على الشعب العربي.
لكنّ اللافت ان هذه الحرب في ما رافقها من مآسٍ وويلات، ومنها على سبيل المثل المجاعة الرهيبة التي ضربت أجزاء من الخريطة العربية ولا سيما لبنان، وكذلك ما عرف بـ «سفر برلك» او التجنيد التركي الالزامي للشباب العرب وإرسالهم الى الجبهات، لم تثر كثيراً فضول الروائيين العرب، رواداً ومحدثين. وإذا كانت الرواية العربية تعيش حينذاك بداياتها «المتعثرة»، الادبية أو الانشائية والرمزية والاخلاقية او «الاتيكية»، والتي أثارت لاحقاً سجالاً نقدياً حول «الاسبقية» الروائية، فإن الرواية الجديدة التي اسست الحركة الروائية الحقيقية الاولى لم تولِ هذه الحرب الاهتمام الذي تستحقه، في كونها الحرب الاولى التي تحمل الصفة العالمية، والتي رسخت مفاهيم جديدة للحرب وأبعاداً سياسية وجيو- سياسية وعسكرية لم تعرفها الحروب سابقاً، ناهيك عن الأثر العميق الذي تركته هذه الحرب في الخريطة العربية، بل في الوجود العربي، لا سيما عبر «اتفاق سايكس – بيكو»(1916) و «وعد بلفور» (1917)، وهي كانت بمثابة تمهيد للاستعمار الغربي الحديث ولنشوء اسرائيل على الارض الفلسطينية المغتصبة بعد حرب تعدّ واحدة من ابشع جرائم العصر. إلا ان الحرب الاولى لم تغب تمام الغياب عن الرواية العربية المعاصرة، فهي حضرت من خلال بعض الأحداث والوقائع والأخبار في روايات عدة. اما رواية «الرغيف» لتوفيق يوسف عواد فهي تعد بحق رواية الحرب العالمية الاولى، بل اول رواية لهذه الحرب، على رغم الهنّات السردية التي تعتريها لكونها عملاً روائياً اول في مسار الكاتب الذي يعد من رواد القصة القصيرة.
عندما صدرت رواية «الرغيف» عام 1939 تمّ الترحاب بها وعرفت نجاحاً في الوسط الادبي لبنانياً وعربياً، وكتب عنها كبار الادباء آنذاك، وقالت الاديبة مي زيادة المقيمة في القاهرة: «لم يؤرخ احد المأساة الغبراء التي عرفتها بلادي كما أرّخها توفيق يوسف عواد في «الرغيف». إن توفيق قد عاشها عنا جميعاً». ووجد المستشرقون فيها الانموذج الروائي العربي الاول ووصفها جاك بيرك بـ «الرواية الرائدة». غير ان قيمة هذه الرواية إنما تكمن في تاريخيتها كعمل روائي رائد اولاً، ثم في تناولها الحرب الاولى في بعديها اللبناني والعربي. فالروائي نفسه تخطاها لاحقاً في روايته الشهيرة «طواحين بيروت» والجاً زمن الحداثة الروائية، وكذلك الرعيل الحداثي الاول من الروائيين الجدد. وإن كانت الرواية تنطلق من لبنان بل من جبل لبنان تحديداً، فهي لم تلبث ان شملت الثورة العربية الكبرى التي اعلنها الشريف حسين ضد الظلم العثماني، وقد التحق بعض أبطال الرواية بهذه الحرب في الصحراء والعقبة والطفيلة والمزريب واستشهدوا هناك، ومنهم البطل سامي عاصم، الشاعر الثائر الذي يؤدي دوراً رئيساً في الرواية. وقد وُفّق عواد في تسمية روايته بـ «الرغيف»، فهي رواية المجاعة والذل الناجم عن الجوع، ورواية الانتفاضة ضد المحتكرين الذين وضعوا يدهم على القمح والطحين طمعاً بالربح والثروة، بينما عامة الناس يتضورون ويتشردون بحثاً عن لقمة ويموتون على الطرق وفي الحقول، وقد انتفخت بطونهم. وبلغت المهانة ببعضهم حدّ انهم راحوا يبحثون عن بقايا الشعير في روث البقر.
جعل الكاتب من مطعم وردة كسار، وهو حانة ومقهى في آن واحد، منطلقاً لحبك العلاقات بين الشخصيات المتعددة، الموزعة بين الانتماء الوطني المقاوم للاحتلال العثماني، وبين التعامل مع العدو المحتل، علاوة على الضباط والجنود الأتراك الذين كانوا يؤمّون الحانة للمنادمة والشرب والأكل والوقوع على امرأة او فتاة تشبع غرائزهم. في هذه الحانة تُحاك الوقائع ويُخطط لها، ومن حولها تجري الاحداث. اما وردة كسار فكانت تميل الى الجنود الاتراك وتعمل معهم ولو من بعيد، وكانت معجبة براسم بك، الضابط التركي، وتسعى دوماً الى ارضائه وإشباع نزواته ولكن ليس بجسدها هي بل عبر الأخريات ومنهنّ ابنة زوجها، الشابة الجميلة زينة، التي تكرهها وتضطهدها انتقاماً لماضيها. لكن زينة كانت تعرف كيف تتحاشى الوقوع في اسر الضابط، فهي تحب الشاعر الثائر سامي وتُخلص له وتجلب له الطعام في مخبأه الذي لجأ اليه هرباً من العسكر التركي وعملائه اللبنانيين. وعندما يقع في الاسر ويُقاد الى سجن «الديوان العرفي» في مدينة عاليه تزوره في السجن، قبل ان يفر منه مع احد الحراس اللبنانيين، ليلتحقا في صفوف الثوار العرب. لكن زينة تنخرط ايضاً في الثورة وتعمد الى قتل الضابط التركي في بيته بعدما أغرته وأسكرته.
لا تخلو رواية «الرغيف» من الاحداث والوقائع، بل هي تسلك خطاً تصاعدياً تتواتر عبره قصص الحرب والثورة والجوع والقتل، وكذلك أخبار المواجهات والمعارك التي يمعن الكاتب في وصف بعضها وبخاصة المعركتين اللتين يستشهد فيهما الثائر سامي ورفيقه. ولا يغيب الوصف عن الرواية بتاتاً ولو على حساب البناء والعلاقات والتقطيع السردي، فالكاتب يصف ببراعة (إنشائية) مشاهد الجوع والثورة على الإقطاع والمعارك وسواها. ويعتمد عواد لغة تميل الى البلاغة الكلاسيكية سواء عبر حبك الجمل المتينة أم عبر صوغ التراكيب الكلاسيكية او اختيار المفردات شبه المعجمية والاشتقاقات الفريدة. ولعل هذه النزعة «الفصاحية» تؤكد انتماء صنيعه الروائي الى الادب، على رغم اعتنائه (الطفيف) بما يُسمى تقنية وبناء.
ولئن كانت «الرغيف» هي رواية الحرب ضد الاحتلال التركي الذي يتمكن المناضلون من دحره بعد هزيمة المانيا، فالطابع المأسوي يكاد يهيمن على جوّها وعلى مصائر شخصياتها، وهذه ميزة تخدم الرواية وتسبغ عليها المزيد من الواقعية الدرامية. سامي عاصم ورفاقه يستشهدون، وردة كسار تجنّ بعد قتل زينة الضابط التركي راسم بك، وتُسجن ثم تتشرد مع ابنها الوحيد جائعة، الى ان تسقط ميتة وهي تعض فخذ رجل ميت، العائلة تتشرد… اما زينة فتقف مذهولة وحزينة وسط جموع الناس يحتفلون بالنصر ويهتفون.
قبل استشهاده، بدا سامي على مقدار من الحماسة الوطنية، وقد لمس ان القومية العربية كانت تولد في تلك اللحظة المجيدة، في قلب ساحات الوغى والشرف، فراح يقول لرفيقه شفيق في ما يشبه الخطبة الوطنية: «اليوم ولدت القومية العربية الصحيحة. إنّ امها هي هذه الثورة التي امشي فيها انا المسيحي العربي الى جنبكم انتم المسلمين العرب، لنحارب عدواً مشتركاً لبلادنا هو التركي».

الياس خوري

باستثناء «رغيف» توفيق يوسف عواد، وشذرات من هنا وهناك، من بينها فيلم «سفر برلك»، للأخوين رحباني وفيروز، فإن الحرب العالمية الأولى، على رغم هول المجاعة التي رافقها، بقيت خارج المدونة الروائية العربية. لكن هذا ليس استثناء، فحرب لبنان الطائفية 1840-1860، بقيت ايضاً من دون تسجيل، أما وقائع النكبة الفلسطينية فلم يبدأ دخولها الى العالم الروائي إلا في شكل متأخر.
تاريخ حافل بالمآسي بقي خارج التجربة الأدبية، جرى تحويره في لغة شعرية أو وعظية، كي يتم محوه من الذاكرة، أو جرى إهماله نظراً لصعوبة الاقتراب منه.
وعلى رغم ان جرجي زيدان نجح في تأسيس فن الرواية التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر، فإن الرواية التاريخية لم تستطع الاقتراب من اللحظات المفصلية في تاريخ العرب الحديث إلا بشكل نادر.
المسألة تكمن في رأيي في الوعي القومي للتاريخ الذي ساد في مرحلة الحداثة. فالرواية التاريخية ليست تاريخاً انها محاولة لاكتناه معنى التاريخ، وحين لا تتناسب الوقائع مع المعنى، فإن الكتابة تصبح مستحيلة.
الحرب العالمية الأولى في الوعي التاريخي السائد هي لحظة «يقظة العرب»، بحسب جورج انطونيوس، أي هي لحظة الثورة العربية الكبرى بقيادة شريف مكة ولورانس العرب. مآل الثورة كان كارثياً، اذ لم تقد فقط الى هرب فيصل الأول من مملكته السورية بعد الاجتياح الفرنسي، لكن ملك سورية تحوّل الى ملك للعراق، تاركاً مملكته لتمزق التقاسم الفرنسي – البريطاني، وجنوبها الفلسطيني للغزوة الصهيونية.
كتابة «اليقظة» كهزيمة ليست ممكنة، أما الاعتراف بالهزيمة فمسألة ستبقى مؤجلة.
أما حرب 1840-1860 الوحشية التي اشتعلت في جبل لبنان وامتدت الى دمشق، فإنها لم تعثر حتى الآن على منطقها القومي، فبقيت في الذاكرة بوصفها عملاً وحشياً يجب الخجل منه، قامت به «قبائل لبنان الهمجية»، بحسب كارل ماركس.
ولم تبدأ الكتابة في التخلص من وهم المعنى المسبق، إلا مع انهيار الفكر القومي، بعيد هزيمة حزيران 1967، وما تبعه من انهيارات مستمرة كانت الحرب اللبنانية إحدى ذراها.
من هنا نستطيع ان نؤرخ لوعي تاريخي جديد، بدأ مع الهزيمة من خلال الاقتراب من التاريخ المملوكي أو من الأشكال السردية الكلاسيكية، أو من وقائع الحياة اليومية، التي تسجل في رأيي بداية وعي تاريخي جديد دخل الى المدونة الروائية العربية، محدثا فيها انقلاباً جذرياً.
وإذا أردت ان اتحدث عن تجربتي الشخصية فأنا لا اكتب رواية تاريخية، «باب الشمس» هي رواية عن الحاضر، لأن النكبة مسار مستمر منذ 1948، أما في روايتي «مجمع الأسرار»، و»يالو»، فإن وعي التفكك سمح لي بالاطلالة على الحرب العالمية الأولى او على الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر. وكانت الاطلالة خالية من وهم الغائية، لأنها جاءت من قلب التمزق الذي فرضه زعماء التاريخ، وبحثاً عن معان جديدة تنطلق من التجربة الانسانية وليس من اسقاطات ايديولوجية كانت سبب هذا البكم الأدبي الطويل.

إبراهيم الكوني

إذا كانت الحروب للمجتمع الإنساني آفةً، فإنّها للتاريخ قُوْتٌ. من هنا الفتنة التي تستهوي ملّتنا كروائيّين. فمعاندة الآفات إذا كانت لنا حرفةً ، فإنّ ما يُطعم التاريخ قُوْتاً هو لنا بمثابة الحافز. والبرهان هو «الإلياذة» كأوّل متن مرجعيّ في تاريخ الآداب. ويجب أن نعترف أن حضور الروح الملحميّة في الأدب إنّما يرجع الفضل فيه للحرب، لا على المستوى الحرفي المبثوث في اللغة وحسب، ولكن على المستوى المجازي الذي يستنهض الجموع ليختزل الحمق البشري مترجماً في مفهوم لا يخلو من إغواء وهو: القيّامة!
فكلُّ حربٍ هي قيّامة. فإذا صارت حرباً عالميّةً، فهي حتماً قيّامة عالمية تعادل القيّامة الغيبيّة التي تفتننا دائماً، لأنّها تكشف لنا عورة وجودنا الهشّ: وجودٌ مهدّدٌ دوماً رغم أوهامنا في وجودٍ خالدٍ وزوالٍ بعيد الاحتمال. فرغم ويلات الحرب، رغم شبح الموت الذي ينتظرنا بنشوب الحرب، بيد أن الحرب تغوينا. وما يغوينا هو ما يستثير فضولنا لكي نحيا دون اعتبار للنقيض الذي يخفيه ما يغوينا؛ ربّما لأن حياتنا ليست سوى حرب. حرب حقيقيّة قد لا تنزف فيها أجسادنا الدّماء، ولكنّنا ننزف فيها ما هو أعظم شأناً من الدمّ وهو: الروح! لأن النزال الذي تُسفَك فيه الدماء يبدو هيّناً إذا قيس بالعناء في حياتنا اليومية الذي ننزف فيه روحاً.
والدليل أن الجراح النفسية في تجربة أي حرب تبدو في رؤية الروائي أعظم شأناً بما لا يقاس بالمقارنة بجراح الجسد. فأن يقتل الإنسان أخاه الإنسان في مواجهة حربية ليس موضوعاً يمكن أن يستهوي الروائي ليحفّزه إنجاز العمل التراجيدي، ولكن أن يقتل الأخ أخاه في تجربة دموية كما يحدث عادةً في الحروب الأهليّة فهنا يوجد كنز. هنا النواة لإنجاز «عمل خالد». أقول عمل خالد لا لأنّه استعادة (أو استعارة) للأمثولة الدينية المترجمة في سيرة قابيل وهابيل وحسب، ولكن للتعبير شعرياً عن ورم عميق الحضور في النفس البشرية كالحسد الذي أودع المقابر أكثر مما أودعها الطاعون سواء في هويّته السالفة أو في صورته الحاضرة. إنه نموذج الجلاّد في علاقته الأزلية بالضحية الذي أنتج أعظم الأعمال الروائية في تاريخ الأدب العالمي لا من خلال الحروب الأهلية وحسب، ولكن من خلال الحروب إجمالاً. ويجب أن نلاحظ أنّ حظّ الحرب العالمية الأولى في الرواية لم يكن عاثراً على مستوى العالم العربي وحده، ولكن على مستوى الأدب العالمي أيضاً، في حين استأثرت الحروب الأهليّة بنصيب الأسد على مستوى العالم، ولم تكن ليبيا لتكون استثناءً، لا سيّما إذا علمنا تزامن هذه الحرب مع حرب استنزافٍ طويلة النَفَس إبّان الغزو الإيطالي لليبيا استمرّت من 1911 إلى تاريخ إعدام عمر المختار في بداية الثلاثينيّات. وهو ما لن يبرّئ مسؤوليّتنا كروائيين لأن تقاطع الحربين (العالمية في تزامنها مع الليبيّة) من شأنه أن يثري التجربة بما لا يقاس، لا سيّما إذا حكّمنا التاريخ الذي يحدّثنا في وثائقه المصوّرة كيف تطوّع بعض القادة الأتراك للقتال مع الليبيّين حتى بعد معاهدة سويسرا التي تنازلت تركيا بموجبها عن ليبيا لمصلحة إيطاليا في 1912 أمثال مصطفى كمال أتاتورك الذي عمل تحت إمرة أنور بك في معسكرات المجاهدين الليبيين المرابطين على درنة قبل أن يحلم هذا الإنسان بأن يكون الأب الروحي لتركيا الحديثة.
وقاتل عزيز المصري مع معسكرات المجاهدين المرابطين على مشارف الكويفية ببنغازي لينقلب تالياً على الأتراك ليقود التمرّد ضدّ تركيا في الحجاز كما يحدّثنا لورانس العرب في «أعمدة الحكمة السبعة». بلى! الحرب الأولى وما رافقها من حروب أخرى محلية جديرة بروايات لا رواية واحدة لو كنّا نعيش أعماراً لا عمراً واحداً.

بهاء طاهر

على رغم أن الدول العربية لم تعانِ في الحرب العالمية الأولى ويلات الحروب في الخنادق مثلما عانت أوروبا، إلا أن تلك الفترة التي تزامنت مع وضع مشروع سايكس – بيكو، الذي عمل على تقسيم العالم العربي وتوزيعه ما بين إنكلترا وفرنسا، بحيث يكون هناك نطاقان أحدهما تحت سيطرة النفوذ البريطاني متمثلاً في مصر والعراق وشرق الأردن وفلسطين.
والآخر تحت سيطرة النفوذ الفرنسي، ويضم سورية ولبنان والمغرب. إضافة إلى وعد بلفور الذي يدعو إلى إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين، ومن هنا كانت هذه الحرب أكبر كارثة عرفها العالم العربي، ومازلنا ندفع ثمنها حتى يومنا هذا.
ومع أن الحرب العالمية الأولى، التي راح ضحيتها عشرات ومئات الألوف، لم تجرِ على ساحات العالم العربي، لكنّ ضحايا هذه الحرب وما بعدها من العرب كانوا أكثر عدداً بكثير، إذا وضعنا في الاعتبار نكبة اللاجئين
من هذه الناحية، أعتقد أنه رغم أنّ هذه الحرب لم يُكتب عــــنها في الأدب العربي، أو على الأقل لم يكتب عنها عـــمل كبير مثل «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» لأريك ماريا ريمارك (1929)، فإن ما كتب عمّا قاساه العالم الـــعربي، لاسيما في ما يتعلق بنكبة فلسطين وما تلاهـــا من نكبات، وصولاً إلى النكبة السورية الأخيرة، يعتبر من نتائج هذه الحرب على منطقتنا العربية.
أعمال أدبية كثيرة تناولت المحن العربية المترتبة على وعد بلفور، وعلى تقسيم الدول العربية إلى أجزاء متناحرة. وتعتبر هذه الأعمال نتيجة مباشرة لما حدث في منطقتنا جرّاء الحرب العالمية الأولى.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى